في ضوء المعطيات الديموغرافية.. الحرب غير المنتهية وصراع الأصوليات في لبنان
د.منى فياض
في هذه المرحلة التي نعيشها، والتي تشكل نوعاً من هدنة كما يبدو، مقارنة بما كان يحصل في بدايات الحرب الأهلية، نجد انفسنا نعيش الأحداث بما يشبه التذكر، أو كما يقال في علم النفس (du déjà vue).. فعلى الرغم من الطمأنات ومحاولات التلطيف من حجم ونتائج الحوادث الأمنية الأخيرة، والتي جاء اتفاق الدوحة ليعلن وقفها؛ لاتزال تطفو الحوادث الأمنية المستمرة على السطح وتشغل وسائل الإعلام.. ويبدو أن
ما يحصل على الارض يفوق كثيراً ما يتم ذكره، وأن الاستنفار المذهبي والسياسي والأمني مستمر والحوادث المتفرقة مستمرة والخوف والحذر معممان.. ولقد سبق أن توقع اللبنانيون في أحد الإحصاءات أخيراً حصول العنف بنسبة 48،25% ونسبة 16،63% توقعت حصول حرب.. ذلك يعني أن
ما يزيد عن ثلثي اللبنانيين كانوا يتوقعون العنف، وتوقع العنف هو نوع من انتظار له ويمكن ان يكون تقبلاً وتمهيداً ايضا.
تأصيل العقد
وما يساعد على تفسير ما يحصل أن أحد الإحصاءات التي تجريها LOAC تشير الى ان نسبة 15% من الشباب يعتبرون ان اللجوء الى العنف، هو أحد الوسائل الديموقراطية !! وتدل هذه المؤشرات على وجود الخوف المتبادل بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني، فالمسيحي يعاني من مشاعر الغبن، أو «عقدة الذميّة» كما يسميها البعض، والشيعي يعاني عقدة الحرمان المتحولة الى أسطورة، وجرى استغلالها الى أن بدأت تنقلب الى عقدة تفوق وقوة. والسنّي يعاني الآن القهر والغضب. ونجد هنا اختلاط العوامل الطائفية بالعوامل الطبقية، ما يزيد من فرص بروز العصبيات والغرائز ويعمم الخوف. ولابد أيضاً من الإشارة الى أن الخوف قد يعبر عن نفسه بالهجوم وليس بالانسحاب فقط. فعند حصول نزاعات ووجود طرف مبادر، أومهاجم، فذلك لا يعني انه لا يعاني الخوف. إنه الخوف الذي يداريه بالهجوم والاعتداد بالتفوق العددي، أو التفوق بالسلاح.
إن مصادر وأسباب تخوف اللبنانيين مما هو آتٍ كبيرة، اذا ما عاينّا كيفية تطور الأحداث، فكيف يكون عليه الأمر إذا ما التفتنا الى عامل كثيرا ما نغفله في تفسيرنا للأمور، وأعني العامل الديموغرافي.
لا بد أن للديموغرافيا ولتقسيم الأعمار الى فئات، الكثير من التأثير بما يجري حالياً في لبنان. لكن نشير في البداية الى تاريخنا القريب والبعيد، والزاخر بمحطات الصراع والعنف والتحارب، دون أن نغفل أننا لم نتجرأ على مواجهة هذا التاريخ في اي مرة من مرات الصراع التي حصلت بشكل متكرر، والتي يمكن أن نسميها بتروما نفسية متكررة ومتعددة الأوجه.. ففي كل مرة تطوى الصفحة على «زغل» كما يقال، ونسارع الى القول «عفا الله عما مضى»، ونهرع الى المصالحة السطحية والتي لا تزيد عن كونها «تبويس لحى» وإعادة تقاسم الجبنة. ونستعيد السيرة نفسها مرة بعد أخرى. ولهذا تأثيره السلبي على الأجيال الفتية التي لا نسمح لها بالتعلم من أخطاء الماضي، بل نتركها تتعلم من تجربتها مرة جديدة ايضا وايضا.
هرم الأعمار.. والحسم عن طريق العنف
لذا، وعلى الرغم من أننا نلاحظ وجود رفض للحرب عند الفئات التي عايشتها وعرفت معناها واختبرتها، لكن يبدو ان نبذ الحرب لا يطال الجميع، وبخاصة عندما نأخذ فئات الاعمار في لبنان بعين الاعتبار.. فهناك وجود القادة والمحاربين الجدد الذين لم يسبق لهم أن عاشوا تلك الحرب الأهلية كغيرهم. وعندما نعود الى الاحصاءات مرة أخرى، فهي تعلمنا الكثير الذي يمكن ان يفسر هذه الظاهرة، أي استسهال استعادة تجربة الحسم عن طريق العنف عبر التحارب والاقتتال.
يتوزع السكان في لبنان بحسب الدولية للمعلومات كالتالي: بلغ عدد السكان في العام 2006: 4.571.000 المقيمون فيه 3.8oo.ooo. ويتوزع السكان المسجلون كالتالي: 1.336.000 سنّة، 000 1.333شيعة، 37.00 علويون، 27.000 أقليات أخرى (ما مجموعه 2733000). والباقون 1.838.000 هم من مختلف الطوائف المسيحية.
واذا نظرنا عن قرب الى كيفية توزيع أعمار السكان، نجد أن متوسط نسبة من هم دون الأربعين عاماً للبنانيين ككل تبلغ 60،8%. أما نسبة من هم دون الأربعين من المسلمين فتبلغ 72.4% ونسبتهم27.6% للمسيحيين دون الأربعين أيضا. وهذا يعلمنا الكثير في ضوء الصراع الحالي الذي يتخذ هذه المرة وجهاً مذهبياً بين المسلمين.
اما من هم دون العشرين من المسلمين السنّة، فتبلغ نسبتهم 17،5% وعند الشيعة 17،67%. ما يعني ان نسبة 35،17% تقريبا من المنتمين الى الطائفتين المذكورتين واللتين يطالهما التنازع الآن، هم دون العشرينن ما يعني (رؤوس حامية) وممن يجهلون أيضاً معنى الحرب الأهلية ولم يعانوا من ويلاتها ولم يعرفوا عنها إلا عبر ما نقل إليهم بالتواتر، أو عبر التعبئة الإعلامية المنحازة. ومن هنا قابليتهم على الحماسة والانخراط في العنف لعدم تزويدهم بما يحصنهم، وبما يزيد من مناعتهم ضد العنف. فلقد «عفا الله عما مضى» حقاً، ولكنه لم يساعدنا بعد على فهمه ونقاشه ولم يزودنا بعد بما يمكننا من مواجهته. وتوقع الخطر يزداد عندما نعطف هذه المعلومات الديموغرافية على خصوصيات المواقف والاتجاهات التي تعبر عنها هذه الفئة، حينها سوف نكتشف الكثير حول المستقبل المشرق الذي ينتظر لبنان وحول امكانيات النزاع فيه.
تراجع المحتوى المعرفي والديمقراطي
فلقد جاء في نتائج دراسة حديثة أجريت في الصف التاسع في لبنان باشراف وزارة التربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي طال موضوع التربية والمواطنة: ان المعارف المدنية لطلبة الصف التاسع (نهاية المرحلة المتوسطة) في لبنان متواضعة نسبيا مقارنة مع زملائهم في الدول 28 (من مختلف دول العالم) للاستقصاء نفسه. وان انجازهم في المحتوى المعرفي على هذا الصعيد كان افضل من انجازهم في المهارات المعرفية. ما يعني ضعف الخبرات العملية والاعتماد على النظريات من ناحية واستسهال اطلاق الشعارات بمعنى الازدواجية وعدم ممارسة ما يعلن عنه.
كما ان معرفتهم بمفاهيم المواطنة الثلاثة: الديموقراطية والمواطن الصالح ومسؤوليات الدولة، لم تؤد الى معرفة الاجابة عن الشروط المسيئة الى الديموقراطية ربما أيضاً بسبب ضعفهم في المهارات او الممارسة. أما اهتمامهم بالدولة فلا يطال سوى دورها الامني لكنه فيما يتعلق بإدراك الدور الاجتماعي لهذه الدولة فهو ضعيف وغير كاف. ما يترجم فهما للسلطة من جانبها القمعي وليس الانمائي. كذلك بدت ثقتهم بمؤسسات الدولة محدودة سواء اكانت سياسية او قضائية او امنية، تقابلها ثقة مرتفعة بالمؤسسات الدينية.. وهنا أيضاً يعبر ذلك عن تجربتهم الحياتية فمعظم احتياجاتهم الانمائية تتأمن عبر المؤسسات الطائفية والمذهبية ولو أن هذه الأخيرة تكون مستفيدة في الكثير من الأحيان من موازنات الدولة إلا انها تصرفها بواسطة مؤسساتها ما يجعل المواطن يعتقد أنه حصل عليها من المؤسسة الطائفية التي ينتمي إليها.
هذا، ومع أن النزعة الوطنية مرتفعة جدا، وكذلك النزعة السيادية عند هذه العينة الشبابية، إلا أن الانقسام السياسي حاد ايضا.. فالانقسامات تطال: الزعيم السياسي المفضل (لكل طائفة زعيم) والدولة الصديقة والدولة العدوة. كذلك نلاحظ عدم الاتفاق على قائد تاريخي مفضل فهو غير موجود في أذهان الطلبة لذلك اختاروا زعماء حاليون وشخصيات عربية او اجنبية. ما يترجم عدم وجود اتفاق على مكونات وطبيعة وأهداف هذا الوطن الذين يؤكدون حبهم له. وعلى غياب المثالات التي يمكن للاجيال الصاعدة ان تتماهى بها وتجعلها قدوة.
هناك ايضاً توزع في الخيارات التي تدل على التماسك الاجتماعي ما يترجم ضعفا في مستوى التماسك: ثلث الطلاب يوافقون على ان الترشيح والاقتراع يجب ان يحظيان بتأييد رجال الدين كما ان ربعهم يوافق على ان الانتخاب يجب ان يتم على اساس عائلي. وهذا يدل على فشل برامج التربية على المواطنية بالقيام بدورها.
64% يوافقون على ان تهتم كل طائفة بتعليم ابنائها وتوفير منح دراسية لهم.. وهذا يعني قوة النزعة الجمعية (من جماعة وطائفة) والبحث عن الحماية في حضن هذه الجماعة والاعتماد على الطائفة من ناحية كما عن عدم ثقة بالطوائف الاخرى اضافة الى الدولة بالطبع من ناحية اخرى.
كما وافق ثلاثة ارباع الطلبة على ان توزع الوزارات والوظائف العامة على الزعماء بالتساوي؛ ما يعني القبول بهيمنة الطائفة وزعاماتها على الوطن بمعنى آخر. كما وافق اكثر من النصف على ان توزع الرئاسات الثلاث على زعماء الطوائف الرئيسية الثلاث. الدولة هنا هي مجموعة حصص يتم تقاسمها.
هناك نزعة نحو الاختلاط الاجتماعي لكنها تبقى نظرية لأنها تضعف عندما يتعلق الامر بالزواج المختلط. ما يعني انها الآن كلامية فقط. أما موقفهم من تطبيق القانون فتبرز الازدواجية مجددا، لان ذلك يعني ان على الآخرين تطبيق هذا القانون. اما فيما يتعلق بالذات فالامر غير واضح.. وهذا يعني وجود ضعف على مستوى الضمير الفردي وتغليب الرقابة الخارجية.
توليف المتناقضات
يضاف الى كل ذلك الخلفية العامة التي تسم مجمل الدول العربية وهي انه على الرغم من ازدياد معدلات اتمام مرحلة الدراسة الابتدائية زيادة كبيرة وسريعة جدا بفضل ما يتم القيام به من استثمارات عامة في البلدان العربية، تبدو الامية مستمرة في وجودها وتظل أعداد كبيرة من خريجي الجامعات غير قادرة على الحصول على فرص العمل لشهور او لسنوات بينما يتذمر أصحاب منشآت الاعمال التجارية من قلة ذوي المهارات المتخصصة وعالية الكفاءة.. هذا دون ان ننسى وجود فئة من الشبيبة لا عمل لها سوى اللقيام بأعمال الحراسة والنزول الى الشوارع عندما تستدعيهم الحاجة. كما ان البطالة لاتزال مرتفعة في هذه الدول وليس هناك أي افق يمكنه ان يخلق فرص عمل توازي الازدياد السكاني المستمر.
عندما نقوم بتوليف كل ذلك ونضيف إليه، كون ان الكثير من القيادات السياسية اللبنانية، وخاصة الميدانية منها، ممن لم يسبق لهم أن عاشوا الحرب الأهلية في منتصف السبعينات وما تلاها يجعلهم يعتقدون باختلاف تجربتهم وتبريرهم لأحقية شعاراتهم وافضليتها داعياً اضافيه لهم من دواعي الانغماس مجدداً في حرب سوف يعتقدون انها مختلفة وأنها رائدة ويغرقهم وهمهم بالقدرة على السيطرة بالسلاح الذي يستندون اليه، وبالقوة التي يستعرضونها في مستنقع سبق أن جرّب وسبق أن برهن عن فشله.
المشكلة الآن ان تاريخ المقاومة وحصانتها وشرعيتها والمرجعية والمثال التي شكلتها هي التي في الميزان.
المخيف في الأمر وما يزيد المشكلة تعقيداً هو أن لا تتوقف الأوضاع عند هذا الحد، فعندما يتحول الصراع الى ما بدأ ينزلق إليه من صراع مذهبي سافر ومع استمرار ممارسات القمع والتخويف والتعذيب التي بدأت الصحافة تفصح عنها، والتهديد العالي النبرة المستعاد، سوف يؤدي كل ذلك الى مزيد من الخوف والحقد والغضب. ما يعني الخلطة المتفجرة الملائمة لتهيئة الأرضية أمام الأصوليات السنية مثل تنظيم القاعدة وأشباهه.
وما يساعد على كل ذلك النسبة العالية التي أشرنا إليها من الشبيبة تحت سن العشرين عند الطائفتين المتنازعتين، خاصة وأن الموقف المسيحي المنقسم ما بين متفرج محايد على «تقاتل المسلمين» أو منخرط مع فريق 8 آذار في تغطية سياسات حزب الله لا يساعد على تعديل وجهة الأحداث الكارثية أوتهدئتها.
أما إذا ظل الوضع على حاله، فإن من يعتمد في استبعاده لتحول الصراع الى صراع بين أصوليات، والى تحول القاعدة السنية الخائفة من الاعتدال الى الأصولية إما على عدم قدرة أهل المدن على القتال وإما على جبنهم وتقاعسهم وعدم أهليتهم فنذكره أن بداية السبعينيات حفلت بمثل هذا التحليل الذي اعتمد على أن المسيحيين «أنعم» و«أعجز» من أن يقاتلوا، رأينا كيف برهنت الأحداث اللاحقة على تحولهم الى التسلح والقتال الشرس واستخدام العنف الذي ضرب المثل بوحشيته ودمويته.. ونشير ايضا الى أن أهل السنة ليسوا كلهم أهل مدن، وهذا ما بينته أحداث مخيم نهر البارد الواقع في منطقة عكار الريفية المعدومة.. كما تظهره تفاصيل الاحصاءات.
على كل حال لا مجال للاستغراب هنا، إن التطرف يجد شرعيته عندما يقابله تطرف مضاد.. والسياسات المتبعة من بعض الاطراف، تبدو وكأنها لا تهدف سوى القضاء على عناصر الاعتدال عن الاطراف المناوئة لها!! ربما لتبرير عنفها والاحتفاظ بسلاحها.
كاتبة من لبنان