متفرّقات لبنانية
زياد ماجد
حملت الأسابيع الماضية جملة تطورات على الصعد الاقليمية واللبنانية، برزت خلالها ديناميات جديدة. فمن قيام المفاوضات السورية الاسرائيلية المباشرة برعاية تركية، الى التبدّلات على الساحة العراقية في الخريطتين السياسيّتين السنية والشيعية وتبعات ذلك إيرانياً وأميركياً، وصولاً الى انحسار المبادرات الأميركية الشرق أوسطية مع نهاية ولاية جورج بوش واقتراب موعد الانتخابات، من دون أن ننسى طبعاً المتغيّرات المحتملة داخل إسرائيل إن أُرغم أولمرت على الاستقالة (وتولّى بديله/بديلته في كاديما رئاسة الحكومة أو جرت الدعوة لانتخابات مبكرة) وتداعيات الأمر على الفلسطينيين المستمرين على انقسامهم المأساوي في الذكرى الستين لنكبتهم، تعيش منطقتنا حال انتظار تبدو معها احتمالات انتهاء الستاتوكو السائد منذ عامين قائمة…
وقد ترافق كل ذلك مع أحداث لبنانية جسام، استُخدم السلاح المذهبي فيها، واستُذكرت الحرب الأهلية خلالها، واستباح حزب الله وأعوانه بيروت طيلة أيامها، ثم جاء “صلح الدوحة” ليعكس مؤدّياتها ويحقّق هدنة تُطلق مساراً سياسياً محدوداً بانتظار جلاء أمور المنطقة ورسوّ شؤونها على بيان.
وبزعمنا، تتمحور عناوين الهدنة المذكورة ومسارها (وما يظهّرانه من خصائص السياسة اللبنانية وطبائع أكثر القائمين بها) حول:
1- إعادة تشكيل السلطة مؤقتاً على نحو يوزّع مراكزها وينزع عنها القدرة التقريرية من خلال منع اتخاذ أي قرار مفصلي في مؤسساتها يمسّ القضايا الخلافية بين اللبنانيين نتيجة منح القوى السياسية الطوائفية الكبرى حق الفيتو تستخدمه ضد ما لا يناسبها، والوصول الى تسويات حول الأشخاص والمفاهيم تلغي القدرة الفعلية على الحكم بحجة دفع الاستئثار عنه.
فبهذا المعنى، جرى انتخاب رئيس يعتبر معسكرا 14 و8 آذار أن لهما دالة عليه: دالة 14 آذار أنها تبنّت ترشيحه بعد طول ممانعة وأصرّت عليه مدعومة من مصر والسعودية في ظروف الفراغ الصعبة، ودالّة 8 آذار أنه في قيادته الجيش دعم “مقاومتها”، وخلال الأحداث الأخيرة غضّ الطرف عن احتلالها بيروت واجتياح شوارعها.
وبهذا المعنى أيضاً، جرى منح المعارضة (المتحكّمة أساساً بقدرة المجلس النيابي على الانعقاد) الثلث المعطّل في الحكومة، وهو ما كانت تطالب به منذ استقالة وزرائها. لكن المنح جاء معطوفاً على عودة فؤاد السنيورة الى رئاسة الحكومة للحدّ من حجم الربح المعارض ولجم تقدّمه.
وبهذا المعنى أيضاً وأيضاً، أُقرّ قانون انتخاب بعيد كل البعد عن التوق الإصلاحي الذي عبّر عنه مشروع لجنة بطرس وما فيه من جرعة نسبية، وقريب من إعادة إنتاج التوازنات عينها بعد عام (في ما عدا تلك المنبثقة من الدوائر ذات الأكثرية المسيحية حيث ستدور الانتخابات الحامية – إذ أن النتائج تبدو محسومة في الدوائر الأخرى درزياً وشيعياً وسنياً).
2- طمأنة القوتين الإقليميتين الأكثر تأثيراً في الساحة اللبنانية (سوريا وإيران) الى أن لا شيء مهماً خسرتاه في الهدنة. وفي المقابل، التأكيد لهما أن لا نهاية أكيدة لاستمرار الضغط عليهما وعلى ظروف تحالفهما من دون تقييم سلوكهما في لبنان (وفي جنوبه حيث قوات اليونيفل). وهذا ما تعبّر عنه، الى هذا الحد أو ذاك، المواقف الأوروبية والسعودية والمصرية الحالية (في حين يتراجع الأثر الحاسم للإدارة الأميركية في كل ما ذُكر، نتيجة عيشها أيامها الأخيرة، وبأولوية عراقية مطلقة).
3- تظهير الهواجس الزبائنية للطبقة السياسية اللبنانية، وإغراق القضية الاستقلالية “المركزية” في رمال التقسيمات الانتخابية والتشكيلات الحكومية بحيث تبدو الأمور أشبه بالخلاف على المغانم منها برسم حدود المواجهات القادمة داخل المؤسسات وحدود تسوياتها. فإذا كان طبيعياً ومشروعاً الحرص على المصالح الانتخابية وعلى المواقع الوزارية لا بل تحسينها لمن يتعاطى الشأن العام التنافسي، إلا إنه من غير الطبيعي تضييع جوهر المواجهة القائمة وثوابتها في مواقف ومقايضات على حقائب “خدماتية” لا يخجل أصحابها من البوح بحاجتهم اليها لتحسين شروط خوضهم الانتخابات ومقاربتهم الناخبين! ولا هو من المشروع تفصيل الدوائر الانتخابية بهوس طائفي والتعهّد للخصوم بعدم منافستهم في “حقولهم أو اختصاصاتهم المذهبية” وما يعنيه ذلك من تمييع لبوصلة الخيارات الانتخابية من جديد، وإضعاف لأهداف انتفاضة الاستقلال، بعد ثلاث سنوات على سقوط أول شهدائها وأشجع مثقفيها سمير قصير…
لا يشي ما ورد بأي رفض “لصلح الدوحة” على كل هشاشته وتهافت سلوك معظم أصحابه. فالاستقرار ولو على عيوب ومخازي أفضل من الصراعات والموت والدماء. وفرحة الناس بالعودة الى وسط بيروت والى كورنيشها، وابتسامات العاثرين على عمل بعد طول انتظار، وامتلاء الطائرات الوافدة كما الفنادق والمطاعم والمقاهي والمسابح والبارات، لا تقل أولوية عن كبريات القضايا ومعاركها.
لكننا ندعو الديمقراطيين عامة واليساريين خاصة الى عدم التفريط راهناً ومستقبلاً بسائر الأولويات:
– الدفاع عن الاستقلال والتمسك بهذا الوطن محرّراً من الاستخدامات والتوظيفات الإقليمية، محصّناً في وجه الأنظمة الساعية لكل المقايضات نجاةً من شبح المحكمة الدولية أو حماية للطموح النووي.
– المحافظة على الطرح الإصلاحي للنظام السياسي اللبناني والسعي المتواضع والثابت، ولو كتابة وقولاً وتجمعاً، للدفاع عنه كسبيل وحيد لبناء متدرّج لدولة الحق والقانون، دولة المواطنة والعلمنة والعدالة. فمن دون أفق إصلاحي، لن يتحصّن أي استقلال، وستبقى مآلات الخلافات تسويات وهدنات تؤجّل البت بالقضايا الأساسية.
– عدم التفريط بأهمية أن في هذا البلد دستوراً وقوانين ينبغي أن تظلّل كل جهد إصلاحي هادئ ومتوازن. فالمؤسسات المهمّشة والمهشّمة اليوم تبقى مواقع تقي من التغييرات والثورات والانقلابات وما تحمله من استبداد ودماء واغتيال حريات، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أهميتها، وينبغي العمل من داخلها وليس فقط من خارجها.
– رفض التعايش القسري بين “المقاومة” والدولة والسعي حواراً وتفاوضاً الى إنهائه. فالأولى لا يمكن أن تقوم إلا على أنقاض الثانية، والثانية لا تكتمل بغير ضمور الأولى وانحسارها فانتفائها. ذلك أن المقاومة بديل عن انهيار دولة أمام احتلال، وإعادة بناء الدولة تأكيد لتعاف من ذاك الاحتلال. أما حماية وطن والدفاع عن حدوده في وجه التهديدات فتتمّ بمؤسسات دولته المختصة، عسكرية وأمنية وديبلوماسية وإعلامية.
وإذا كان هذا يصحّ على الدول والمقاومات الوطنية، فهو حتماً بصحّ اكثر حين تكون الأخيرة مذهبية ومصطدمة بمعظم “شركائها” في الوطن الرافضين ثقافتها وأحلافها الاقليمية…
إفتتاحية نشرة الأفق اليسارية الديمقراطية المستقلة