المحروسة تبحث عن نفسها
محمود الزيباوي
شهدت مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر سلسلة من الثورات، وبدت في النصف الثاني من القرن الماضي رأس العالم العربي وقلبه النابض، غير أنها فقدت دورها الريادي في العقود الأخيرة. خلنا أنها غرقت في سباتها وبؤسها الى أن هبّت الريح من شمال أفريقيا، “فأفاقت مصر”، وها هي اليوم تتكلم عن نفسها.
تعاظم التدخّل الأجنبي في مصر في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وأثار ثورة عُرفت بـ”الثورة العرابية”. رفض حاكم مصر الخديوي توفيق مطالب الثوار، وقال: “كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساننا”. وردّ أحمد عرابي بقوله الشهير: “لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم”. اندلعت الثورة في مصر عام 1882، وكانت المواجهة بين الجيش الإنكليزي بقيادة الجنرال ولسلي والجيش المصري بقيادة احمد عرابي في معركة “التل الكبير”، على الضفة اليسرى لترعة الإسماعيلية، بين الصالحية والقصاصين. هُزم المصريون، وتشتتوا وسط الصحراء، واقتيد عرابي اسيراً، وحُكم عليه بالإعدام، وتمّ تخفيف الحكم إلى النفي مدى الحياة في سيلان.
أحرار في بلادنا
بعد عرابي، جاء مصطفى كامل، وواصل الكفاح ضد الاحتلال البريطاني مدافعاً عن حقوق بلاده حتى وفاته عن عمر يناهز أربعة وثلاثين عاماً في شباط 1908. نشرت الصحافة المصرية يومذاك لوحة فنية تمثل جنازته وفيها تظهر امرأة بالزي الفرعوني تنوح مشيرة بيمناها إلى نعش فقيدها، بينما يحلّق في الأعلى ملاكان يحمل كلٌّ منهما إكليل الظفر، في استعارة مباشرة من القاموس التشكيلي الأوروبي. في طرف الصورة، يبدو البطل وسط أكليل يزينه شريط معقود يرمز إلى صعود النفس إلى الأعلى. اكتتب الشعب المصري لإقامة تمثال يجسد الفقيد الكبير، وجرى تكليف النحات الفرنسي ليوبولد سافين تنفيذ هذه المهمة. أُنجز النصب في الخارج، ووُضع أولاً في صحن كلية الحقوق التى أنشأها الفقيد في القاهرة، وانتقل في مرحلة لاحقة إلى الميدان الذي يحمل اسمه، عند تقاطع شارع محمد فريد وشارع قصر النيل. في تصميمه الأصلي، يتألف النصب من قطعتين منفصلتين. يقف مصطفى كامل بلباسه الرسمي الملكي منتصباً في وضعية الخطيب، مرخياً يده اليسرى على رأس أبي الهول، وذلك فوق منصة كبيرة تحتل واجهتها صورة فلاّحة مصرية تجلس أرضاً وهي تكشف عن وجهها كأنها تهبّ للنهوض. تعلو المنصة كتابة بالعربية تقول: “أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا”، وهذا الشعار من خطبة ألقاها مصطفى كامل في الإسكندرية، وفيها دعا شعبه إلى الترفع عن السباب والتجريح والتمسك بالحكمة والاعتدال، وأضاف: “الحق سلاحنا، والصراحة عدّتنا، والإقدام مطيّتنا”.
تجددت الثورة عام 1919 تحت قيادة سعد زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية، وأخذت شكل تظاهرة شعبية ضخمة، وكانت أول تظاهرة تشارك فيها النساء في مصر، وفي مقدمهن “أمّ المصريين” صفية، قرينة سعد. ظهرت وحدة “عنصري الأمة المصرية” في هذه الثورة، فخطب المشايخ في الكنائس، وخطب القساوسة في المساجد، وارتفعت الأعلام التي تجمع بين الهلال والصليب. رضخ البريطانيون، وأفرجوا عن سعد زغلول ورفاقه، وألغوا الأحكام العرفية. بدت هذه الثورة إعلاناً بولادة جديدة لمصر. في تلك الحقبة، لحّن سيد درويش “أهو ده اللي صار”، و”قوم يا مصري مصر أمّك بتناديك”، و”انا المصري كريم العنصرين”، و”بلادي بلادي”، واستعاد في النشيد الأخير قول مصطفى كامل المأثور “بلادي بلادي لك حبّي وفؤادي”. ونبذ فنّان الشعب المشاعر الطائفية في “ما قولتلكش ان الكترة” كما في “يمينك شمالك”، فقال في الأولى: “إن محمد يكره حنّا، ودخل دول ايه في ديننا”، وفي الثانية: “اللي الأوطان بتجمعهم، عمر الأديان ما تفرّقهم”. وتوفى عن واحد وثلاثين عاماً، بعدما علّم طالبات المدارس نشيداً أعدّه لاستقبال سعد زغلول العائد من المنفى: “مصرنا وطننا سعدها أملنا”. في المقابل، أنجز النحات الشاب محمود مختار تمثالاً سمّاه “نهضة مصر”، عرضه في باريس عام 1920، ويمثّل هذا التمثال امرأة مصرية تقف أمام أبي الهول وتحوط رأسه بذراعها اليمنى، كاشفةً بيسراها عن وجهها. ساهم هذا العرض في إبراز مختار محلياً، ودعا بعض كبار السياسيين والمفكرين المصريين إلى إنجاز نصب كبير على منوال هذا النموذج لرفعه في أحد ميادين القاهرة الكبرى، وفتحوا الاعتمادات المالية لتحقيق هذا المشروع. أنجز مختار التمثال، وفيما هو منهمك في عملية تلميعه، زاره الزعيم سعد باشا وأبدى إعجابه بالعمل. احتفلت مصر رسمياً بإزاحة الستار عن التمثال عام 1928، وتحوّل النصب منذ إزاحة الستار عنه “أيقونة” تجسّد “نهضة مصر”.
صيحة اليقظة
دخلت مصر في مرحلة مضطربة خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد حرب 1948 وضياع فلسطين، ظهر “تنظيم الضباط الأحرار” في الجيش المصري تحت قيادة اللواء محمد نجيب، ونظّم في 23 تموز 1952 انقلاباً مسلّحاً عُرف في البداية بـ”الحركة المباركة”. بعد أقل من عام، أُلغيت الملكية وأُعلنت الجمهورية. دعت الثورة إلى القضاء على الإقطاع والإستعمار وسيطرة رأس المال، كما دعت إلى إقامة الحياة الديموقراطية والعدالة الإجتماعية، وسعت إلى تأسيس جيش وطني قوي. عام 1954، عزل مجلس قيادة الثورة محمد نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية بعيداً من الحياة السياسية، وتولّى جمال عبد الناصر السلطة، ودعا إلى القومية العربية، واكتسب بسرعة زعامة تجاوزت بسرعة حدود مصر لتبلغ انحاء العالم العربي. يومذاك غنّى عبد الوهاب من شعر أحمد خميس: “فأفاقت مصر شطآناً وعشباً ونخيلاً/ تنفض الظلم عن فجر عزيز الكبرياء”. وأنشد من كلمات كامل الشناوي: “هات أذنيك معي واسمع معي/ صيحة اليقظة تجتاح الجموع، صيحةً شدّت ظهور الرُّكًّع/ ومحت أصداؤها عار الخضوع”. ولحّن من كلمات أحمد شفيق كامل نشيداً جماعياً غنّى فيه عبد المطلب: “قولوا لعرابي أخدنا بتارك من اللّي خانوك/ خرج الغاصب اللّي شرانا من اللّي باعوك/ واللّي باقي لنا نخلص تارنا في فلسطين وديار عروبتنا”.
ساند عبد الناصر ثورة الجزائر وتبنّاها في المحافل الدولية، ونجح في تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، غير أن “الجمهورية العربية المتحدة” لم تصمد أكثر من ثلاث سنوات. من جهة أخرى، أيّد الزعيم المصري ثورة الجيش العراقي لاطاحة الحكم الملكي، كما دعم الثورة العسكرية اليمنية ضد الحكم الملكي، وأرسل زهاء سبعين ألف جندي مصري لمقاومة هذا الحكم المدعوم من المملكة العربية السعودية. اهتزّت الصورة وانهار الحلم بعد “حرب الأيام الستة” التي انتهت بهزيمة مريعة سمّاها الإعلام العربي “نكسة 1967”. في اليوم الأول، بدأت إسرائيل الحرب بشنّ ضربة استباقية استهدفت القواعد الجوية المصرية، ودمّرت جزءاً كبيراً من السلاح الجوي المصري، ثم اقتحمت غزة وسيناء، وأتبعت هذا الغزو بقصف لمطارات سوريا والأردن والعراق. في اليوم التالي، واصلت الدولة العبرية توغلها في سيناء، وبلغت الضفة. بعد سقوط رام الله وجنين وقلقيلية، صدرت الأوامر للجيش المصري بالانسحاب الكامل، وتلاه انسحاب الجيش الأردني. في اليوم الثالث، احتلّت إسرائيل القدس القديمة، وعجزت الطائرات السورية عن صدّ تقدمها، فاستولت تباعاً على بيت لحم والخليل وأريحا. وافقت مصر على وقف إطلاق النار في اليوم الرابع، واحتلت اسرائيل سيناء في اليوم الخامس. أُعلن سقوط القنيطرة في اليوم السادس، واستمرت المعارك العنيفة مع الجيش السوري إلى أن أعلنت إسرائيل موافقتها على وقف إطلاق النار في المساء. خاطب عبد الناصر الجماهير معلناً التنحي من منصبه، فخرج مئات الألوف من المصريين إلى الشوارع يدعونه إلى العودة عن قراره وإلى عدم التخلي عن الرئاسة، واستمرت هذه التظاهرات على مدى يومين متواصلين. قيل يومذاك إن الزخم الشعبي المتمثل بهذه التظاهرات، شكّل عامل شحن لدفع الجيش المصري إلى مواصلة القتال لاستعادة الأرض المحتلة، غير أن فظاعة الهزيمة ألقت بظلالها على الواقع.
بعدما أعطى الثورة أشهر أناشيدها الحماسية، حاكى عبد الحليم حافظ الهزيمة في أغنية حزينة كتب كلماتها عبد الرحمن الأبنودي ولحّنها بليغ حمدي، هذا نصّها: “عدّا النهار والمغربية جاية تتخفي ورا ضهر الشجر/ وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر/ وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جاها نهار ما قدرش يدفع مهرها/ يا هل ترى الليل الحزين، أبو النجوم الدبلانين، ابو الغناوي المجروحين/ يقدر ينسيّها الصباح؟”.
ثورة الخبز
توفّى عبد الناصر عن اثنين وخمسين عاماً بعد اندلاع المواجهة بين الحكومة الأردنية والمنظمات الفلسطينية في “أيول الأسود” عام 1970، وخرجت الشعوب العربية من جديد إلى الشارع لترافق جنازته في مسيرات ضخمة. تولى السلطة من بعده نائبه أنور السادات، فأقصى بعد أشهر ما عُرف بمراكز القوى السابقة، وأطلق على هذه الإجراءات اسم “الحركة التصحيحية”، كما أصدر دستوراً جديدا للدولة، وأضاف إلى المادة الثانية من دستور 1971 “الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع”. بعدها كانت “حرب اكتوبر” في عام 1973 التي انتهت بعبور قناة السويس، وتلاها في العام التالي قرار “الانفتاح” الاقتصادي. أدّت هذه السياسة الجديدة إلى انتفاضة شعبية عمّت جميع المدن الرئيسية، وعُرفت بـ”انتفاضة الخبز”، ووصفها السادات في خطبه بـ”انتفاضة الحرامية”. فُرض حظر التجوال، ونزل الجيش إلى المدن للسيطرة على التظاهرات، وتم اعتقال الآلاف من المتظاهرين من العمال والطلبة. بعد هذه الأحداث، أعلن الرئيس عزمه زيارة القدس لدفع عجلة السلام بين مصر واسرائيل، ووقّع مع مناحيم بيغن معاهدة كمب ديفيد في عام 1979. على الأثر، قطعت الغالبية العظمى من الدول العربية علاقتها مع مصر. في موازاة هذه القرارات المصيرية، حرّر السادات التيار الأسلامي الأصولي بغرض ضرب التيّارين الناصري واليساري، وعدّل الدستور مرة أخرى في عام 1980، جاعلاً من “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. رافق هذه السياسة تحوّل واسع في الثقافة الجماعية العامة أدّى إلى سلسلة من الأحداث الطائفية توالت منذ عام 1972، ووصلت إلى ذروتها في عام 1981 حين تواصل العنف الطائفي في حي الزاوية الحمرا لمدة ثلاثة أيام متتالية. إثر هذه الأحداث، عزل السادات البابا شنودة وحدّد إقامته بدير الأنبا بيشوي، وأصدر أمراً بالقبض على أكثر من ألف وخمسمئة شخصية من مختلف التيارات والاتجاهات السياسية والدينية، واغتيل بعد فترة وجيزة على يد “منظمة الجهاد الإسلامي”.
بعد مقتل السادات، تقلد حسني مبارك الحكم في مصر بصفته نائباً لرئيس الجمهورية، وأعيد “الاستفتاء” عليه رئيسا لفترة ثانية في عام 1987، ولفترة ثالثة في 1993، ولفترة رابعة في 1999، وتمّ انتخابه لفترة خامسة في ما وُصف بـ”أول انتخابات رئاسية تعددية” تشهدها مصر بعد اجراء تعديل دستوري ملتبس ترافق مع اعتقالات لعدد من مرشحي المعارضة. خلال هذه السنوات الطويلة، فقدت مصر دورها الريادي في العالم العربي وتراجعت على جميع الأصعدة السياسية والثقافية. عادت مصر إلى الجامعة العربية عام 1989، لكنها لم تستعد بتاتاً مكانتها الأولى. خرج السادات بشعار “مصر أولاً”، وأوصل هذا الشعار مصر إلى القعر في عصر مبارك.
ميدان التحرير
يصف أهل الإعلام في مصر المرحلة التي سبقت السبعينات بـ”الزمن الجميل”، وفي هذه التسمية اعتراف غير مباشر بأن الحاضر “زمن قبيح”. غنّت فتحية أحمد قديماً من نظم محمد فتح الله وألحان زكريا أحمد”مصر فوق الجميع”، وتبارى المطربون العرب في مدح مصر والتغنّي بأمجادها في زمن عبد الناصر. فقدت هذه الاغاني بريقها في المرحلة اللاحقة، وباتت جزءاً من ماض بعيد. لحّن عبد الوهاب في عام 1980 نشيداً جماعياً من كلمات حسين السيد عنوانه “الأرض الطيبة”، وبدا هذا النشيد كأنه استعادة كاريكاتورية للأناشيد التي لحّنها في “الزمن الجميل”، أيام “وطني حبيبي وطني الأكبر”. بعد “الأرض الطيبة”، كتب مدحت العدل نشيداً من هذا النوع لحّنه حلمي بكر عام 1998، وهو نشيد “الحلم العربي”، ومطلعه: “أجيال ورا أجيال حتعيش على حلمنا/ واللي نقوله اليوم محسوب على عمرنا/ جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنّما/ يقدر شعاع النور يوصل لأبعد سما”. حُوّرت الكلمات في الشارع المصري، وصار “الحلم العربي” “الحشيش العربي”، وتناقل الشباب الأغنية بكلمات جديدة تقول: “أنفاس ورا أنفاس بتبوّظ صدرنا/ واللي نشدّه اليوم حيقصف عمرنا/ جايز سيجارة بانجو تسطلنا يوم إنّما/ نقدر بقرش حشيش نعمل دماغ في السما”.
خلنا أن أرض الكنانة ستظل في سباتها، وأن زمن “الحشيش العربي” سيكون طويلا، لكن الريح هبّت من شمال أفريقيا، “فأفاقت مصر”، وهي اليوم ترفع رأسها وتبحث عن نفسها وحدها. قاد عرابي الثورة في نهاية القرن التاسع عشر، وحمل مصطفى كامل مشعلها في بداية القرن العشرين، وتتالت الثورات الناقصة على مدى عقود. استيقظت مصر أخيرا، وها هي “صيحة اليقظة تجتاح الجموع”، والجموع هذه المرة من دون قائد وسط “ميدان التحرير”، وصورة ثورتها لم تتضح ملامحها بعد، والسؤال اليوم: هل تقوم مصر ونقوم معها، أم تتعثّر فنتعثّر ونقع معها؟ ¶
النهار