من الترفيه إلى الجدّ
حسّان القالش *
ليس من السهل مقاومة هذا الارباك الذي تسبّبه ثورة تونس وانتفاضة المصريين، اللّتين فرضتا علينا عمليّة تمرين فكريّ يوميّة، تتناول كلّ ملَكات العقل والوجدان. فما حدث كان مفاجأة للجميع، ولم يكن ليأتي على بال أو خيال كما يقال. لقد احتلّ مسلسلا الأحداث التونسيّة والمصريّة، أوقات الفراغ الطويلة في هذا المشرق، لتطغى وتغطّي على اجترارنا الدراما التركيّة المخدّرة والحُلُميّة، وقنوات المُسكّنات الروحيّة والدينيّة، وتُبعد إلى أجلٍ غير معروف حالة الاكتئاب المجتمعيّ العميق والمُعمّم وبرودة الدّم السياسي. فالكل الآن إما يراقب ويترقّب ما يجري، أو يحلّله باحثاً عن نفسه وعن واقعه في بحر الارتباك اللذيذ… لقد استفاقت السّياسة في الأبدان الخاملة.
لم تُحرجنا تونس كما أحرجنا المصريون، فتونس بعيدة وصغيرة، شبابها أكثر انفتاحاً على الحضارة والأفكار، استفاد من موجات الهجرات الشرعية وغير الشرعيّة إلى أوروبا، من عمليّة مثاقفة تدريجيّة استغرقت سنوات عدة وخبرات مَهجريّة متنوعة. وربما هذا ما أدّى إلى بَياض ثورتها ومحدوديّة الأعمال التخريبيّة الانتقاميّة.
بينما تبـــدو مصر أقرب وأكبر، وتعاني تضخّم شريحة من المهمّشين البعيدين من أدنى درجات التحضّر والمَدَنيّة، معظمهم من الشباب العاطل مـــن العمـــل والواقع أسيراً لثقافة الشّارع العنيفة والبدائيّة، وثقافة «البانغو» و «الغُرزة» وهي المكان الذي يمارس فيه التّحشيش وإدمان المخدّرات في شـكل جماعي واجتماعيّ… هي صورة مصر كما تعبّر عنها أفلام خالد يوسف.
والراهن أن أعداداً كبيرة من تلك الفئة المهمّشة العنيفة هي من قامت بدور الطّابور الخامس في انتفاضة أبناء بلدهم، لتعمل سلباً ونهباً وتشويهاً للمدينة ولصورة الشّباب الجميل النابض بالحياة. لقد لعب النّظام المصري بورقة «البلطجيّة» و «أولاد الحرام» أولئك، الذين ربّاهم بالمجّان والحرمان، ليكونوا كلابه المسعورة في يومه الأسود الطويل.
لم يعد الشباب قادرين على ابتلاع أكاذيب حكوماتهم ودَجَلها، وهي إن كانت تنازلت، رغماً عنها، عن تَرف الحياة السياسية التي تحتكرها الأنظمة، ما عادت تُطيق التنازل عن أدنى حقوقها في الحياة والعيش الكريمين. ولم تعد تجذبها أو تخدّرها ادّعاءات الاصلاح، أو تُسكتها التهديدات المُبطّنة بالخراب وحكم الظلاميين ومعادلة إمّا نحن وإما الفوضى. فلا استقرار بعد اليوم ما لم تستقرّ النفوس.
لقد تمكّن المصريون من توحيد العرب وحشرهم في أحاسيس الحرج والحياء. تمكّنوا من ذلك بأن قالوا: «لا»… «لا» بعيدة من الإيديولوجيات والأحزاب والقضايا الكبرى والعقائد السياسية. «لا» تهدر وتدوّي في غياهب الإنترنت وميكروفونات المحطّات الإخباريّة وعدساتها. «لا» غير آبهة بقضايا الأمّة، وغير معنيّة بالتضحية بالنفس كرمى لعيون القضايا المركزيّة… «لا» أنانيّة.
فما من عيب في أن نكون أنانيّين هذه المرّة.
* كاتب وصحافي سوري