إلي صديق سوري: العروبة توحدنا والسفارات تفرقنا
خليل قانصو
أسارع إلي كتابة هذه الرسالة لك، قبل أن يرسـم الحكـّامُ الحدودَ بين لبنان وبين سورية. لم أكن أتصـوّر أن وضع هذه الحدود ممكن، أو أنه ببساطة، عمل عقلاني. فمخافر الجمارك وحواجز المخابرات، كانت في نظري، كدوائر الدولة الأخري، ممرات إجبارية يحرسها موظفون يحمون أنفسهم من الغرامات التي يفرضونها علي الناس العاديين. أصحاب النفوذ كانوا يسلكون طرقا ً خاصة، تسمي طرقا عسكرية، لا تعترضها المعوقات.
ودافعي هو الحذر والريبة من العلاقات الديبلوماسية، لما بات لهذا التعبير في الشرق العربي من دلالات علي دنـو ٍ من دولة المستعمِرين الإسرائيليين ومن تطبيع العلاقات معها، لا سيـّما وأننا في زمن الجدران الداخلية، التي تـُفصـّل الأوطان إلي أقاليم، والمدن إلي أحياء. كم هو عدد هذه الجدران في بغداد وبيروت؟ ألم تـُقسـّم في مباحثات الدوحة؟ من يضمن إذن، عدم قطع العلاقات الديبلوماسية التي يـُزمع حكام لبنان وسورية إقامتها فيما بينهم، بحسب الإعلام، في القريب العاجل؟
أنا علي يقين بأن السوريين واللبنانيين، سوف لن يُستفتوا في هذه المسألة: فحكام مصر والأردن أرسلوا السفراء إلي الدولة الصهيونية، دون أن يحسبوا لشعوبهم حسابا. الشعب في بلاد العرب ليس مصدر السلطة. ولهذا السبب تكون السلطة مطلقة لا حدود لها، يتولـّع بها الذين يقبضون علي مقاليدها، فتأخذهم نشوة العظمة، أمام قصورهم وصفوف مركباتهم.
ولكن من حقنا أن نسأل: من اتخذ قرار إقامة علاقات ديبلوماسية بين سورية ولبنان؟ بالأمس نشرت بعض الصحف صورة للسفيرة الأمريكية في بيروت، يحيط بها ضباط من الجيش اللبناني، أثناء تفقدها لمعبر العريضة الحدودي في الشمال، وغير بعيد عن هذا المعبر، يقع مخيم نهر البارد الذي دُمـِر في صيف 2007. هل الأمريكيون وأصدقاؤهم الفرنسيون هم الذين فرضوا هذا العلاقات فرضا؟ أم هي الحكومة اللبنانية التي قيل لنا إنها فاقدة الشرعية؟ ولماذا، إذن تراجعت الحكومة السورية؟ أسئلة، لا نستطيع، انت وأنا الإجابة عنها، ليس لأن إمكانياتنا الفكرية محدودة، ولكن لأنه لا يوجد منطق يقود إلي الكشف عنها. ومهما يكن، فلو كان الحكام رجال دولة، لاطلعونا علي حيثيات خطوتهم الغريبة هذه بأنفسهم.
وماذا عن فلسطين إذن، وعن وحدة المسارين في لبنان وسورية. هكذا، دون الرجوع إلي الشعب، يـُغيـِّرُ الحاكم التاريخ والثقافة، بجـرة قلم. كنا في لبنان، نخاف، وكان خوفنا مبنيا ً علي وقائع، من الضباط السوريين ومن رجال المخابرات الذين انتشروا بيننا. ثم، وبعد غزو العراق واغتيال السيد رفيق الحريري، صرنا نخاف علي سورية من لبنان. فمعلوم لنا جميعا أن العداوة تظهر دائما من جهة الغرب.
أنتم السوريون، أقرب العرب إلينا، أنتم أقاربنا. قلما تجد في لبنان، اسم أسرة أو شهرة، غير معروف في سورية. لنا نفس الثقافة: عاداتنا ومفرداتنا ورقصاتنا وغناؤنا ومأكولاتنا. هذه كتب التاريخ، تحدثنا، عن ولاية عكا، وولاية دمشق. وعن قيام عمر الداعوق سنة 1918 بإعلان الحكومة العربية في بيروت، وعن موقعة ميسلون وعن لبنان الكبير الذي جمع أجزاءه في عام 1920، المفوض السامي الفرنسي، رغم احتجاج القوميين العرب في المدن الساحلية وفي البقاع وجبل عامل، ضد فصل مناطقهم عن سورية.
ليست القضية الفلسطينية سفسطة أو ترفا سياسيا وفكريا ً، ولكنها شأن من شؤوننا، لأنها تقطن في مخيمات لبنان وسورية التي لجأ إليها الناجون من الجريمة الصهيونية، بعد أن شاهدوا أجساد جيرانهم وأقربائهم مسحوقة تحت أنقاض الدور. المخيمات فصل من فصول تاريخ الاستعمار الغربي، الذي عاد من جديد إلي الشرق العربي، ليدعـِّم الحدود، ويبني الجدران، ويراقب المعابر، بين فلسطين ومصر، وبين لبنان وسورية، وبين سورية والعراق.
وأغلب الظن أن الحكام الذين إن نطقوا، رطنوا وتعتعوا، يجهلون تاريخنا. عز الدين القسّام كان سوريا ً، وفوزي القاوقجي كان سوريا أيضا ً. نحن نعرف أن الحكام ارتكبوا أخطاء فادحة. ولكننا لم نجرؤ، أو مـُنعنا عن إظهارها وإدانتها. فإذا سقطوا، اضطروا إلي الكشف عنها بأنفسهم. السلطة في لبنان أنتجت، تحت الرعاية الأمريكية، مرسوما بإحالة قادة المقاومة في الجنوب إلي القضاء، فأوقعت الناس في ورطة، قبل ان تتراجع شكلا ً، عن البغي والضلال. والنظام في سورية اعترف، علي لسان ممثليه، بغلط ومفاسد السياسة التي اتبعها في لبنان.
لقد نلنا نصيبنا من النكسات، ومن الضياع ومن الزلاّت. وآن الأوان لأن يكف الحكام عن إصدار قرارات، وتوقيع اتفاقيات، يوكلون أمرها للمستعمِرين، فيتخذون منها رخصة في الانقضاض علينا. تجرّعنا المراراة، بعد كامب ديفيد وأوسلو، والقرار 1559، والمحكمة الدولية. وأعيانا أشرار العراق، الذين جاءوا في الدبابات الأمريكية، فلم يدعوا محرّما إلا استحلّوه ولا عَقدا إلا ّ حلـّوه. إن أفظع الغِشِّ غِشُّ الأئمة!
ليس سرا ً، أن ابتذال التعاون مع المستعمِرين الإسرائيليين، ليس فقط من قبل ضباط منشقين، دخلوا في خدمة العدو علي رأس ما كان يـُعرف بجيش لبنان الجنوبي، ولكن من قبل أقطاب في السلطة اللبنانية ايضا، أوجـَدَ في ظروف لبنان تحديدا ً، إشكالية تلغي، بالنسبة إلي شرائح واسعة من سكانه، أهلية هذه السلطة للقطع في أمور مصيرية مثل تنظيم العلاقات بين اللبنانيين والسوريين.
ولا شك في أن مسألة هذه العلاقات، من أصلها، أبعد من نزوات وتقلبات أصحاب النفوذ في لبنان. فمن المرجـّح أن يكون القصد من وراء اهتمام الدول الغربية بها، هو إيجاد آلية لإغلاق الحدود، أو إرسال قوات دولية لحراستها. ولكن النظام السوري، الذي أظهر في لبنان قصوره السياسي، فضلا عن فساد قادة أجهزته الأمنية، وعن عيوبه البنيوية، التي سمحت لاثنين من نواب رئيس الجمهورية بجمع أموال كثيرة، قبل الانشقاق عنه والانقلاب عليه، لا يستطيع ركوب مطية التنازلات طويلا، من غير مراجعة للذات وإصلاح للحال. وإذا كان ليس قادرا ً علي فعل ما يتوجب فعله، فإننا نتمني له القوة والشجاعة، كي لا يـُقدم علي فعل ما لا يجوز فعله.
كاتب لبناني مقيم في فرنسا
القدس العربي