صفحات سورية

متى يتصالح الإسلامويون مع النقد الذاتي

null
فارس الوقيان
قبل أن يمارس العقل التقليدي هوايته في التصنيف والتخوين عبر ثنائية المع والضد، بوضع هذا في حقل الخير، وذاك في حقل الشر، أعترف بأنني أمقت توظيف التصنيفات السياسية والهوياتية إلا بالقدر الذي أستثمرها لتحليل قضية خاصة أو تفكيك منظومة فكر وسلوك تيار ما بأسلوب أحسب أنه عقلاني برهاني يقف على مسافة معقولة من الأيديولوجيات المتداولة على الساحة السياسية في الكويت. كما أعترف بأن التنظيمات كافة التي يقوم تفكيرها على قواعد أيديولوجية دينية، هي من أكثر الجماعات تعنتا ورفضاً لما يسمي بالنقد الذاتي، الذي لا يستقيم فكر، ولا تتطور أوضاع دنيوية حياتية من دون التمسك بأدواته ومناهجه لتجديد الدماء المعرفية لمنظومات تفكيرهم ومعتقداتهم، لأنه بكل بساطة يصبح الحديث نوعا من سفسطة، في الوقت الذى يتحاور معك احدهم، وهو يشعر بأنه دون غيره من يمتلك الحقيقة الكلية والنهائية عن كل شيء. كما أنه يتحاور معك بأسلوب عقيم يقوم على قواعد الأحكام المسبقة والاستعانة بالنصوص والمقولات غير القابلة للمس، أوالحوار، مع أنك تنتمي وإياه لمنظومة الهوية الثقافية إياها والمعتقد الدينى إياه مع تمايزات فى التفسير ومنهجية التفكير وطرق تناول الموضوعات.
قبل أسابيع وجهت تقارير أميركية انتقادات لجمعية إحياء التراث ذات العمل الخيري الإسلامي.. فلنفترض ان الولايات المتحدة قد جانبت الصواب، ولم تستند إلى قاعدة معلومات موثقة، وربما كذلك فعلت بخصوص الحقوق الإنسانية لشريحة البدون والمتاجرة بالبشر ونظام الكفيل وحق المرأة السياسي في السابق، لكن الذي أعرفه تماما أن الفكر الكويتي يمر بحالة من حالات الجمود والسكونية غير القادرة على ممارسة ما يسمى: النقد الذاتي، للكثير من الملفات والأوضاع التي يعيشها، وقد بقيت هذه الملفات كما هي، بل تعقد بعضها وتشابكت خيوطه للدرجة التي أصبحنا فيها بأزمة عويصة لا نعرف معها من أين نبدأ ولا إلى أين ننتهي في كثير من شؤوننا وقضايانا الكبيرة؟.
فاجأني في الواقع ذلك السيل العارم من التصريحات والردود لنواب الأمة وشخصيات عامة دينية وغير دينية على ذاك الاتهام الأميركي، باتفاقها على أن الجمعيات الخيرية الدينية هي كالرداء الأبيض، دورها مشرف ومحل فخر، ولا تشوبه شائبة، وغير ذلك من المصطلحات الكبرى المفخمة. وأنا هنا لا يعنيني الاتهام الأميركي بأي تفصيل من تفاصيله، وإنما ما أهتم به تلك الطريقة العاطفية الشعورية التي جابهنا بها الرد الأميركي، فلم أقرأ رداً واحداً يتناول ما ورد في التقرير الأميركي بطريقة عقلانية وموضوعية.كما لم يسع شخص أو مؤسسة إلى تبني موقف متوازن مثل إنكار الاتهام الأميركي، وهذا حق له، أو لها مع الاعتراف بأن هناك أخطاء عديدة في منظومة التفكير الديني، لابد من الاشتغال النقدي عليها ومراجعتها وتصحيحها. فالجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني في الكويت بتوجهاتها كافة، لا تحكمها استراتيجية عمل ديناميكية واحدة. كما أنها تفتقر للإدارة الحديثة والرقابة المحكمة على أموالها وغير ذلك.. دورها مغيب على المستوى الوطني، فهي لا تسهم في عملية التنمية البشرية، ولا حتى في تأهيل كوادر علمية تستفيد من إمكاناتها الفكرية، أو حتى تأسيس مشاريع تنموية في مجالات تعليمية وصحية وثقافية تصب في المصلحة العامة. ومن يقرأ الإعلانات الموزعة في الطرقات لتحفيز المتبرعين على المساعدة، يكتشف بأن عملها لا يتعدى مسألة جباية الأموال، لأنها لا تظهر إلا في شهر رمضان ووجود الأزمات والنكبات الخارجية. كما أن أسلوب صياغة الإعلان هو من النوع التقليدي القديم الذي يحفز الناس للشعور بالذنب، وتلقي العقاب، ما لم يبادروا مهرولين بأسرع وقت لتحرير شيك، أو إعطاء مبالغ نقدية، فخطابها يتوجه للعاطفة ولا يخاطب العقل فى المفردات المستخدمة. كما انه لايجعل مفهوم العمل الإنسانى والخيري حالة مؤسساتية تدخل في القناعات والمسالك اليومية المعاشة، بل تصبح تلك المفاهيم حالة موسمية طارئة مرتبطة بالأحداث والأزمات التي تمر على العالم الاسلامي فقط دون العوالم الاخرى التي تنتمي لثقافات وأديان مغايرة.
كيف يمكن لأحد ما إقناعي بالدور العملاق الذي تقوم به الجمعيات الخيرية في الخارج، في الوقت الذي تتكدس به عمالة وافدة في الشوارع تعاني الأمرين من الشركات الكافلة لها، حيث لا تعطيها أكثر من خمسة وعشرين ديناراً كراتب شهري، فهل سعت تلك الجمعيات الخيرية لإيوائهم ومساعدتهم والإطلاع على أحوالهم المعيشية الصعبة؟ ثم كيف تكون صادقة في مساعدة المجتمعات البعيدة، في الوقت الذي تعيش بين ظهرانينا عوائل تضم شيوخا وأطفالا يفترشون الصحراء دون مأوى وسبل عيش كريمة. وهناك كثر من شريحة البدون يعانون ضنك العيش، وترفض تلك الجمعيات لعب أي دور خيري وإنساني ينهي معاناتهم.
من خلال قراءة خاطفة لفلسفة العمل الخيري الإسلاموي، وجدنا بأن الإشكالية الكبرى تكمن في نمط التفكير العقائدي الصرف الذي يخلو من أي مضامين مدنية عقلانية، فأعضاء تلك الجمعيات لا يخرجون للشارع. كما لا يتلمسون حاجات الناس في المجتمع، لا يذهبون لموقع الحدث في عقر داره، ليس هناك رجال ميدان يتنقلون حيثما توجد أسرة منكوبة، أو شريحة مسحوقة، فتلك المؤسسات ليست أكاديميات تخرج أجيالا متفهمة لكيفية مساعدة إنسان وإنقاذه. فالجماعات الإسلاموية في الكويت على كثرة رجال ومشايخ الدين فيها، ليس من بينهم شريحة كبيرة يقترب دورها من دور أنصار حقوق الإنسان، فالكل موجود ويحتشد في الوقت الذي يستدعي الحال، أو الظرف لخطباء ومتحدثين ومدافعين لفظياً عن العقيدة وحين تمس من الخارج، فرجال الدين لدينا ينتمون كلهم لنفس قماشة الفكر الذي يعبر عن نفسه بصورة فاعلة في أوقات الأزمات والحروب، وليس في أوقات البناء والتعمير والحاجة لمشاريع حضارية خلاقة.. فقد كنا نسمع على سبيل المثال عن أفغانستان المنكوبة والمتورطة في الحرب الأميركية عليها قبل سنوات عبر إعلانات المساعدات والتبرعات، فلم نعد نسمع عن أفغانستان المستقرة المنشغلة بالإعمار والبناء وانطلاقة الحياة، وهي بلد إسلامي في الوقت الراهن…
الطابع المدني يكاد يكون مفقوداً في منظومة تفكير الإسلامويين، حتى في الأسلوب الذي تشيد فيه المساجد كدور عبادة في الكويت، فكل البلدان الإسلامية تفتخر بمساجدها المشيدة بأفضل طرز العمارة وفنونها، إلا في الكويت، فليس فيها ما يلفت نظر الزائر والمقيم، لأنها تقريباً على وتيرة واحدة من حيث الشكل والأسلوب المعماري التقليدي وغير ذلك. ليس هناك خطط تدرس طاقتها الاستيعابية، ما يضطر الأمر لترميمها وتوسعتها مرات عدة في فترات زمنية قصيرة، ما يكبد الأجهزة المعنية خسائر مالية كبرى.. ومع ذلك نجد في بعض المناطق مساجد صغيرة مشيدة بمادة «الكيربي» والألمنيوم، ومصلون يجلبون سجاجيد للصلاة خارج المساجد نظراً لازدحام المصلين، كل ذلك يحدث في ظل الأموال الطائلة المحولة للخارج من قبل الجمعيات الخيرية..
يصدق التقرير الأميركي في انتقاده واتهامه للعمل الديني الخيري في الكويت،أم لا يصدق، فهي مسألة
لا تهم الذات المتأملة في منظومة التفكير الديني عندنا، لكن الواقع الذي لا يمكن دحضه، هو أنه بين الجماعات الدينية والنقد الذاتي خصومة أوتوماتيكية لا يمكن نكرانها، لأن نمط تفكيرها هو من النوع الماضوي النصي، وغير المتصالح مع قيم الحداثة. ولايمكن ان يصلح حالها، أي الجماعات الدينية، ما لم تضف على نمط تفكيرها واسلوب عملها طابعا مدنيا ومنهجا عقلانيا قادراعلى إعادة صوغ ونقد المفاهيم التقليدية المعاشة بشكل حديث، يتواكب مع المتغيرات الكبرى التي يمر العالم فيها. وهذا المطلب ليس دعوة لانتزاع الهوية، وبتر الخصوصية، وإنما هو دعوة للتعايش مع العالم، والنظر الى المسائل بعيون واقعية وليس بعيون ماضوية ليس بيننا وبينها أي صلة تذكر.
جريدة أوان الكويتية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى