ثورة مصر

ثورة «المعنى» الإنساني والأمل بالتغيير

سليمان تقي الدين
لثورة مصر معان ودلالات لا يمكن فهمها بواسطة الفكر التقليدي عن التغيير. الثورة الشبابية لا تخضع لقوالب الثورات الاجتماعية أو السياسية المعروفة من قبل. ربما تشبه في بعض الوجوه الثورة الطلابية الأوروبية أو ربيع 1968. لكن التشبيه دائماً أعرج. التحقت بالثورة الشبابية المصرية فئات وقطاعات اجتماعية وتيارات سياسية واسعة. المضمون الاجتماعي يكبر بانضمام العمال والفقراء والعاطلين عن العمل. والمضمون السياسي يتبلور أكثر بانحياز نخب بارزة من الطبقة الوسطى ومن منظمات المجتمع المدني، خاصة المهن الحرة والمثقفين.
برنامج الثورة المصرية وطني ديموقراطي. الوطني هنا له معنى أوسع بكثير من مجرد موقف سياسي في مواجهة إسرائيل والهيمنة الغربية. هذه «ثورة المعنى» الإنساني الشامل، أي البحث عن الكرامة الوطنية التي تتمثل في بناء مجتمع منفتح على التطور والتقدم والحرية يستطيع فيه الشباب تحقيق ذواتهم وتفجير طاقاتهم وإسقاط سلطة القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي. هؤلاء الشباب يريدون نظاماً يفتح لهم آفاق المشاركة والاختيار والفعل المؤثر في تقرير السياسات العامة. يرفضون احتجازهم من سلطة تحمل كل خصائص الاستبداد والفساد والتخلف ونهب الثروة الوطنية وهدرها وتهميش وإفقار معظم الفئات الشعبية وتشويه الاقتصاد الوطني وتحويله إلى اقتصاد ريعي وسمسرة وتضخيم ثروة الجماعات الطفيلية. يريدون مصر دولة حديثة قوية فاعلة في محيطها الإقليمي والعالمي.
يستمد هؤلاء الشباب وعيهم من تاريخ مصر البعيد والقريب، يعرفون أن حضارة مصر من أمهات الحضارات الإنسانية، ويعرفون نهضتها في التاريخ الحديث واصطدامها بالمشروع الغربي، ويعرفون بواسطة ذاكرة أهلهم القريبة الدور الذي لعبته في حركة التحرر الوطني العربية والعالمية. عبد الناصر ليس مشروعاً مستعاداً بل هو جزء من الإرث الوطني المتراكم ومن الثروة الوطنية المادية والمعنوية كالنيل والسد العالي والأهرامات وأفواج النهضة الثقافية الفكرية والثقافية والفنية. هؤلاء الشباب يعيشون تاريخهم ويعتبرون أن الأجسام السياسية التي كبرت حول مصر أو شكلت تحديات لها كبرت لأن مصر تراجعت عن دورها وانكفأت على ذاتها واختصرت طموحات قيادتها في رعاية نخبة سلطوية فاسدة لا تقيم وزناً إلا للثروة والسلطة وتتواطأ مع سياسات الهيمنة الغربية على النهب وعلى تحجيم دور مصر.
لا شك أن وسائل الاتصال الحديثة ساهمت في تسهيل مهمة الحركة الثورية، وأن تقنيات الإنترنت والهاتف المحمول استخدمت ضد ثقافته الاستهلاكية المقصودة، لكن الثورة هي «المعنى» والمضمون وليست الوسائل. هذه الوسائل ساعدت على توحيد الرؤية وقيادة التحرك كما ساعدت على كسب المعرفة بما هو دائر في العالم ضد سياسة التعتيم وكتم المعلومات والمعرفة ومنع الحريات، كما ساهم الإعلام في حماية الثورة وتوفير أوسع تعاطف معها.
إلا أن الثورة هي ترابط وتكامل حركات الاحتجاج منذ سبعينيات القرن الماضي، انتفاضة الخبز، انتفاضة استقلال القضاء وحرية الصحافة وحرية الأحزاب والانتخابات الديموقراطية ودعم الشعب الفلسطيني وغيرها الكثير. إنه ذو دلالة أن تستعيد الثورة الأغنيات والأناشيد الوطنية والشعر المقاوم الذي ارتبط جميعه بنضال الشعب الوطني.
في ميدان التحرير شبان وشابات من بيئات اجتماعية مختلفة ومتنوعة يتحدثون لغة واحدة هي لغة الحرية واللغة الوطنية. لا يتمثل هؤلاء بأي دولة أخرى أو شعب آخر أو ثقافة أخرى. هم عرب مصريون يبحثون بجدية عن مستقبل بلدهم وعن قوة دولتهم وعن عافية وسلامة مجتمعهم. لا تشغلهم الحسابات السياسية الفئوية ولا البحث عن دور لأشخاصهم في لعبة السلطة. هذه الثورة ذات برنامج حقيقي بسيط وعميق في آن. تغيير النظام الاستبدادي إلى نظام ديموقراطي، إلى نظام يعكس دور القوى الحية ويعبّر عن تطلعات جميع الفئات الشعبية والوطنية. هذا المضمون لمطالب الشباب يتجاوز كل الأحزاب والتيارات الأخرى ولغتها العقائدية الضيقة. ثورة ديموقراطية لأنها تريد إقامة دولة القانون على مبدأ المواطنة وحق الإنسان الفرد في ممارسة دوره.
حين تخرج مصر من أسر نظامها الذي قام نتيجة الانقلاب على موقعها الوطني وعلى منجزاتها في التنمية وتنطلق في المسار الديموقراطي يفقد المشروع الأميركي ومن ورائه إسرائيل ركيزة أساسية من ركائزه قبل أن نتحدث عن خيارات مصرية تعيد التوازن الذي اختل في المنطقة بغياب الدور العربي في اتجاهات مختلفة. هذا التحول المصري المأمول والمتوقع يخرجنا من مخطط التنافر الديني والقومي والإقليمي الذي وضع العرب في موقع دفاعي عن وجودهم وعن وحدة مصالحهم. لن تكون من بعد المنطقة ساحة تنافس بين دول إقليمية ليس العرب جزءاً من معادلتها. لن يكون «شرق أوسط» بالمفهوم الأميركي والغربي، ولن يكون «إسلامياً» إلا من حيث مكونات ثقافة معظم شعوبه. ولا ضير في أن يكون الإسلام هوية ثقافية جامعة، طالما أن العرب يستطيعون إقامة دولة حديثة مدنية لجميع مكوناتها وثقافات شعوبها الإسلامية وغير الإسلامية. إن التحدي الراهن هو أن يخرج العرب من التبعية إلى الدولة الوطنية الديموقراطية وهذا ما تعد به حركات التغيير من تونس إلى مصر وما يلوح في الأفق العربي الأوسع.
أبلغ تعبير عن ردة فعل الشباب العربي خارج مصر جاء على لسان أحدهم بالقول: الآن صار لديّ أمل بأن لحياتنا معنى وأننا قادرون على الاختيار والتغيير وعمل ما يؤكد طموحاتنا كشباب وكشعوب. هذا هو المغزى العميق لثورة مصر، الأمل والقدرة على العمل والتغيير. أصبح «العالم لنا» بعد أن كنا نحسبه «عالماً ليس لنا» ولسنا فيه من يستطيع أن يشارك في معركة الحضارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى