صفحات مختارة

كيفية تخطي إشكالية حداثة / تقليد

null

د.منى فياض

يرى رينهارد شولتسه أن التقليد يفهم هذه الايام، على انه مجرد غياب الحداثة، بينما ينظر الى هذه الاخيرة على انها التحرر من التقليد. وتدخل الحداثة هنا، باعتبارها فعلا اجتماعيا وثقافيا متحركا للتحرر من التقليد. يعد هذا تحليلاً مبسطاً. لقد وقع الاختيار على الثنائية (تقليد-حداثة) لتفسير الاحداث التاريخية والظواهر الاجتماعية: التقليد على حد الزعم السائد هو ذلك الموجود اصلا (الموروث) في المجتمعات غير الاوروبية، والحداثة هي كل ما ظهر من جديد في الغرب. لذا يحصل نقاش لما يقوم به بعض العلماء المسلمين من محاولات تحديثية، وبموجب ذلك يطلق على ما يقوم به هؤلاء بأنه أسلمة الحداثة وليس تحديثاً للإسلام! لكن ما الفرق الجوهري بين المسألتين؟

وبموجب هذا الاعتقاد فإن الحداثة يمكن ان تفسر دائما في المجتمعات غير الاوروبية، فقط كشيء براني قادم من اوروبا، وكعملية تحديثية للدولة والمجتمع متبناة من قبل النخب المحلية لتلك المجتمعات. ان ثنائية: تقليد-حداثة، ادخلت اذن تحت عباءة ثنائية: غرب ولا غرب.

يصبح التقليد هنا يعني الحالة السابقة على التدخل الخارجي للحداثة او للكولونيالية. بهذا المعنى بات واضحا ان إلصاق التقليد بالمجتمعات غير الاوروبية ما هو الا اسقاط لنقد الحالة الاقتصادية والاجتماعية الغربية من منظور معاصر على تلك «المجتمعات الاجنبية». وبتأثير من المفهوم الفيبري للمجتمع التقليدي نُظر الى العودة الرومانسية الى التراث الأصلي في العالم الاسلامي على انه تقليد (تراث) وعدّ بحسب فيبر (نظاما، موروثا، ابويا، وبدائيا) ما يعني استبداديا وسلطانيا ونخبويا.

يعبر هذا عن ميل الى تحديد «ماهوي» لمفهوم الحداثة (جامد)، ما يعني تثبيت خواص ثقافية فالتة من عقال الزمن وهذا أثّر بدوره على تفسير تاريخ الثقافة الاسلامية. ومنذ العصر الذهبي للتاريخية أُبرزت في الاختصاصات الاستشراقية قواعد محددة للاسلام جعلت من الممكن وضعه كذات للتاريخ الاسلامي في مقابل ذاتانية حداثية ذات غلبة. فعندما دخلت الحداثة كعنصر تصنيف في مجال العلوم الاجتماعية وُضع الاسلام في الطرف المقابل لها. وبدأ يتنافس على هذا الاساس ومنذ اواخر السبعينيات نوعان من القواعد المعيارية: هما الحداثة من جهة والاسلام من جهة اخرى. واعتبر الاسلام بدوره -طبقا لهذا- واحدا من ادوات التصنيف في العلوم الاجتماعية. وقد وجدت في العالم الاسلامي ثنائيتان: تاريخية (معاصرة) وماهوية (اسلام/حداثة).

ان مفهومي «تقليد» و«تجديد» نادرا ما كانا ملائمين لوصف الحقائق الاجتماعية وصفا تحليليا. وان استمرار هذه الثنائية كأداة لوصف المجتمعات غير الاوروبية، يمكن فهمها بشكل صحيح، فقط، من خلال كون الحداثة الغربية ما تزال بحاجة الى «نقيض» لكي تستطيع ان تفهم نفسها. لكن اجريت في الاطار النقدي لنظرية ما بعد الحداثة إعادة تقييم جذرية لمفهوم الحداثة. وفتح بهذا المجال امام تفسيرات جديدة للثقافات الاسلامية الجديدة والمعاصرة. المهم هنا هو انعتاق الحداثة من بنيتها التناقضية، كما ان ذلك الفصل الذي طالما رأيناه بين الثقافات الغربية وغير الغربية قد انهار الآن، من حيث ان هذا الفصل قد استند اساسا الى التصنيف الذي يزعم ان الحداثة «شأن غربي» وان التقليد «شأن شرقي».

ولقد سبق لفوكو أن بيّن، ان الحداثة مرحلة شديدة الخصوصية وقابلة للنقاش، ان ما عدّ حتى الآن تقليدا، تبين انه جزء من الحداثة. مَثَل السجن يبين ان: التنوير الذي اكتشف الحرية اكتشف ايضا القيود. ولقد حذر فوكو بما يكفي من فهم تعميمي لما هو مرحلي. ومن هنا عنوان كتابه التهكمي كما وصف: «الكلمات والأشياء»، مشددا على ان الكلمات تتخذ معاني مختلفة بحسب الحقبة، وان الممارسة وحدها (المتغيرة بالطبع) هي التي تحدد للكلمات معانيها المتبدلة: معنى دولة، جنون إلخ… وهذا ما يمكن ان يساعد على تخطي اشكالية التعارض بين الحداثة والتقليد،

لقد اجريت في الاطار النقدي لنظرية ما بعد الحداثة، إعادة تقييم جذرية لمفهوم الحداثة. وفتح بهذا المجال امام تفسيرات جديدة للثقافات الاسلامية الجديدة والمعاصرة. المهم هنا هو انعتاق الحداثة من بنيتها التناقضية، وما يساعد على ذلك انهيار الفصل الذي طالما رأيناه بين الثقافات الغربية وغير الغربية، من حيث ان هذا الفصل قد استند اساسا الى التصنيف الذي يزعم ان الحداثة «شأن غربي» وان التقليد «شأن شرقي».

وبهذا صار مفهوما الآن ان الحداثة سوف تظل مفهوما غير متسق، طالما ظلت تحشد مع التقليد. وهناك وجهات نظر جديدة تنظر الى الحداثة على انها اسلوب ذاتي وجمالي لنخب معروفة ومحددة تاريخيا. ويسقط بهذا ايضا الفصل السوسيولوجي بين التقليد والحداثة، من حيث ان كلا المفهومين يشكلان من منظور ما بعد الحداثة شكلا موحدا لامتلاك العالم، او كما يعبر فوكو مرحلة تعبيرية خاصة..

وبزعم شولتسه ان امكانية ان يقدم الأفق النظري والعملي للمجتمعات غير الاوروبية حوافز قوية لبحث موضوع الحداثة، متوافرة الآن تماما. لانه اذا امكن ان يكشف النقاب عن ان نخب المجتمعات الاسلامية والصينية واليابانية قد عرفت العالم من حولها من خلال تصوراتها، وانها استخدمت ايضا معايير خبرتها الذاتية في توصيف موضوعي لمحيطها، وانها أخيرا أعادت تشكيل ثقافتها بشكل جذري. واذا كان ذلك كذلك، فانه يصبح من الواضح ان «الحداثة» لم تعد امتيازا غربيا وانما كانت عملية عالمية واسعة النطاق، وبالتالي فقد بات من الممكن وجودها في السياقات الاخرى كما في السياق الغربي. ولعله كان علينا ان نتكلم بصيغة الجمع عن «حداثات» -وليس عن حداثة واحدة- او انه كان علينا ان نستوعب الحداثة بوصفها عملية تاريخية عالمية، تنطوي على اشكال تعبيرية شديدة التباين في الثقافات المختلفة طالما ان تشكلها كان دائما يتم في اطار تراث معين.

يؤدي هذا الموقف بنا الى فهم وقبول عمليات تحديث الاسلام الجارية من دون محاسبتها هل هي اسلمة الحداثة ام تحديث الاسلام؟ انها عملية جارية وتنطوي على تأقلم مع ما يجري في العالم وتعد نوعا من التأقلم الثقافي. وينطوي كل هذا على اهمية بعيدة المدى لتاريخ الثقافة الاسلامية بالنسبة للرؤية المعاصرة. وككل تغيير فان هناك قدرا من الألم والعنف للوصول الى مرحلة جديدة من التوازن.

كاتبة من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى