صفحات العالمما يحدث في لبنان

مهمات بعد الانتخابات النيابية اللبنانية

سليمان تقي الدين
نجحت العملية الانتخابية في تجديد شرعية النخب والقوى السياسية المهيمنة داخل الجماعات الطائفية. تستطيع كل فئة أن تفاوض الآخرين على حصتها من السلطة وعلى قوتها التمثيلية وعلى طروحاتها السياسية.
أما الحديث عن انتصار مشروع على آخر أو خيار وطني عام، وأن البلاد ستسلك وجهة مختلفة بالمعنى الحقيقي للكلمة ففيه الكثير من المبالغة. هناك نقطة توازن وطني يصعب على أي فريق تجاوزها مادام الانقسام السياسي في الشارع لا يتخطّى حدود الكتل الطائفية والمذهبية، وطالما لا يستطيع أحد أن يخرج فريقاً سياسياً له وزنه التمثيلي الطائفي من معادلة السلطة.
الأكثرية البرلمانية تعطي لأصحابها أفضليات وأرجحيات من دون شك في الكثير من الأمور الإدارية والتفصيلية، وتعطيها أيضاً بعض الأولوية في اختيار بعض المواقع الحسّاسة، كما تسمح لها في حجب نفوذ الآخرين ومنعهم من تحقيق رغبتهم أو إرادتهم في مسائل عدة وقرارات وتوجهات. لكن أخذ البلاد إلى تحولات جذرية على المستوى السياسي الوطني دونه الكثير من العوائق والعقبات. هذه النتائج لن “تغيّر وجه لبنان”، ولن “تهدد كيانه”، بل هي تعيد التأكيد على التوازن السياسي العام في البلاد.
لقد صار واضحاً أن فائض القوة السياسي لدى فريق طائفي لا يمكن أن يُغيّر جذرياً في النظام السياسي، حتى في ظل رجحان إقليمي في مصلحته، ما لم يحصل تسليم بهذا الدور والموقع لدى فئات واسعة داخل كل المجموعات الأخرى. في تجربة “الطائف” بعد الحرب لم تنجح التعديلات المهمة في توازنات النظام إلّا بانحياز قوى وفئات مسيحية مهمة إلى مشروع الاتفاق، في حين لم تنجح كل المبادرات السابقة والحلول، رغم اختلال التوازن الداخلي والخارجي، لأن المسيحيين لم يقبلوا بها. والمثال البارز على ذلك كان إسقاط “الاتفاق الثلاثي” الذي انعقد في دمشق بين “القوات اللبنانية” وحركة “أمل” و”الحزب الاشتراكي” عام 1985.
في الواقع أن جميع القوى تدرك طبيعة المشكلة اللبنانية والنظام السياسي الذي لا يمتاز بأية مرونة للمتغيّرات السياسية وحتى المتغيّرات الديموغرافية والاجتماعية. ولأن هذه القوى تتحايل على هذا الواقع كلما جنحت الأمور في غير مصلحتها السياسية، فهي تلجأ إلى اختراع حلول وهمية. ومن هذه الحلول الرهان على دور رئاسة الجمهورية أو محاولة استخدام هذا الموقع كأنه يستطيع أن يحتوي النزاعات، أو أن يسهم في بناء التوازنات أو الحفاظ عليها.
لا يمكن لرئاسة الجمهورية أن تصبح فريقاً فاعلاً في السلطة التنفيذية من دون أن يعني ذلك تبديلاً جوهرياً في طبيعة نظام “الطائف”. ليس هناك من رئاسة خارج التوازن الطائفي، وكذلك شأن المؤسسات الدستورية كالحكومة أو البرلمان. لذا ليس هناك من استعداد فعلي لدى أي طرف أن يعيد النظام الرئاسي أصلاً، ولا يستطيع النظام الرئاسي أن يعمل في ظل القوى الطائفية التي تعملقت الآن، وصارت تحتكر التمثيل السياسي في جماعاتها.
حكومة الوحدة الوطنية هي الترجمة العملية لما يفرضه الدستور من تمثيل عادل للطوائف، فإذا كانت الطوائف الآن أحادية التمثيل بسبب الأزمة الوطنية وبسبب قانون الانتخاب، فلقد صار متعذراً تجاوز مشاركة القوى التي منحتها الانتخابات حصرية التمثيل. سنكون بالضرورة أمام حكومة تعكس التوازن السياسي العام من دون أن يكون فيها “الثلث المعطل”، هذه البدعة الدستورية التي جرى إعطاؤها تفسيرات طائفية غير واقعية. لكن المخرج الحقيقي من حال التأزم السياسي والمذهبي يجب أن يعالج في إطار هيئة الحوار الوطني التي ستتولى معالجة القضايا الخلافية الكبرى وفي مقدمتها الاستراتيجية الدفاعية. وفي جميع الأحوال ستكون الحلول في المدى المنظور “تسووية” مادام المحيط الإقليمي لم يستقر على معادلات وحلول معينة.
لم يعد ممكناً في لبنان تأجيل البحث بالشؤون الإصلاحية التي تؤدي إلى تخفيف حدة التوترات السياسية والمطالب الفئوية. من الواضح أن هناك أولوية لقانون الانتخاب ثم استكمال المؤسسات الدستورية عبر تقنين عمل مجلس الوزراء وتعديل بعض صلاحيات رئاسة الجمهورية بما لا يؤثر في صلاحيات الحكومة. كما لا بد من تفعيل دور السلطة القضائية وتحقيق استقلالها لأنها سلطة رقابة على السلطات السياسية والملاذ الأخير لحقوق المواطنين. لكن إقرار قانون اللامركزية الإدارية هو من الأولويات التي تساعد على تخفيف المركزية السياسية الشديدة وإخضاع إدارة شؤون المواطنين كلها لعجلة الحكومة وتوافقاتها السياسية. وطبعاً لا بد من معالجة الشؤون الاجتماعية كجزء من الاستقرار السياسي. إذا تم هذا المسار فإن القضايا السياسية الكبرى التي تتعلق بالسياسة الخارجية والدفاعية تأخذ بعداً أقل حدة بانتظار استقرار النظام الإقليمي.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى