وماذا عن الثورة في سوريا ؟
بدر الدين شنن
ثمة ثوابت في السياسة لايمكن القفز فوقها ، وهي ، ليس هناك ثورات ’تحدد مقوماتها ومواقيتها بناء على الطلب . وليس هناك ثورات ’ترسم خرائط مساراتها بالمسطرة . وليس هناك ثورات خاضعة للعرض والطلب وللإستيراد والتصدير في أ سواق السياسة . كل الثورات التي تأتي من هذه المصادر ، هي مصطنعة .. مزيفة .. ومصيرها الفشل وإن انتصرت مؤقتاً . الثورة الأصيلة تنبثق عن واقع موضوعي مأزوم ، مرفوض ، لايمكن استمراره .. أو استمرار العيش تحت شروطه ، وبات تغييره شرط استمرار الحياة ، وفق معايير إنسانية حضارية عادلة . وعند تطابق ضرورة اسقاط النظام مع توفر الأداة .. الإرادة الجمعية المعبرة عن البديل الثوري المغاير للواقع المرفوض ، تصبح الثورة جاهزة .. بانتظار مبادرة ذكية .. أو حدث مأساوي مثير للغضب .. لتشتعل .
بمعنى ، أن الثورة الأصيلة المعبرة عن اللحظة التاريخية ، هي ، أولاً ، قضية نبيلة ، تمثل الجامع المشترك الأعظم للقوى والطبقات الاجتماعية السياسية المقهورة في المجتمع .
وأن الثورة ثانياً ، هي ثوار ، وقادة ، متمردون حتى نخاع العظم على الواقع المتعارض ، مع قيم الحرية والمساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية .
والثورة ثالثاً ، هي روح متفائلة .. وإرادة .. وتصميم .. وتضحية .. وثقة باندثار الحاضر الظالم .. ومجيء الغد المضيء العادل .
بيد أن ما يجب أخذه جدياً بالاعتبار هو ، أن الثورات بحاجة أيضاً إلى روح .. تشبه الروح ” الصوفية ” في الزهد والتفاني .. في خدمة الثورة . وبحاجة إلى القناعة الراسخة بحتمية انتصار الثورة .
ليس بوارد الآن ، في أجواء الثورة الاجتماعية الديمقراطية المنتشرة أفقياً وجغرافياً ، تجديد النقاش النظري ، حول مقولة ” الحتمية التاريخية ” التي انقسم ” المنظرون ” والمثقفون حول مدى مطابقتها لحركة التاريخ . فلا وقت الآن للكماليات الفكرية .. والتنظيرات الصالونية . ولكن الثورة الشعبية في تونس ، ومن ثم في مصر ، التي تدق جدياً أبواب الجزائر واليمن والسودان ، وتنتشر نسائمها فوق سوريا الحبيبة ، تحث العقول على العودة إلى الأخذ ببعض جوابها . وذلك ليس لإعادة العمل بالعقلية الاتكالية ، فقد ولى زمن الاتكال وزمن من كان يتكل عليه ، وإنما لاستعادة دينامية عقلية ثورية متفائلة ، تؤكد ا ستحالة ا ستدامة أنظمة ا ستبدادية ، فاسدة ، عفنة ، مستعبدة لشعوبها بسيف القمع ، ولانتزاع حلم الحرية والكرامة والعدالة المصادر ، الذي تمسك به وحمله آلاف وآلاف المعتقلين تحت التعذيب ، وفي الزنازين القبرية ، وخلف قضبان سجون الموت البطيء سنوات تتلوها سنوات . وتمسك به وحمله المنفيون .. المشردون في تيه الغربة ، يكابدون حرقة الشوق لتقبيل أرض الوطن .. قبل أن يهتريء ما تبقى من العمر .. وقبل أن تنغلق العيون قبل وداع ياسمين دمشق .. وقرنفل حلب .. وزهر الرمان في عفرين .
بعبارات موجزة ، إن عدالة القضية ، التي تحمل مضامين الحقوق الإنسانية الأساسية ، في الحرية والمساواة في السيادة والمواطنة ، واللقمة الكريمة ، المسلحة بالروح الثورية المتفائلة تصنع المعجزات ..
هكذا يقول التاريخ .. وهكذا تعطي تجارب الشعوب الثورية السابقة .. وتجارب الشعوب اللاحقة .. وعلى الأخص الثورة الشعبية في العام الحالي في تونس .. ومن ثم في مصر ..
بعد الثورة الشعبية في تونس المستمرة في تصاعدها لاستكمال انتصارها ، وبعد انلاع الثورة الشعبية في مصر ، التي فاقت كل التوقعات والتصورات .. وتجاوزت آفاقاً غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر ، والتي تنتقل بمستويات حشودها ومطالبها وتصميمها باتجاه الحسم ضد الطاغية ” حسني مبارك ” ونظامه العفن ، يطرح السؤال ، وماذا عن سوريا ؟ .. ألا تتوفر فيها نفس الشروط الاجتماعية السياسية التي فجرت الثورة في تونس وفي مصر ؟ .. ألم يبادر بعض الشباب السوري في الدعوة لتجمعات غضب في الداخل والخارج ؟ .. ولماذا لم تعرض شاشات التلفزة مشاهد اعتصامات جماهيرية غاضبة ، في المراكز الأساسية المحددة في هذه الدعوة ، في دمشق وحلب ؟ .. ولماذا على مستوى الخارج ، كانت هناك تجمعات غضب سورية متواضعة ، في عاصمتين أوربيتين فقط ؟ ..
هل قراءة الواقع الموضوعي السوري كانت خاطئة .. بمعنى أن التناقض الأساس فيه ، لم يبلغ بعد مستوى الضرورة الجمعية لتغييره ثورياً ؟ ..
إعطاء جواب شامل على كل هذه الأسئلة ، ليس سهلاً . فهذا يتطلب أولاً إعادة قراءة شاملة للوضع السوري القائم .. فيما يتعلق بدور النظام وآلياته السياسية والنقابية والقمعية ، بمصادرة ، وتصحر السياسة ، وفيما يتعلق بدور وآليات المعارضات الأحادية والمشتركة في بناء الشارع السياسي . وفيما يتعلق بالنخب التي تصدرت قيادة المعارضات وعلاقتها بالحركة الشعبية . وفيما يتعلق بالخطاب الرسمي ، والخطاب المعارض ، في الحقل الاجتماعي الاقتصادي ، تناقضاته وتقاطعاته ، وفي الحقل السياسي الوطني الديمقراطي ، ا شكالاته وتجاذباته ، وفي الحقل الفكري والثقافي المعني بالاصلاح .. والتغيير .. اتجاهاته الرئيسية وخلفياته الطبقية . وفيما يتعلق بالشباب وأزماته ومآسيه وطموحاته .
غير أنه يمكن التأكيد بموضوعية تامة ، أن الواقع الاجتماعي السياسي الراهن في سوريا ، فيه الكثير من الشبه ، شبه المتطابق ، مع الواقع الاجتماعي السياسي في تونس ومصر ، لاسيما ، من حيث التمايز الطبقي والفساد ، والإذلال ، والاستغلال ، ومن حيث القمع ومصادرة الحريات والسياسة واستئثار الحزب الحاكم بالسلطة والثروة وقيادة الدولة والمجتمع .
اذن ماهو المعوق في التعاطي مع استحقاق الثورة ؟ .. بالقطع ليس القمع وحده ، هو الذي أوصل البلاد إلى هذه المعادلة الصعبة . بل هو إلى حد كبير ، الخلل في بنية وخلفيات ووسائل المعارضة ، التي تضمنها خطابها المعارض بعامة والسياسي الاجتماعي بخاصة ، الذي تجنب الأخذ بمطالب الأوساط الشعبية الاجتماعية الاقتصادية . الأمر الذي حرك الالتفات إليه لدى هذا الفصيل المعارض أوذاك ، عند قراءة الممارسات السابقة أو عند رسم التوجهات نحو المستقبل . وهو أيضاً النهج الاصلاحي ” التشاركي ” السلمي التدرجي في الصراع مع النظام . وهو تراجع فصائل ماركسية باتجاه السلطة أو الليبرالية وتخليها عن الطبقات الشعبية ، وإعلان ” الأخوان المسلمين ” مهادنة النظام .. بل والتخلي عن اسم الجماعة والسياسة والاكتفاء بالأنشطة الدعوية مقابل سماح النظام لهم بالعودة إلى البلاد .
هذا المشهد السياسي السوري البائس ، ليس حالة سورية خاصة بين البلدان العربية المهيأة موضوعياً للثورة الاجتماعية الديمقراطية ، سواء مايتعلق بالقمع ومصادرة السياسة ، أو ما يتعلق بالأحزاب المعارضة المترهلة العاجزة سياسياً وتنظيمياً عن إدارة الصراع مع النظام الديكتاتوري . بل هكذا كان الحال في زمن ماقبل الثورة في تونس وفي مصر . ولم تسترد بعض الأحزاب المعارضة المتقوقعة على خلفياتها المفوتة المتخلفة وعلى عجزها حتى قاربت مستوى الصفر ، إلاّ بعد أن شقت تنظيمات ومبادرات شبابية طريقها وصنعت وطرحت آلياتها وثورتها .
على أنه ليس الآن وقت المناظرات .. والمقاربات الاتهامية والتبريرة لمرحلة مضت أو تذرو الرياح آخر بقاياها .. كل الوقت الآن للإجابة على سؤال ا ستحقاق الثورة الاجتماعية الديمقراطية ، الذي يستدعي عدداً من الأسئلة الهامة : هل الواقع الموضوعي السوري عامة والشعبي خاصة المشحون بالإفقار والتجويع والبطالة والأزمات المعيشية ، هو في حالة تسمح بالانتقال به إلى مرحلة انجاز التغيير الثوري ؟ وهل يصح الاقتباس من تجربة الثورة في تونس وفي مصر ؟ ويستدعي كل أدعياء المعارضة للإجابة عليها .
صحيح أن الظروف الاجتماعية السياسية والقمعية متشابهة في كل من سوريا وتونس ومصر ، كما هي متشابهة أيضاً مع بلدان عربية أخرى . لكن كل بلد له خصوصياته ، في التعبئة الجماهيرية والتنظيم وأشكال الحراك . في تونس لم يكن احتراق جسد ” محمد بوعزيزي ” هو الذي أطاح ب ” بن علي ” بل كان الإضافة التراكمية على كم هائل من النضالات العمالية والشعبية الاجتماعية والسياسية طوال عهد الديكتاتور المخلوع . أما في مصر ، فإنه بعد آلاف الاعتصامات والأضرابات العمالية والطلابية والحقوقية والسياسية ، جاءت دعوة الشاب فؤاد غنيم ، على الفيس بوك ليوم غضب ضد التوريث وحالة الطواريء ، جاءت إضافة تراكمية حولت الكم النضالي المتراكم إلى حالة تفاعلية نوعية ، وتطور الحشد الشعبي من مئة وخمسين شاباً إلى آلاف وعشرات الآلاف .. وحدث الانفجار الشعبي المليوني الكبير ، الهادر على مطالب أوسع وأعلى بلغت ذروتها بشعارات اسقاط النظام . وهذا ما يستدعي السؤال : هل ثورة الشعب السوري بحاجة ل ” بوعزيزي ” سوري حتى تشتعل ؟ هل هي بحاجة إلى تجمع جماهيري شجاع ، في إحدى ساحات دمشق أو حلب ، و يحدث الصدام الصامد مع النظام ، حتى يتحقق الحشد ، ويصبح للمناضلين السوريين ميدان للتحرير أيضاً ؟ .. إن الدلائل تؤكد ، أن المثالين لاينطبقان بالضرورة على الواقع السوري .
بيد أن الشعب السوري قادر على تجاوز حالة الجمود السياسي الراهنة . وقادر أيضاً على إبداع أحزابه وآلياته الثورية .. والبدايات التي شرعت تخطو على مسارات بناء فصائل وتحالفات اليساري الديمقراطي ، لابد أن تتطور وتقوى وتثبت حضورها .
ومثلما تغلب الشباب في مصر على معوقات النظام الإلكترونية والقمعية ، فإن شباب سوريا الأذكياء الشجعان سيتغلبون أيضاً على كل أشكال المعوقات .. وستكون هناك .. بكل تأكيد .. محاولات .. ومحاولات لانطلاقة أيام غضب سورية ناجحة ، تنبع من الواقع الموضوعي المأساوي المعاش ، ومن منعكسات هذا الواقع الوحشية على الجماهير الشعبية . وتوظيف ذلك في المتابعة لإعداد الدعوة والتعبئة مرات .. ومرات .. بأشكال ، وأماكن ، ومناسبات ، وأسباب متعددة .. تحددها .. وتدركها .. وتفهمها .. حدسية الشباب .. وعقلية الشباب .. وعيون الشباب .. التي ستواكبها وتتفاعل معها بأقصى الاستطاعة والشرف قوى ومنظمات يسارية ، تملك الرؤية السياسية الثورية .. وتملك القدرة على استقطاب الجماهير المقهورة .. المحرومة من الحرية والكرامة والمعيشة الإنسانية اللائقة ..
من أجل أن يتحول المفترض .. والمأمول .. في النضال الشعبي الثوري .. إلى واقع حتمي ..