صفحات سورية

كلنا أصوليون كلنا متطرفون

null
سعد محيو
حين يقول المحللون الغربيون إن موجة التطرف الأصولي في المنطقة ناجمة عن أزمة الحداثة، لا يخطئون كثيراً.
أبرز من عبّر عن هذه الحقيقة عبدالرحمن منيف. ففي خماسيته “مدن الملح” قال: “البشر تغيروا الى درجة لم يعد من السهل معها فهمهم. إنهم أصبحوا طرازاً مشوّهاً من المخلوقات، أشبه ما يكونون بإحدى مراحل نمو الضفدع، خاصة المرحلة المتوسطة، حيث لم تعد تربطهم بما كانوه صلة، ولن يحملوا من ملامحهم الحالية شيئا للمستقبل”.
وعن المدن العربية قال: “في وقت، كانت حرّان مدينة الصيادين. أما الآن فلم تعد مدينة لأحد. أصبح الناس فيها بلا ملامح. انهم كل الأجناس ولا جنس لهم. إنهم كل البشر ولا إنسان. الأموال فيها وتحتها لا تشبه أية أموال أخرى، ومع ذلك كل من فيها يركض، لكن لا أحد يعرف الى أين والى متى. تشبه خلية النحل وتشبه المقبرة”.
منيف لا يتحدث هنا عن تغيرات الحداثة بما هي تبدّل لنمط إنتاج، بل عن مجرد تغيرات نسفت نمط الحياة السابق، ولم تقم مكانه سوى مدن بلا جذور، وخليط من الثقافات التي لا رابط بينها. ولذا هي مدن ملح عابرة. ولذا أيضاً، التنمية التحديثية في المنطقة العربية ضلّت طريقها وتشوهت.
التنمية الحقيقية، كما هو معروف، هي عمل تغييري سياسي واجتماعي. والحداثة الاقتصادية (وفق المدرسة الماركانتيلية) تعني تجميع الثروات عبر زيادة الإنتاج والجهد الجماعي للمجتمع. وهذا لم يحدث في المنطقة العربية، حيث تم تجميع الثروات من دون جهد، مما تسبّب في جملة من الأمراض النفسية والاجتماعية والسلوكية، في مقدمها أزمة الهوية.
إسرائيل شاحاك اعتبر أن تحرر اليهود جاء من خارج، عبر الحداثة الغربية. بيد أن هذا (مجدداً) لم يحدث عندنا. صحيح أن المنطقة تعولمت ودخلتها عناصر الحداثة مع دخول عامل النفط اليها، إلا أن انقطاعاً شبه تام نشأ بين فكرة التحديث وبين وسائلها. الفكرة كانت بسيطة في أذهان النخب الحاكمة: نقل الحداثة بالقفل والمفتاح مع العمال المستوردين، مشفوعة بكل رموزها السياسية من جيش وعلم وأجهزة استخبارات ووزارات. لكن الأدوات كانت معقدة للغاية: استبعاد المواطنين عن العمل المنتج، وتحويلهم الى ضفادع في المرحلة الوسيطة. وفي الوقت نفسه إبعادهم عن أي مشاركة في القرار السياسي الذي يتحكّم بالتحديث.
هذا افضى الى ما أسماه بعض المحللين “الإجازة الدائمة” للمواطنين عن العمل وقيمه. وقد أسفرت هذه “الإجازة” عن قطيعة حقيقية لدى هؤلاء بين حاضرهم وماضيهم، وبين “حداثتهم” وإرثهم الثقافي.
ابن خلدون له ملاحظة مثيرة حول تأثير التغيّرات الموضوعية. قال قبل كارل ماركس بألف عام: “إن الأحوال إذا ما تبدلت جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق من جديد”. حسناً. الأحوال تبدلت بشكل جذري في المنطقة. لكن الخلق لم يتبدل كما الأحوال، بل هو بات مشتتاً بين حاضر لا يسيطر عليه وبين ماض لا يستطيع العودة إليه. وبديهي في مثل هذه الظروف أن يكون العنف الأصولي أو الانتحاري هو الحل والمخرج.
هل أجبنا عن السؤال حول أسباب موجة التطرف الأصولي الراهن؟ وهل هذه الإجابة مقنعة؟
ليس تماماً؟ حسناً. هذا متوقع. فمن يكون جزءاً من الأزمة، لا يستطيع أن يكون جزءاً من الحل. ونحن المواطنين العرب العاديين غاطسون في الأزمة من رأسنا حتى أخمص قدمينا. ولذا، كل منا أصولي متطرف ما، على طريقته، ومن دون أن يدري.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى