سلامة كيلةصفحات سورية

حول حوارات اليسار الفلسطيني – هل يمكن لليسار الفلسطيني أن يتوحد ..؟ وعلى ماذا ..؟ وبأي أفق ..؟

null
سلامة كيلة-غازي الصوراني
حول حوارات اليسار الفلسطيني
(وجهة نظر للحوار)
هل يمكن لليسار الفلسطيني أن يتوحد ..؟ وعلى ماذا ..؟ وبأي أفق ..؟
أسئلة تطرح في سياق الحوارات التي تجري تحت هدف “توحيد اليسار الفلسطيني”. أليس من واجب قوى اليسار أن تقوم بمراجعة أوضاعها السياسية والفكرية والتنظيمية وعلاقتها بالقطاعات والشرائح الشعبية الفقيرة التي تنتمي إليها ، لكي تجيب على الأسئلة الكبرى : لماذا عجزت عن إثبات وجودها السياسي/الجماهيري طوال العقدين الماضيين ، وما هي أسباب هذا العجز والتراجع والفشل خاصة في الانتخابات البلدية والتشريعية ؟ . ما هي أسباب التراجع الذاتي الخطير في بنيانها ، الذي أصاب بالضرر البالغ هويتها الفكرية وتماسكها ووحدتها الداخلية ؟ وأخيرا هل تتفق هذه القوى على أن تكون الماركسية ومنهجها مرتكزا أساسيا في نضالها من اجل تحقيق أهدافها في التحرر الوطني والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية ؟ . ورغم أن من حق هذا اليسار أن يسعى لذلك، وأن يحلم بأن يشكل قطباً ثالثاً في ساحة باتت مستقطبة بشكل عنيف بين حركة فتح/ السلطة وحركة حماس/ السلطة كذلك. وربما يكون الوضع أفضل لهذه القوى إن استطاعت تحقيق ذلك.
لكن من حقنا أن نطرح الأسئلة، وأن نناقش ذلك، خصوصاً وأن المسألة تتعلق باليسار. وربما كان من المفترض أن يتحدد معنى اليسار، لأن التعبير/ المصطلح معمم. ولسوف نشير إلى أن الحوارات بدأت بين أحزاب تتبنى الماركسية عموماً ، وبالتالي سوف نناقش انطلاقاً من هذه الأرضية بالتحديد. بمعنى أن اليسار الذي نناقش هو ما يُفترض أنه اليسار الماركسي*. وهذه مسألة ابتدائية سوف نشير إليها لاحقاً.
من هنا يمكن أن نبدأ من السؤال: هل أن الهدف هو تشكيل قوة ثالثة، طريق ثالث فقط؟ أم أن نقطة الانطلاق تتعلق برؤية أعمق تقوم على البحث في مسار هذا اليسار وفي إخفاقاته، وبالتالي السعي لإعادة صياغة تصوراته وأهدافه؟
السؤال الأول ينطلق من أن هدف الدولة المستقلة في حدود الأرض المحتلة سنة 1967 هو الهدف/ الأرضية الأساس لهذا اليسار. وبالتالي ليس من ضرورة لإعادة النظر في الإستراتيجية التي تبلورت منذ سنة 1974، والقائمة على أساس ما أسمي: الحل المرحلي، والذي بات مع سياق التنازلات المتتالية حلاً إستراتيجياً، أقر في وثيقة الاستقلال سنة 1988، وتكرس في اتفاقات أوسلو سنة1993 ، رغم معارضة بعض هذا اليسار لهذه الاتفاقات. وليتقزم نشاط أطراف من هذا اليسار(الجبهتان الشعبية والديمقراطية، على أساس أن حزب الشعب الفلسطيني كان قد حدد هذا الموقف مسبقاً) من فلسطين ككل إلى النشاط في الضفة الغربية وقطاع غزة. حيث لم يعد من نشاط في الأرض المحتلة سنة 1948. وأيضاً لم تُطرح وحدة اليسار مع الأحزاب اليسارية في هذه المنطقة. بمعنى أن الوجود الواقعي لهذه الأحزاب هو الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، وفي الشتات بدرجات ضعيفه ومتفاوته بين هذا الفصيل أو ذاك ، ولهذا فهو يسار يخص الضفة الغربية وقطاع غزة فقط.
إذن، سيبدو الأساس الدافع إلى الوحدة هو وضع الضفة الغربية وقطاع غزة فقط. وانطلاقاً من الانقسام الذي بات يحكمهما، وبالتالي انفصال غزة عن الضفة وتشكل سلطتين متصارعتين على المصالح والمحاصصة فيهما. والهدف هو تشكيل قوة ثالثة، طرف ثالث، طريق ثالث، وما إلى ذلك. لكن هل هذه هي مشكلة كل الوضع الفلسطيني، مشكلة التشرذم والانقسام بين الإسلام السياسي واليمين الكومبرادوري البيروقراطي ؟ وماذا يمكن أن يقدم اليسار ضمن هذه الحدود؟ هل “الوصول إلى السلطة”، التي هي سلطة تحت الاحتلال، وبالتالي لا سلطة؟ أو يعمل على “رأب الصدع” بين القوتين المتصارعتين، فتح وحماس في ظروف انقسم الوضع الفلسطيني –السياسي والمجتمعي- إلى موقفين متناقضين وقيادتين تسعى كل منهما إلى تكريس الاعتراف بها وبشرعيتها من قبل الدولة الصهيونية ونظام العولمة تحت مظلة او بذريعة التفاوض او الهدنة ؟ .
بمعنى هل يفكر اليسار الفلسطيني في أن يكون هو السلطة؟ وبالتالي ما هو برنامجه وآليات عمله ومنهجيته المطلوبة لـ “طرد الاحتلال” ؟ هل المفاوضات مع الدولة الصهيونية؟ أم سيطور المقاومة الشعبية بكل أشكالها السياسية والكفاحية ؟ وما هو برنامجه لفك ارتباط السلطة بالدول المانحة التي تتطابق بدورها من حيث الأهداف الإستراتيجية مع السياسات الصهيونية؟ أم يدافع عن وضع وحقوق الفلسطينيين ضد السلطة بكل عيوبها البارزة؟ أو يوجد حل للعاطلين عن العمل الذين هم جزء كبير من فلسطينيي الضفة وغزة؟
المسألة هنا هي، هل يمتلك اليسار رؤية وخطة متكاملة وآليات سياسية وكفاحية وجماهيرية لطرد الاحتلال هي بديلة عن رؤية المفاوض الفلسطيني؟ أم سوف يتعامل مع الوضع وكأن دولة فلسطينية قائمة بالفعل وأن المطلوب هو العمل في إطار الوضع “الديمقراطي” من أجل المجلس التشريعي والاتحادات، وربما الوزارة لدى بعض أطرافه ؟
ما يفرض طرح كل هذه الأسئلة هو الغموض أو الارتباك الذي بات واضحا في سياسات هذا اليسار، بحيث يبدو وكأنه متكيف –بدرجات متباينة- مع الوضع القائم، ويريد فقط تحسين وضعه في “الرقعة السياسية”. الأمر الذي يتناقض مع المنطلقات الأساسية المستقبلية لبعض أطرافه –الجبهة الشعبية- في أن يكون بديلاً سياسياً ومجتمعياً لفتح وحماس ، ما يفرض الاستنتاج أن اليسار اليوم ، يلعب بالمتاح أو بالمساحة المسموحه ، هل هذا ما يريد ؟
إن اليسار هو المعني بالإجابة على الأسئلة التي يطرحها الوضع الراهن. فالسلطة باتت عبء على الشعب، وهو عبء صعب وثقيل. وهي مربوطة بالمقرر الخارجي أو الدول المانحة التي تعمل بالتناسق مع السياسة الصهيونية. والمفاوضات باتت ألعوبة للتلهي. ويتوضح بشكل جلي بأن الدولة الصهيونية لا تعمل على تحقيق “السلام”، إلا على مقاسها الذي يطال الضفة الغربية كلها. وبالتالي فإن الوقائع تشير دون لبس إلى أن الأرض التي من المفترض أن تقام عليها الدولة المستقلة تمزقت إلى أشتات، وبات السكان موزعين في جزر متناثرة، إذا لم يطالهم الجدار طالتهم الحواجز والطرق الالتفافية. والاقتصاد مقطع الأوصال كذلك. وبالتالي تبدو الأمور وكأن الزحف الاستيطاني يدفع نحو تلاشي الوجود الفلسطيني. وما يمكن أن يُستنتج من هذه الوقائع هو أن الدولة الصهيونية تعمل على السيطرة التامة على الأرض ولا تسعى لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، أو حتى ربع مستقلة. وأن ما تفكر فيه هو، فقط، كيف تتخلص من السكان لكي لا يقود ضم الضفة الغربية إلى ضم كتلة بشرية تخل بـ “يهودية” الدولة.
هل من شك في ذلك ؟ من يتجاهل الوقائع هذه سوف يظل معلقاً بالأوهام. لكن من مهمة اليسار والماركسي خصوصاً، أن يفكر بعمق فيها، وأن يتوصل إلى استنتاجات منطقية منها. هذه هي القيمة التي تعطينيها الماركسية، وإلا ما قيمتها؟ أي أنها تعطي المقدرة على الاستنتاج، رغم أن هذا الاستنتاج بسيط، ولقد توصل إليه الشعب بالمحسوس.
إذن، كيف يمكن تحقيق الدولة المستقلة؟ أليست الأمور بحاجة إلى أن يكون ممكناً فرض ذلك على الدولة الصهيونية؟ كيف؟ عبر الولايات المتحدة؟ فهذه تدعم الدولة الصهيونية، ولقد بات واضحاً الدعم المطلق لها، حيث أنها جزء عضوي من الإمبريالية الأميركية والرأسمال الإمبريالي. وهي بالتالي تريدها أن تكون جيشاً في إطار إستراتيجيتها العسكرية للهيمنة على الوطن العربي. ومن لا يرى ذلك لن يكون بمقدوره رؤية أي شيء.
أما بالنسبة لمن يرون امكانية تحقيق الدولة المستقلة عبر “الشرعية الدولية” ، فمن حقنا أن نسأل ، كيف ؟ أليست هذه “الشرعية الدولية” خاضعة في ظروف المتغيرات الدولية المعولمة الراهنة للولايات المتحدة؟ لهذا يكون الفيتو من نصيب كل قرار ليس يدين الدولة الصهيونية بل ينتقدها فقط. وأليست الرأسماليات الأوروبية وغيرها من الرأسماليات التابعة والخاضعة ضمن النسق ذاته؟
ما يعني ، كاستنتاج موضوعي ومنطقي انه ليس من الممكن أن تتوفر القوى التي يمكن أن تضغط على الدولة الصهيونية، أو تقاطعها، من أجل فرض انسحابها من الضفة الغربية حسب القرار 242 أو غيره من القرارات . وبالتالي فإن ميزان القوى المختل الراهن إلى جانب مصالح الشرائح الحاكمة في النظام الرسمي العربي وتبعيته وخضوعه ، يجعل الرؤية الصهيونية هي التي تتحقق في الواقع. ولتصبح المفاوضات، وتكون المناشدات، والنشاط الدبلوماسي والسياسي دون معنى، إلا إظهار أن هناك مفاوضات ومحاولات للاتفاق على الحل. وهو ما تريده الدولة الصهيونية من أجل التغطية على كل ما تفعل.
وهذا، بالنسبة لقوى يسارية، يفرض التفكير العميق في الوضع، وإعادة النظر الجذرية في كل الإستراتيجية السابقة. يفرض التوقف من أجل التأمل. كما يفرض المراجعة الجدية لكل التجربة السابقة، لماذا هزمنا؟ ولماذا وصلنا إلى هنا؟ كما كان يكرر القائد الراحل د.جورج حبش في سنواته الأخيرة. فقد مرت ثلاثون سنة على بدء سياسة الحل المرحلي، دون أن يتحقق شيء مما إنبنى عليه. فلقد قيل وقتها بأن ميزان القوى الدولي يسمح لنا بأن نحصل على دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة تأسيساً على الشرعية الدولية. فماذا حدث لميزان القوى الدولي؟ والى أين وصل الوضع؟ وقبل ذلك لماذا ميزان القوى ذاك (خلال الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين آنذاك) لم يحقق هذا الهدف؟ لقد بدت كل مبررات طرح الحل المرحلي وهمية أو مثالية ضعيفة ، لأنها كانت تعبر –لدى اليسار- عن توهم فيما يمكن تسميته بمحاولة التواصل أو الاتصال مع الرؤية المستقبلية/الإستراتيجية دون القطيعة معها ، عبر الحل المرحلي الذي لا يلغي حقوق شعبنا التاريخية في فلسطين وارتباطها بالمحيط والمجتمع العربي القومي من حولها. أما بالنسبة للقوى السياسية الفلسطينية الأخرى فقد عبرت مبررات الحل المرحلي عن ميول فئات طبقية متنفذه فيها، وخصوصاً لدى القوة القائدة، سعت للتجانس مع الطبقات الحاكمة في الوطن العربي، وبالتالي كانت تقبل بالتنازل لكي تصبح جزءاً من المنظومة الكومبرادورية العربية. وانساقت قوى اليسار –بدرجات متفاوته- وراءها نتيجة ميل “البرجوازية الصغيرة” للعربشة (المسماة الارتقاء الطبقي)، أو نتيجة أخطاء معرفية، ولقد كانت قاتلة.
وفي كل هذا المسار كانت تنمحي الهوية الفكرية لهذا اليسار، حتى تلاشت عند البعض. وإذا كانت الماركسية المتبناة هي ماركسية رثة صاغها “العلماء السوفيت”، وعممت أفكار سياسية أكثر مما عممت وعي نظري، وعَلَّمت تاريخياً طوال العقود السابقة حتى انهيار الاتحاد السوفييتي على التكيف والتعايش مع قيادة البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة أكثر مما عَلَّمت على قيادة العمل الثوري (رغم التضحيات الغالية التي قدمتها قوافل الشهداء والمناضلين اليساريين في المسيرة التاريخية للجبهتين والحزب الشيوعي/حزب الشعب) ، ثم جاء الانهيار ليشطب  كل أثر لما هو ماركسي، وبدأت الميول الليبرالية والأصولية والفوضى والارتباك الفكري تطغى وتهيمن. وأصبح اليسار سياسة، لكنها تبدت في بعض المحطات أنها اقرب إلى السياسة اليمينية التي لم تتوقف عند القبول باتفاقات أوسلو أو المشاركة في السلطة بل وصلت إلى حد المشاركة فيما يسمى “مؤتمر جينيف” والموافقة المبدئية على خارطة الطريق والمطالبة بالمشاركة في عملية التفاوض رغم حالة الاختلال الكبير والعميق في ميزان القوى بحيث يبدو أن هذه القوى أو بعضها قد ضاعت في التفاصيل الصغيرة التي تقوم على الحصول على امتيازات ومصالح من السلطة الكومبرادورية. ولتحقيق ذلك تقنع بالتكيف مع السقف الذي حددته السلطة، والمحدد أصلاً من قبل المقرر الخارجي ، الأمريكي الإسرائيلي ومعهما النظام العربي الرسمي ، والسؤال هنا ، هل ستتمكن القوى اليسارية من إعادة النظر في سياساتها والخروج من أزماتها السياسية والفكرية والتنظيمية ، لكي تبدأ في طي ملف تلك الممارسات السياسية وتعمل على بلورة مواقفها السياسية وأهدافها الوطنية والمجتمعية برؤية تحليلية /ماركسية طبقية وقومية واضحة تبرز خصوصية برنامج اليسار الماركسي الفلسطيني وهويته وأهدافه الآنية والمستقبلية التي تميزه بوضوح عن بقية القوى والتيارات البورجوازية والدينية وغيرها ؟ لأن بقاء اليسار في حالة من التوافق أو التقاطع مع برامج السلطة وسياساتها الهابطة ، سيحكم على نفسه البقاء ضمن تخوم سياسات السلطة (لدى البعض) أو في إطار تلك السياسات (لدى البعض الآخر) ، ما يعني استمرار تراجعه وغياب قدرته عن ممارسة أي دور ايجابي فعال في الأوساط الشعبية ، ما يعني بوضوح عجزه عن بلورة أو تحقيق هدف الجبهة اليسارية ، كهدف تفرضه الضرورة الموضوعية وتعطله الإشكاليات الذاتية .
إن الوضع في الضفة الغربية وغزة يفترض النضال من أجل فضح ممارسات السلطة بجناحيها ، حيث باتت عبئاً على الشعب ، وباتت خطورة الدور الذي تلعبه كبيرة، لأنها توهم بأن هناك سلام ومفاوضات من أجل السلام، وتقيم شراكات اقتصادية مع الرأسمال الصهيوني و الرجعي العربي في الخليج وغيره من الدول . فهل يمكن لليسار أن يعلن بأن هدفه الأول هو تغيير السلطة وتشكيل سلطة شعبية ديمقراطية بديلة مهمتها توفير مقومات الصمود الاقتصادي والمجتمعي الداخلي وبلورة إستراتيجية واضحة للمقاومة بكل أشكالها ، بعد أن بات واضحا انسداد الأفق المستقبلي لكل من فتح وحماس ؟ هذا هدف أولي في الوضع الفلسطيني. وهو من جملة الأهداف التي يجب أن تطرح اليوم. ثم هل يستطيع أن يقدم رؤية لكيفية تطوير المقاومة ليس المسلحة فقط (فربما تكون هذه صعبة –لأسباب ذاتية وموضوعية- في الوضع الراهن)، بل والمقاومة الشعبية السياسية والجماهيرية بكل أشكالها ضد السلطة على أرضية التناقض السياسي وضد الدولة الصهيونية على أرضية التناقض التناحري ؟ وهل يستطيع أن يفيد اليسار من فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948 من أجل الضغط في العمق الصهيوني؟ وكيف يتعامل مع قضية اللاجئين ومستقبلهم ؟ ما هو برنامجه لهم؟ هل يقول لهم أن حلهم هو في التوطين في الضفة الغربية؟ أم يقول لهم الضغط عبر الشرعية الدولية لتحقيق القرار 194 الذي يعيدهم إلى الدولة الصهيونية وليس إلى فلسطين الدولة؟ وهل يقول لفلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948 بأنكم من دولة “شقيقة”، وأنكم خارج الشعب الفلسطيني الذي بات يحدد في الضفة وغزة حصراً ؟ دونما أي مستقبل واضح للضفة ضمن معطيات الواقع المهزوم الراهن التي لن تفرز في أحسن الأحوال سوى حكم ذاتي موسع لما يتبقى من أراضي الضفة الغربية المحاصرة والمفككة والمجزأة .
ما نود قوله هو أن مشكلات كبيرة تفرض نفسها، وهي تحتاج إلى إجابات واضحة. فقد أوضح نشوء السلطة الفلسطينية أن أمر اللاجئين في خطر، وأن وضع فلسطينيي 1948 خارج التفكير، رغم أن وجود السلطة وَضَعهم في خطر كذلك، لأنهم باتوا مُهَدَّدين بـ “الربط” مع هذه السلطة في صيغة ما تتيح للدولة الصهيونية معاملتهم كمثل هؤلاء، وبالتالي اخراجهم من تكوينها في إطار سعيها لتشكيل “دولة يهودية خالصة”. وأيضاً أن وضع فلسطينيي الضفة في خطر أكيد كذلك، لأنهم يوضعون في سياق من أجل أن لا يجدوا خياراً سوى الرحيل الطوعي. وها قد بات بعض الساسة الأميركيين يعلنون ماذا يقصدون بـ “الدولة الفلسطينية بجانب دولة إسرائيل”، حيث قيل أخيراً أنها الأردن. ولقد أفادت اتفاقات أوسلو وقيام السلطة في نشوء كل هذه الأخطار، حيث أعطت المبرر للدولة الصهيونية لكي تمارس ما لم تكن تستطيع وهي دولة محتلة، كما أنها أعطت الزمن الضروري لفرض أمر واقع.
في الوضع الفلسطيني عموماً وارتباطاً بحديثنا عن وحدة القوى اليسارية خصوصاً ، فإن المشكلة ليست في فتح أو حماس، رغم كل ما ارتكب كل منهما. برغم الدور النضالي الذي لعبه كل منهما كذلك. المشكلة منذ البدء كانت في اليسار (ارتباطاً بتاريخه النضالي وبأفقه ودوره المستقبلي) ، لأن “القيادة البيروقراطية البرجوازية النافذة في منظمة التحرير” كانت تلهث للحصول على سلطة ما، ولم تكن تعنيها القضية الوطنية إلا بما يخدم ذلك الهدف : السلطة . وربما ضمن هذه الحدود كان يمكن “التحالف” مع تلك القيادة في م.ت.ف ، لكن أن تتولى هذه القيادة قيادة النضال الفلسطيني فهذا أمر كان سيفضي إلى ما وصلنا إليه. وهنا يجب البدء من السؤال حول: لماذا فشل اليسار؟ لماذا لم تبق الجبهة الشعبية قوة موازية لفتح، وآثرت أن تقف موقف المعارضة دون أن تستطيع التوسع والانتشار أو المحافظة على دورها المتميز وقوة انتشارها كما تجلت في سبعينات القرن الماضي ، فقد رفضت الحل المرحلي ثم قبلته. وبدل أن تكرس وتعمق تميزها السياسي والفكري والمجتمعي غَلَّبت اللون الواحد الذي تفرضه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولماذا كان –ولازال- حزب الشعب يعتبر بأن “العقلانية” التي تسير فيها قيادة م.ت.ف هي توكيد لصحة خطه الذي دعا إلى القبول بالحل على أساس الشرعية الدولية، والذي تمثل في الشعار الذي صاغه اليمين الفلسطيني: الدولة المستقلة وعاصمتها القدس؟ ولماذا وافق الحزب على أوسلو وشارك في حكومة السلطة ؟ ولماذا ظلت الجبهة الديمقراطية – تُغِّلب التحالف مع قيادة م.ت.ف حتى إعلان أوسلو 1993 ، كما ظلت تعمم “العقلانية” والاحتكام للشرعية الدولية، وتدافع عن المرحلية حتى ونحن نصل إلى هذه الهاوية.
ألم يخدم كل ذلك سياسات اليمين الفلسطيني التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه؟ وخدم حماس لكي تصبح هي القوة المنافسة لحركة فتح والسلطة بدل هذا اليسار الذي كانت بعض أطرافه (الجبهة الشعبية) هي القوة الموازية؟ ألم يفضِ الانطلاق من “ضرورة قيادة البرجوازية في مرحلة التحرر الوطني” إلى هذه النتيجة؟ ألم يتكيف هذا اليسار، ليس مع قيادتها فقط، بل مع برنامجها كذلك، ويقزّم برنامجه بحدود قامتها؟
ربما كان تقييم تجربة اليسار الفلسطيني ومراجعة استراتيجياته ومنطلقاته السياسية بحاجة إلى بحث طويل، وهو في تقديرنا أمر ضروري وملح من أجل تأسيس يسار حقيقي وفاعل. ذلك أن  ما نهدف إليه هنا هو الإشارة إلى أن المشكلة أعوص من أن تربط بدور طرف ثالث في معادلة خاطئة من الأساس. فلقد تهمشت السلطة وتهمش معها اليسار لأن “حلم” الدولة المستقلة وعاصمتها القدس بدا لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة وهماً بعد أن حُكموا من قبل السلطة. ليس نتيجة الفساد والنهب والبذخ والزعرنة التي مورست فقط، فهذه ممكنة التحمل فيما إذا كان الوصول إلى الدولة المستقلة ممكناً، لكن ما هو محسوس لدى هؤلاء هو أن الدولة الصهيونية لن تعطي لا دولة مستقلة ولا سلطة حقيقية، نتيجة اكتوائهم بمصادرة الأرض وتوسيع المستوطنات وعذابات الحواجز العسكرية والطرق الالتفافية ….الخ. وبالتالي تلمسهم بأنهم أمام زحف مستمر سوف يقتلعهم، وإزاء سلطة عاجزة ومعنية في معظم مكوناتها الطبقية البيروقراطية ، عبر تراكمات الخمسة عشر عاما الماضية بالنهب أكثر من عنايتها بالأرض. هذا الوضع هو الذي أوصلهم إلى أن المسألة بسيطة وتتعلق بإما أن نهزمهم أو نستسلم، فليس من حل وسط. وهو ذاته الذي أفضى إلى انتصار حماس، حيث حصلت على دعم أوسع من حجمها بكثير لأنها لم تكن تدعم قيام دولة مستقلة في حدود الضفة الغربية وقطاع غزة بل كانت تصرّ على كل فلسطين وعبر المقاومة، ويجب أن يكون هذا درس لليسار أولاً.
فإذا انطلقنا من منطق التجريب نقول بأن القيادة الفلسطينية قدمت تنازلات هائلة دون أن تحصل على شيء، رغم أنها لازالت متشبثة بالمفاوضات. والشعب وصل إلى نتيجة أن ليس من حل مع الدولة الصهيونية. فهل يمكن لليسار أن يعود قوة شعبية وهو لازال يعمم الأوهام ذاتها؟ لقد تجاهل تحليله السابق لطبيعة المشروع الصهيوني منذ البدء، باعتباره جزء من المشروع الإمبريالي. وهو لازال –بهذه الدرجة أو تلك- مصرّاً على هذا التجاهل رغم كل الوقائع الواضحة. التي تؤكد من منطلق ماركسي أن المسألة تتعلق بالوطن العربي ، وأن وجود الدولة الصهيونية هو جزء من مشروع أوسع قام على تجزئة الوطن العربي لضمان استمرار تخلفه، وبالتالي فإن الصراع هو بالأساس صراع عربي صهيوني إمبريالي، صراع عربي ضد المشروع الإمبريالي. وإذا كان الحزب الشيوعي قد تكيف مع الماركسية السوفيتية والسياسة السوفيتية منذ زمن، فقد أخذ اليسار الجديد (الديمقراطية والشعبية) دروسه الماركسية الرئيسية من المدرسة السوفيتية ذاتها، وبالتالي كان “عبر الوعي” يتكيف مع السياسة السوفيتية. وحين مارس الكفاح المسلح قلّد التجربة البائسة لحركة فتح، فتحول إلى بنية بيروقراطية خاضعة لمنطق الدول التي تعيش فيها. وليس أمامه سوى “الحلقة الأضعف” في جنوب لبنان لكي يطلق صواريخ أو يحاول دون جدوى اختراق الحدود. مما أدى إلى الاقتراب من حالة التقاطع أو التوافق من (بعض قوى اليسار) أو التماهي من (البعض الآخر) مع اليمين والقيادة البورجوازية المتنفذه في م.ت.ف ، وبالتالي جرى التكيف مع برنامج هذه البرجوازية القائم على الفلسطنة، ثم الحل المرحلي والدولة المستقلة، ثم نمط التكوين السياسي القائم على بنية بيروقراطية حولت المناضلين إلى موظفين يعملون في مكاتب، أصبح جزء كبير منهم هو كادر السلطة الأمر الذي بدا متناقضاً مع أدبيات ووثائق اليسار بدرجات مختلفة بالطبع بين هذا الفصيل أو الحزب أو ذاك . وحين انتهى الوضع في لبنان سنة 1982 تلاشى العمل المسلح تقريباً. ثم حين انهار الاتحاد السوفيتي انهارت “الماركسية اللينينية”، وبات عرضة للموجة السائدة الليبرالية أو الأصولية ، حيث سادت مظاهر الارتباك والفوضى الفكرية والتراجع في الهوية اليسارية إلى جانب مظاهر التدين الشكلي ، ما يعني أن اليسار الآن ليس أمامه سوى “التفاصيل”. هل يسعى لأن يلعب دوراً كبير في هذه “التفاصيل”؟ أم يهدف إلى أن يصبح يساراً حقيقياً ، ونعني بذلك ملتزماً بالماركسية ومنهجها إلى جانب التزامه بأهدافه المستقبلية المرتبطة بحركة ومتغيرات الواقع بوضوح ؟ هل يود النظر العميق في تجربته أم سوف يقفز عنها ليلقي اللوم على اليمين؟
أن يعود يساراً حقيقياً فهذا يستلزم التالي:
1) أن يعود للتثقف بالماركسية من جديد، وأن يبلور تصوراً ماركسياً واضحاً عبر الحوار مع كل المعنيين بذلك من القوى والفعاليات الماركسية تحديداً وحصراً ، فليس من يسار حقيقي دون أن يتملك المنهجية الماركسية، وأن ينطلق من أنه، هو بالذات، الذي سيلعب الدور القيادي في “مرحلة التحرر الوطني والديمقراطي” . وأن ينظم قواه على هذا الأساس .
2) أن ينتقد التجربة الماضية بشفافية ووضوح، وأن يعيد النظر في الرؤية الفكرية/ السياسية التي حكمته ، انطلاقاً من أنها كانت خاطئة، وأنها أسهمت في كل الانهيارات التي جرت في الوضع الفلسطيني.
3) أن ينطلق من أن لا حل مع الدولة الصهيونية ممكن، لهذا ليس من وهم بإمكانية الوصول إلى حل وسط. حيث أن الدولة الصهيونية هي جزء من سيطرة الرأسمالية الإمبريالية على الوطن العربي. وهو الأمر الذي يجعل الموضوع هو موضوع السيطرة الإمبريالية ككل.
4) ولهذا فإن الصراع هو في الجوهر صراع الإمبريالية للسيطرة على الوطن العربي وضمان تخلفه. وهنا لا يجوز –وفق الرؤية الماركسية للواقع الراهن- القفز عن المسألة القومية العربية، وأي قفز عنها هو تكريس لانتصار المشروع الإمبريالي. وبالتالي فإن القضية الفلسطينية هي أكثر القضايا العربية وضوحاً في طابعها القومي، هي قضية عربية دون لبس.
5) وإذا كان من الضروري العمل على تغيير الوضع العربي، عبر استنهاض الطبقات الشعبية بقيادة الأحزاب الماركسية، فإن اليسار الفلسطيني مطالب أولاً بتحديد الأسس الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية وبلورتها والاتفاق على مضامينها لكل فريق من فرقائه، أو بالعمل معاً من أجل ذلك، كمقدمه للحديث عن وحدة اليسار ، ومطالب ثانياً بتحديد المهمات الضرورية في الواقع الفلسطيني، وفي كل مناطق تواجد الشعب الفلسطيني (الأرض المحتلة سنة 1948، الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي الشتات)، إضافة لدوره بالتفاعل مع القوى والأحزاب الماركسية في الوطن العربي ككل، من أجل تحقيق التغيير الذي يؤسس لنشوء نظم معنية بالصراع ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني.
6) ما هي هذه المهمات؟ إنها مهمات إعادة بناء النضال ضد الدولة الصهيونية: ضد طابعها الاستيطاني وعنصريتها وطائفيتها وكونها تمثل الرأسمال الإمبريالي، وبالتالي ضد وجودها كدولة تمثل هذا الرأسمال. وهو نضال متعدد الأشكال تقوم به الطبقات الشعبية الفلسطينية والعربية وغير العربية في فلسطين (هنا الأشكناز) المتوافقة مع هدف إنهاء الدولة الصهيونية بصفاتها آنفة الذكر. وما من شك في أن اليسار هو الأقدر على هذه المهمات، وهذا الحشد. إن إنهاء الدولة الصهيونية يجب أن يكون المُوجِّه لكل هذا النضال. ويقتضي ذلك أيضاً تغيير السلطة التي باتت مرهونة بشروط الاحتلال، وهيمنة الولايات المتحدة والدول المانحة ، كونها تفاوض باسم الشعب الفلسطيني. وبصفتها تمثل الكومبرادور الفلسطيني، والمافيات التي تمارس النهب والفساد. لقد باتت السلطة في “الصف الآخر”، ويجب العمل على تجاوز وإلغاء سياساتها وبرامجها وتغييرها بما يضمن التأكيد على استرداد حقوق شعبنا التاريخية والمشروعة في فلسطين باعتبارها قضية عربية من جهة وان الصراع مع العدو الإسرائيلي هو صراع عربي صهيوني بالأساس من جهة ثانية . وهذا يطال منظمة التحرير الفلسطينية ومراجعة وتجاوز سياساتها خاصة فيما يتعلق بالقرار الخاص بالاعتراف بدولة إسرائيل ، ذلك القرار الذي صدر بالرغم من الرفض الشعبي الفلسطيني والعربي له ولم يكن ممكناً تمريره بدون استمرار وتواصل سيطرة اليمين الفلسطيني -بالمعنى الطبقي البيروقراطي الكومبرادوري- على م.ت.ف والذي لازال مسيطرا عليها لأسباب ومقومات موضوعية وذاتية من بينها نجاح تلك القيادة في احتواء وتحييد اليسار.
أخيرا ، نشير إلى أن الوضع الفلسطيني قد وصل إلى أفق أو مأزق مسدود ، وأصبح الحل المطروح على أساس الدولة المستقلة، موضوع في صيرورة التلاشي، فقد بدأ البحث عن “الحل الممكن”، الذي ينطلق من “استحالة” مشروع الدولة الديمقراطية الذي طرح نهاية ستينات القرن العشرين، وقاد إلى تقديم الحل المرحلي كبديل ممكن، حيث لاحظنا أو تابعنا الانتقال من الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين التي تضم “الأديان الثلاث”، إلى حل الدولتين (إسرائيل وفلسطين)، والآن العودة إلى الدولة الواحدة لكن انطلاقاً من أنها “ثنائية القومية”، حيث يجري تحويل اليهود إلى “قومية”، بعد أن بات واضحاً أن الخيار الذي قام على أساس أنه يمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة، كان وهماً قاد إلى النهاية التي نعيشها، أي دمار المقاومة وتوسع السيطرة الصهيونية على الأرض، وأيضاً انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتفكك النظام السياسي الفلسطيني ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني الذي يبدو أنه ينقسم إلى مجتمعين أحدهما في الضفة والآخر في غزة، إلى جانب صراع الهوية الإسلامية مع الهوية الهابطة في رام الله.
لقد بات واضحا اليوم –وبصورة جليه- بأن الدولة الصهيونية معنية بالسيطرة على كل فلسطين (ربما فقط دون غزة)، وأنها جزء من المشروع الامبريالي للسيطرة على الوطن العربي، وبالتالي يجب أن تتأسس الرؤية لدى أطراف حركة التحرر الوطني الديمقراطي الفلسطينية والعربية عموما واليساريين الماركسيين منهم خصوصا انطلاقاً من ذلك وليس من خارجه.
إن الحوار حول هذه الرؤية يفترض إعادة بناء التصور الماركسي حول المسألة الفلسطينية كمقدمة لإعادة بناء القوى الماركسية، حيث بات من الضروري ان تتقدم للعب دور تغييري، لا أن تبقى ملحقة بقوى أخرى، أو مرتبكة مشلولة وعاجزة عن ان تتقدم مستقلة للعب دور فاعل يسهم في تغيير ميزان القوى في الصراع القائم، فلسطينياً وعربياً، في سياق تطور الصراع ضد الحركة الصهيونية والامبريالية، الأمريكية خصوصاً، في كل العالم.
هذا هو المدخل – المقترح –  لإعادة بناء الرؤية فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، ومحفزاً لإعادة بناء القوى الماركسية، (الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب والفعاليات الماركسية) على طريق الوحدة المنشودة بينها .
* نقصد بالتحديد الجبهة الشعبية ، والديمقراطية وحزب الشعب كقوى يساريه عموماً رغم التباينات فيما بينها فيما يتعلق بطبيعة المرحلة وتحليل الواقع الاجتماعي الاقتصادي والعلاقة بين الوطني والقومي والاممي من ناحية، وبطبيعة الاختلاف في التحليلات والمواقف السياسية من اتفاقات أوسلو والمشاركة في حكومة السلطة و”مؤتمر جنيف” والتعاطي مع خارطة الطريق والموقف من عملية التفاوض ..الخ .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى