ثورتنا على مفترق طرق: التــقنيّات، الأحزاب والمثقّفون
هل يعود الفضل في انتصار الثورتين التونسية والمصرية إلى وسائل الاتصال الحديثة من هواتف خلوية ومواقع تواصل اجتماعي (أي فايسبوك وتويتر ويوتيوب) حصراً أم هي ساهمت في حصول ذلك؟ ما دور الأحزاب في كلا البلدين في نجاح الثورتين، وما هو موقع المثقفين من كل ما حصل؟ كيف يمكن حماية مكتسبات الثورة في مصر من أن يخطفها الجيش؟ أسئلة يحاول رئيس تحرير مجلة الآداب سماح إدريس الإجابة عنها في افتتاحية العدد المقبل من المجلة
سماح إدريس
تستدعي ثورتا تونس ومصر جملة من الملاحظات، ولا سيّما في ما يتعلّق بأدوار كلّ من: 1) تقنيّات الاتصال الحديثة؛ 2) الأحزاب؛ 3) المثقفين والثقافة.
…
1) تقنيات الاتصالات الحديثة. كان لهذه التقنيّات، وبخاصة الفايسبوك وتويتر والخلوي، دور كبير في الثورتين، وسيكون لها، بلا شكّ، دور مماثل في الثورات المقبلة في الأقطار العربيّة الأخرى الخاضعة لحكم الاستبداد. فبواسطة هذه التقنيّات كان بمقدور الثوّار أن يوصلوا معلومات قيّمة وصوراً دراماتيكيّةً عن عسف الأنظمة وبطشها.
كذلك أتاحت لهم حشد الناس في أوقات معلومة، وميادينَ مخصوصة، بكلفة زهيدة، وبسرعة فائقة، وبأشكال تصْدم العيون وتحرّض النفوس. ومن ثمّة، فلا مبالغة في الزعم أنّ هذه التقنيّات كانت عاملاً مساعداً في نجاح الثورة، قد يوازي أو يفوق دورَ القطارات الحديثة في الثورات التاريخيّة الحديثة الكبرى، ودورَ الفضائيّات (وتحديداً قناة الجزيرة) في الانتفاضة الفلسطينيّة. ويكتسي دورُ هذه التقنيّات مدلولاً أعظم بسبب الوهن الذي أصاب الأحزابَ العربيّة نتيجةً للقمع، ولتقهقر السرديّات التحرريّة الكبرى (الاشتراكيّة والقوميّة العربيّة خصوصاً)، ولخيانة أعداد لا يستهان بها من المثقفين طمعاً في الأمان والثروة.
غير أنّ ذلك كلّه شيء، وتنصيب تلك التقنيّات قائداً أعلى للثورة وصانعاً لإنجازاتها شيءٌ آخر. التقنيّات أداة، أيّها الناس، وسيلة. لكنّ وراءها أصابعَ تضغط، وأكفّاً تكتب، وروحاً تتفجّر، وإبداعاً يتخلّق، ومشاعرَ تنبض بالكرامة والعدالة، وأجساداً مرصودةً للاشتعال كي تضيء سماءنا الملبّدة بالقهر، وحناجرَ ممتلئةً باحتمالات الصراخ، وآذاناً ترعرعتْ على سماع الأغنية الثوريّة والخطب المسؤولة والقصيدة التي تفيض حباً للوطن وغضباً على الأعداء.
مبرِّرُ هذا التنبيه شعوري، وكثيرين غيري، بأنّنا إزاء مساع لسلبنا ما صنعه أفرادُ شعبنا في تونس ومصر وغيرهما، بدمهم وعرقهم وأرواحهم وأيديهم. لا، ثورتنا في تونس ومصر لم تكن بـ«رعاية الفايسبوك» ولا هي صنيعة التويتر. لقد ثار شعبُنا على الاستلاب الروحيّ والمادّيّ الذي فرضه الطغيانُ الرسميّ المدعومُ من الغرب الاستعماريّ، لا ليتعرّض لاستلاب مِنْ صُنعه هو. فلنتذكّرْ بديهة أساسيّة: أنّ الشعب لن يعْدم وسيلة لنيل الحريّة! الشعب ثار في روسيا وفييتنام ورومانيا وإيران وفلسطين والصين… ولم يكن ثمّة فايسبوك ولا تويتر ولا «سيلولير». والشعب سيثور على الظلم عاجلاً أو آجلاً، وإنْ حجبوا الفايسبوك ومنعوا البروكسيّات.
ومبرِّر هذا التنبيه أيضاً أنّ بعض الشباب، ومنهم ثوّارٌ أصيلون، يستخدمون نجاحَ التقنيّات في ثوراتنا الجديدة للانقضاض على ما تراكم من خبرات كفاحيّة على مرّ السنين، فكأنّه لم يعد ثمة مسوِّغٌ لوجود الأحزاب، والنقابات، والجمعيّات، والصحافة المكتوبة، والأدب، والعنف المدروس (إذا اقتضى الأمر)، والإيديولوجيّات. وتناسى عبَدةُ التقنيّات أنّ هذه قد تصنع حشداً ولا تصنع صموداً في الساحات؛ وقد تبثّ معلومة لكنّها لا ترسّخ ثقافة تدوم في النفوس وتعشّش في الأذهان؛ وقد تخطّ معالمَ المواجهة الآنيّة مع بطش الرئيس وبوليسه بيْد أنّها لا ترسم استراتيجيّة الصراع التناحريّ بين الشعب العربيّ والمؤسّسة الحاكمة ومِن ورائها الاستعمارُ والصهيونيّة. وهنا نأتي إلى نقطتين مترابطتين وحاسمتين: دور الأحزاب والنقابات والجمعيّات، ودور المثقفين.
….
2) عن الأحزاب والنقابات والجمعيّات. يتبجّح بعضُ المحلّلين بأنّ ثوّار تونس ومصر ثاروا بلا أحزاب ولا نقابات ولا جمعيّات. من المؤكّد أنّ غالبيّة أحزابنا اهترأتْ، وأنّ معظم نقاباتنا مخترقة من استخبارات النظام وجلاوزته، وأنّ عدداً متنامياً من جمعيّاتنا يتعرّض لإفساد ماليّ وإيديولوجيّ بسبب ارتباطه بأجندات المموّلين الغربيين. ذلكم نقدٌ ينبغي ألا نملّ أو نكلّ من ترداده. بل نضيف أنّ أحزابنا، باستثناءات قليلة، لا توظِّف طاقاتها جيّداً، وأنّها غيرُ صِداميّة كما ينبغي، وأنها تفتقر إلى المبادئ والصلابة في المواقف. وفي حالتَيْ تونس ومصر على وجه الخصوص، زاد الطينَ بلّةً أنّ الأحزاب والنقابات عجزتْ عن إطلاق شرارة الثورة: ففي تونس كان مُطْلقَ الشرارة شابٌّ استطاع بجسده المحترق أن يبدع توليفة مذهلة من الحقّ المطلبيّ والكرامة الفرديّة؛ وفي مصر كان مطلقَ الشرارة شابٌّ (أو شبابٌ) استخدم (وا) التقنيّات التواصليّةَ الحديثةَ المذكورةَ أعلاه من أجل حشد جموع خلف مطلب واضح ومحدّد هو إسقاطُ الرئيس أو النظام. لكنْ، لكنْ:
أ ـ من قال إنّ عمل الأحزاب والحركات السياسيّة والنقابات والجمعيّات ينحصر في لحظة قيام الثورة، ليمحوَ ما سبقها من لحظات وأيّام وسنوات مهّدتْ لهذه اللحظة؟ أيستطيعنّ عاقلٌ أن يغفل، على سبيل المثال لا الحصر، دورَ «الاتحاد التونسيّ للشغل» طوال عقود، وإنْ لم يكن هو الأبرز في انطلاقة الثورة الحاليّة؟ ولا مبالغة في القول إنّ ثورة 14 جانفي (كانون الثاني) 2011 لم تكن لترى النور لو لم يكن المجتمعُ التونسيّ، بفضل «الاتحاد» والنقابات والجمعيّات الأخرى، حياً ومهيّأً لاستقبالها وللتفاعل القويّ معها.
هذا في تونس. أما في مصر، فهل يستطيع أيُّ منصف أن يتجاهل دورَ حركة «كفاية» (الحركة المصريّة من أجل التغيير) لا في المشاركة في توجيه الدعوة إلى انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) الحاليّة فحسب، بل في قيامها أيضاً، منذ عام 2005، برفع مطلب يُعدّ مطلب الثورة الحاليّ (إسقاط الرئيس/ النظام) في مرحلته الجنينيّة، ألا وهو رفضُ التجديد لحسني مبارك ولاية خامسة ورفضُ توريث ابنه جمال من بعده؟ أينكرنّ أحدٌ كسرَ «كفاية»، منذ سنوات، لحاجز الخوف، وتمدّدَها في تظاهرات كبيرة إلى عشرات المحافظات المصريّة، قبل أن يدبّ خلافٌ مؤسفٌ في الصفّ القياديّ الأعلى من الحركة؟ والأهمّ، أيغفلنّ أحدٌ أنّ انتشار «كفاية» قد دَفَعَ إلى السطح بحركات كفاحيّة جديدة، عمّاليّة وصحافيّة وطلابيّة، كانت إحداها، وأعني «شباب من أجل التغيير،» تحوي قادةً أساسيّين في الثورة المصريّة الراهنة، وعلى رأسهم أحمد ماهر، مؤسّسُ حركة 6 أبريل؟ صحيح أنّ ماهر غادر «الشباب» عام 2006 بعدما «فقد الأمل في كلّ الحركات السياسيّة» (1)، لكنّ خطوته الجديدة بتأسيس 6 أبريل لم تأت من عدم بل هي حصيلةُ اختمار تجربته ضمن «الشباب». وقد يكون من المفارقة اللاذعة أنّ الأحزاب والحركات السياسيّة ضروريّة… ولو من أجل التمرّد عليها!
ب ـ من قال إنّ عمل الأحزاب والحركات السياسيّة و… لا يمتدّ إلى ما بعد «نجاح» الثورة؟ ووضعُ كلمة «نجاح» بين مزدوجين أمرٌ متعمّد، إذ إنّ الثورة لا تنجحُ فعلاً إنْ هي انحصرتْ في إسقاط الرئيس، على عظمة هذا الإنجاز، بل ستكون في هذه الحال محضَ انتفاضة مجيدة مرشّحة لأن تُجهضها أولى المكائد المضادّة.
خذ تونس أولاً. الإنجاز هنا باهرٌ بكلّ المقاييس، شجاعةً وتضحية وصموداً حتى الوصول إلى فرار «زين الهاربين» بن عليّ. لكنْ هل حقّقت الثورة أهدافها الأساسيّة إن بقي رئيسُ حكومة ما بعد الفرار هو نفسه رئيس حكومة ما قبل الفرار؟ وهل أُسقطت الركائزُ الأساسيّة لنظام بن عليّ وحزب التجمّع، من فساد ومحسوبيّات وإرهاب وتسلّط في شتّى المجالات؟ من يواصل النضالَ الدؤوب لإسقاط النظام، لا الرئيس وحده؟ أليس ذلك ألصقَ بأن يكون من مهمات الأحزاب والنقابات، العريقة والمتجدّدة والجديدة على حدّ سواء؟
ثم تأمّلْ مصر: طار الطاغية بعد سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى، لكنّه لم يُحاكَمْ هو، ولا بطانتُه المجرمة من وزراء وبلطجيّة، ولا استُردّتْ أموالُ عائلته التي قد تصل إلى 70 مليار دولار (2)، بل إنّ من قطف أجملَ ثمار النضال الشعبيّ الكبير هو الجيش الذي لم تكن له يدٌ في الثورة، أو اقتصر إسهامُه فيها على عدم الإيغال في القمع… علماً بأنّ صحيفة الغارديان تؤكّد تورّط الجيش (لا الشرطة وحدها) «في اعتقال المئات وربّما الآلاف من المتظاهرين… وتعذيبهم» (3). من المؤكّد أنّ الشعب لم يثرْ ويقدّمْ فلذات أكباده كي يتسلّط عليه طرفٌ لم يحْمه من الرئيس ولا من بلطجيّته وإرهابه وفساده طوال ثلاثين عاماً، ولا كي يأتي «طنطاويٌّ» أو غيرُه ليطمْئنَ الغربَ والعدوّ الإسرائيليَّ إلى احترام النظام الجديد/ القديم لـ«المعاهدات الإقليميّة والدوليّة» (والمقصود تحديداً كامب دايفيد اللعينة)، ولا كي ينبري ناطقٌ باسم القوات المسلّحة المصريّة ليشكر (!) حسني مبارك على «خدماته» قبل أن يقدّم تحيّةً مسرحيّةً لأرواح الشهداء. لقد أفلح الناسُ في إزاحة الطاغية، وفي دحرجة نائبه رجل الاستخبارات (وأحدِ أبطال حصار غزّة)، ونجحوا في كنس «لجنة الحكماء» (من نصّبها على الناس يا ترى؟) والانتهازيين القادمين بمظلاّت ليبراليّة أميركيّة. لكنّ الثورة لن تنجح فعلاً إلا بإلغاء حالة الطوارئ، وتحقيق استقلال القضاء، وإطلاق حريّة الصحافة وتكوين الأحزاب، والقضاء على البطالة، ورفع الحدّ الأدنى للأجور، ووقف تصدير الغاز إلى دولة الكيان المغتصب، وإلغاء اتفاقيّة الكويز، وانتخاب جمعيّة تأسيسيّة انتخاباً حرّاً ونزيهاً ـــــ وكلّها مطالبُ رفعتْها حركةُ «كفاية» منذ أيّام، ولن تستطيع إلا الأحزاب والنقابات تحقيقَها على المديين القريب والمتوسّط، ولو اقتضى الأمرُ العودةَ إلى الشارع مجدّداً.
….
3) المثقفون والثقافة. لا يمكن الحديثُ عن الأحزاب والحركات السياسيّة والجمعيّات الأهليّة في معزل عن المثقفين، الذين كان لهم تاريخياً، وعلى الصعيد العربيّ تحديداً، دور في تأسيسها وفي قيادتها أحياناً. ما يعنينا هنا، بوجه خاصّ، هو كشفُ أحجبة الوهم التي تغشى بعضَ الناس من أنّ المثقفين لم يكن لهم دور حاسم في انتصار الثورتين التونسيّة والمصرية.
لكنْ يخيّل إليّ، بدايةً، ضرورةُ توضيح مفهوم «المثقفين» المقصود هنا، بحيث نعود إلى تعريف غرامشي الشهير: «بمقدور المرء أن يقول إنّ كلّ الناس مثقفون، لكنْ لا يمْلك كلُّ الناس وظيفة المثقفين في المجتمع» (4). وعليه، فرُبّ أستاذ جامعيٍّ متبحّر في علوم الماضي والحاضر لكنّه منزو في مكتبه أو بين أروقة المكتبات؛ وفي المقابل، رُبّ عامل لا يكاد «يفكّ الحرف»، لكنّه نزل إلى شوارع سيدي بوزيد وميدان التحرير دفاعاً عن العدالة والحريّة ورفضاً للاستبداد والفساد. الأستاذ الجامعيّ في مثالنا «مثقفٌ» بالمعنى التقليديّ الشائع، لكنّه ليس كذلك من زاوية الوظيفة الاجتماعيّة؛ والعكسُ ينطبق على العامل، وإنْ لم يجترحْ لوظيفته هذه صيغاً ومصطلحات ثقافويّة. أضيفُ إلى ذلك أنّ مثقفين من نوع جديد نزلوا إلى ميدان الثورة العربيّة الجديدة: مثقفين قد لا تكون ذخيرتهم الثقافيّة، بالضرورة، مختارات لينين الكاملة أو كتب التراث الإسلاميّ مثلاً، بل حشدٌ متنوّعٌ ومختلطٌ من المقالات على الإنترنت والأفلام والصور والرسوم، واطّلاعٌ على كتابات الشباب في العالم وعلى إبداعهم ونضالاتهم المطلبيّة والاجتماعيّة والحقوقيّة خاصّة.
مهما يكن الأمر، فإنّنا إزاء ثلات حقائق تتعلّق بدور المثقفين في الثورتين العربيّتين الجديدتين:
أ ـ لا نستطيع أن نتحدّث عن غياب المثقفين عن الثورتين، حتى بالمعنى «التقليديّ» (غير المرتبط بثقافة الشباب الجديدة الموصوفة أعلاه). وفي هذا الصدد نشير إلى الحضور البهيّ والوضّاء لكتّاب وفنّانين ومخْرجين، في مقدّمهم بهاء طاهر ومحمد البساطي وخالد يوسف وإبراهيم عبد المجيد وعلاء الأسواني ومحمد سلماوي ونوال السعداوي وهويدا صالح وسعيد نوح، شرّفوا الثورة المصريّة بحضورهم إلى ميدان التحرير، وبوضع ثقلهم المعنويّ والأخلاقيّ خلف مطالبها. ونشير أيضاً إلى تقديم بعض المثقفين خبراتهم العمليّة (رسماً وتخطيطاً وتصويراً وكتابةً ونشراً مكتوباً وإلكترونياً)، ومواقفَهم المعلنةَ (كتابةً وتصريحات) في خدمة الثورة؛ فضلاً عن تضحية بعضهم بمهنته فدىً للثورة (كما فعلت الإعلاميّة سهى النقّاش باستقالتها من التلفزيون المصريّ الحكوميّ احتجاجاً على لاموضوعيّته في نقل الاحتجاجات الشعبيّة). بل بلغت التضحية ذروتها ببذل الصحافيّ المصريّ أحمد محمد محمود روحَه على مذبح الثورة.
إضافة إلى ذلك، ينبغي ألا ننسى الدور المساند الذي أدّاه كثيرٌ من المثقفين والإعلاميين العرب من خارج مصر، وعلى رأسهم المفكّر العربيّ الكبير عزمي بشارة، الذي كان، بحقّ، أحدَ القادة الفعليّين للثورة العربيّة الجديدة، بل «كتيبةً كاملةً» من المثقفين الثوريين، بطرحه اليوميّ والمتكرّر، عبر قناة الجزيرة، لخطوات من شأنها حمايةُ الثورة وتجذيرُها، ولا سيّما من خلال: مناشدته الثوّارَ المصريين عدمَ الانخداع بمكائد النظام، وفضحه ضابطَ الاستخبارات عمر سليمان مواقفَ وتاريخاً، وسخريته من «هيئة الحكماء» التي نصّبتْ نفسَها وسيطاً بين الثوّار والنظام، وإدانته لـ«المفاوضين» الانتهازيين من كلّ الأحزاب.
ب ـ لا يمنعنا ما سبق ذكرُه من القول بوجود مثقّفين وفنّانين وإعلاميين وافقوا على أن يكونوا في صفّ الطاغية المصريّ، وعلى رأسهم الناقد جابر عصفور الذي روّج طوال سنوات لفكرة «الإصلاح والتنوير» من داخل النظام في مواجهة الظلاميين (وكأنّ النظام أكثرُ استنارةً منهم)، ووافق على تلقّي وسام من بن عليّ، وجائزة من القذّافي كان المثقفُ الإسبانيّ خوان غويتيسولو قد رفضها لأنّها تحمل اسمَ القذّافي (5). عصفور، هذا، وافق على تولّي وزارة الثقافة في أيّام الثورة الأخيرة، ثمّ استقال بعد عشرة أيّام ما إنْ تكشّف له اقترابُ الثوّار من رصيف الانتصار. ومنهم أيضاً الممثّل عادل إمام (بوقُ النظام بامتياز)، ونقيبُ الصحافيين المصريين مكرم أحمد محمد، ونقيبُ الممثّلين أشرف زكي الذي سفح ماء وجهه على عتبة النظام السفّاح، فضلاً عن عشرات «الخبراء» من الكتبة المصريين والعرب الذين استقدمتْهم قناةُ «العربيّة» خاصّة… من دون أن ننسى إعلامَ 14 آذار في لبنان، وبخاصّةٍ جريدة النهار التي يظنّ قارئ بعض عناوينها العريضة أنّ ما حدث في مصر محضُ فوضى من تدبير الغوغاء النهّابين، قبل أن يكتشف ذلك الإعلامُ نفسُه، بعد انتصار الثورة طبعاً، أنّ فيها ما يذكّر بثورة الأرز عام 2005!
ج ـ بيْد أنّ دور الثقافة والمثقفين لا يقتصر على لحظة الثورة، بل يمتدّ إلى ما قبلها بسنوات أو عقود… أسوةً بما سبق أن تناولناه عند حديثنا عن الأحزاب والحركات السياسيّة والنقابات، وبطريقة قد تكون أهمّ لكنها أقلُّ بروزاً للعيان. فمن منّا ينْكر اليوم الدورَ الحاسمَ والتحريضيّ الذي أدّته رائيّةُ أبي القاسم الشابّي الشهيرة (ومطلعُها «إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة/ فلا بدّ أن يستجيبَ القدرْ») في انتصار الثورة التونسيّة الحاليّة، مع أنّه كتبها في عام 1933 (6)؟ وهل يمكن التفكيرُ، مجرّدُ التفكير، بالثورة المصريّة من غير أن نَذْكر، وبحروف من نور، دورَ القصائد التي لحّنها وغنّاها الشيخ إمام عيسى، وكانت على كلّ شفة ولسان، وعلى فضائيّات ومحطّات يشاهدها ملايينُ المصريين والعرب، وخصوصاً قصيدة نجيب شهاب الدين التي مطلعُها «يا مصر قومي وشدّي الحيل/ كلّ اللي تتمنّي عندي…») وقصيدة أحمد فؤاد نجم التي كانت عنوانَ إحدى النشرات الثوريّة المصريّة في وصف كوكبة من الشهداء الأبرار، مع أنّها كُتبتْ من سجن القلعة عام 1973، وهي تبدأ بـ«صباح الخير على الورد اللي فتّحْ بجنايِنْ مصر» وتنتهي بالسطور الآتية: «ما دامت مصر ولّاده/ وفيها الطلْق والعاده/ حتفْضل شمسها طالعه/ برغم القلعه والزنازين!».
إنّ أبيات الشابّي ونجم وشهاب الدين، الموحية تلك، فعلتْ فعلها بعد عقود طويلة في تونس، وفي مصر، وفي غير مكان من أمّتنا العزيزة المنتفضة اليوم؛ ذلك لأنّ الشعر الحقيقيّ يتخطّى لحظة البوح به لكونه نابعاً من أعمق ما في النفس من عذاب وأمل وتوق إلى العدل. (دلّوني، بالمناسبة، على ما يشدّ عزيمةَ المنتفضين أقوى ممّا تفعله أبياتُ شهاب الدين وهم يهتفون بها في ميدان التحرير: «رافعينْ جباهْ حُرّةْ شريفة/ باسطينْ أيادي تأدّي الفرْض/ ناقصين مؤذّنْ وخليفةْ/ ونورْ ما بين السما والأرض!»). والأمرُ عينُه ينطبق على أوجه الثقافة الأخرى عامّةً، تأريخاً ونقداً وروايةً ومسرحاً وغيرَ ذلك. وبهذا، فإنّ نجم وشهاب الدين والشيخ إمام، أسوةً بالشابّي وسيّد درويش ومحمود درويش ومارسيل خليفة وزياد الرحباني وعشرات آخرين مبعثرين في الزمان والمكان، لكنْ متوحّدين في الضمير الجمعيّ العربيّ، هم شركاءُ «أصيلون» في الثورتيْن، لا يقلّ فعلُهم فيهما عن فعل شباب تونس أو مصر، أمثال نوّارة نجم ووائل غنيم وأحمد ماهر. فالثقافة قد لا تؤتي ثمارَها لحظةَ الجهْر بها، بل تترسّخ في الوعي والقلب، يوماً بعد يوم وسنةً بعد سنة، وتكوّن جزءاً حسّاساً من منظومة القيم الكبرى التي ينشأ عليها المرءُ. إنّ الشعور بالكرامة، والسخطَ على الظلم، ونشدانَ التحرّر، وكراهيةَ الفساد والإثراء غير المشروع، ليست قيماً تأتي عفواً أو بالغريزة الإنسانيّة وحدها، بل هي نتاجُ تراكم طويل ومتدفّق لما نسمعُه ونقرأه ونشاهدُه في الصورة والقصيدة والأغنية والفيلم، ولا تطمسه الدعاوى الإعلاميّةُ بالضرورة، ولا يلبث أن ينبثق في لحظات تاريخيّة ما مفعماً بالنبل والحياة والعنفوان. وعليه، فلا معنى فعلياً لحفلات جَلْد الذات التي يُحْييها اليومَ مثقفون عربٌ، وبعضُهم مناضلٌ قدّم الكثيرَ في الماضي، ولا يزال، لقيم الاشتراكيّة والوحدة وتحرير فلسطين. فلكلٍّ قسطُه في معركة التحرير، يتفاوت في زخمه وراهنيّته بالتأكيد، لكنّه لا يجعله من النوافل. وفي السياق نفسه نشير إلى تهافت نزعة ثقافويّة رديفة لنزعة جَلْد الذات، وقد استشْرتْ في خضمّ الحدثيْن التونسيّ والمصريّ، هي الميلُ إلى تقديس الشباب الثائرين، وتربيت أكتافهم إعجاباً، والإحجام عن توجيه أيّ نقد إليهم أو إلى شعاراتهم، مع ما يستتبع ذلك من تخلّي «المثقفين الشيوخ أو الكهول» عن ميدان المعركة بذريعة أنّ الزمن لم يعد زمنهم!
د ـ وأخيراً، والأهمّ بالتأكيد، هو أنّ دور الثقافة والمثقفين لا يقتصر على لحظة الثورة، أو على ما سبقها بسنوات أو عقود، فحسب، بل يمتدّ إلى ما بعد اللحظة الراهنة أيضاً. ودورُ المثقفين اليوم، في ما يخصّ ثورة مصر على سبيل المثال، لا يقدّر بثمن، ولعلّه لا يقلّ حسماً عن دور الشباب الثوّار أنفسهم، ولا سيّما إذا نُسّق بفاعليّة وكفاءة مع عمل هؤلاء وعمل الأحزاب والحركات السياسيّة، على الرغم من صعوبة ذلك التنسيق أحيانًا بسبب «ذاتيّة» المثقف المفرطة أو «انتهازيّة» الأحزاب. ويمكن إيجازُه بالأمور الآتية:
* الحؤول دون أن اختطاف مكتسبات الثورة من طرف الجيش، الرابح الأكبر حتى الآن، وبالثمن الأقلّ! والحقّ أنّ القسم الأعظم من الشعب المنتفض، على ما يبدو، ما زال يصرّ على بناء دولة مدنيّة (كان اللافت في هتافات الجماهير أخيراً شعار «مدنيّة مدنيّة، عاوزينْها مدنيّة»). فالثورة لم تُسقطْ ديكتاتوراً كي تُحلّ مكانَه ديكتاتوراً آخر. والجيوش العربيّة، باستثناءات قليلة جداً، لم تكن، في أكثر سنوات عمرها، جيوشاً وطنيةً، إذا فهمنا الوطنيّة قتالاً لإسرائيل والولايات المتحدة أو مدّاً للمقاومين بالسلاح والعتاد والمال والمعلومات الاستخباريّة. ومن المؤكّد، في حالة مصر تحديداً، أنّ للمثقفين الذين شهدوا ثورة يوليو، أو درسوها بعمق، دوراً كبيراً في التنبيه إلى عدم تكرار أزمة مارس/ آذار 1954، وعدم تكرار التصادم تحديداً بين «أهل الثقة وأهل الخبرة» (7)… هذا مع الفارق الكبير المتمثّل في أنّ جيش يوليو 1952 هو الذي قاد الانقلابَ الذي عبّر عن آمال الفقراء والمسحوقين؛ فيما جيش يناير 2011 لم يَقُدْ شيئاً، وعقيدته كامبدايفيديّة، وتدريبه وتسليحه أميركيّان، ويحاصر غزّة البطلة حتى الآن، وحمى الطاغية مبارك ثلاثين عاماً! باختصار، المثقفون اليوم هم الموكلون الأساسيّون بالتحذير من مغالاة الشعب في تقديس الجيش، ومن خطر أن يتحوّل الحكمُ العسكريّ «الانتقاليّ» إلى وضع دائم أو شبه دائم.
* التنبيه إلى خطر القوة الإسلامويّة المتصاعدة على حريّة المجتمع، وحريّةِ نسائه خاصّة. لا ثورة حقيقيّة بنسوة مقموعات، فكيف إذا كانت النساء قد أدّين قسطاً كبيراً في الثورتين، اعتصاماً وتظاهراً وصداماً مع الجلاوزة والبلطجيّة… واستشهاداً؟ وكم كان معيباً أن يعمد الإسلامويّون إلى توزيع صور للشهيدة سالي زهران وهي ترتدي الحجاب الذي ـــــ بفضله ـــــ رأوها جديرةً بلقب الشهادة (8)؛ في ما عمد آخرون إلى ترويج كذبة تقول إنّها انتحرتْ في سوهاج ولم تُستشهدْ بضربات «الشوم» المنهالة عليها من البلطجيّة أثناء قدومها إلى ميدان التحرير؛ كما تردَّدَ أنّ إسلامويّين نزعوا صورتها (وهي غيرُ محجّبة) عن ملصق حمل صورَ بعض الشهداء، واستبدلوها بصورة رجل!
* الإصرار على محاسبة مجرمي العهد السابق، ومواجهة ثقافة «عفا الله عمّا مضى».
* مواصلة العمل الثقافيّ ـــــ بلا ملل ولا كلل ـــــ على ترسيخ قيم بديلة للإثراء السريع وغير المشروع، وللانتهازيّة.
* الإسهام في صوغ دستور جديد يراعي الديموقراطيّة والوحدة الوطنيّة. ويَلفت الانتباهَ في هذا الصدد بيانٌ وقّعه نحو ثلاثين مثقفاً مصرياً (بينهم صبري حافظ ومنتصر القفّاش وميّ التلْمِساني وسعد القرْش وسيّد محمود) يدعو لجنةَ تعديل الدستور (برئاسة المستشار طارق البِشْري) إلى تعديل المادّة الثانية التي تنصّ على أنّ «الإسلام دينُ الدولة… ومبادئ الشريعة الإسلاميّة [هي] المصدرُ الرئيسُ للتشريع». ويقترح البيانُ استلهامَ الصيغة القديمة لدستور 1923 الذي تنصّ مادته الثالثة على أنّ المصريين «لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتّع بالحقوق المدنيّة والسياسيّة وفي ما عليهم من الواجبات والتكاليف العامّة، لا تمييزَ بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين»؛ كذلك تنصّ مادته الثانية عشرة على أنّ «حريّة الاعتقاد مطلقة» (9).
* الإصرار اليوميّ على إسقاط اتفاقيّة كامب دايفيد مع العدوّ الصهيونيّ، لا بوصفها اتفاقيّةً تمسّ السيادةَ المصريّة فحسب، بل في وصفها أيضاً جريمة عظمى في حقّ شعب فلسطين وشعب لبنان وشعب العراق، وذلك حين أَخرجتْ أكبرَ بلد عربيّ من ساحة المواجهة مع «إسرائيل» والولايات المتحدة (ومن دون أن تحقّق أيّ مكسب اقتصاديٍّ للمصريين أنفسهم باستثناء بعض «قططهم السمان»). ويترتّب على ذلك، بالتأكيد، عملٌ ثقافيّ، في الأساس، من أجل عودة فلسطين إلى رأس الأجندة المصريّة الجديدة. فلا مصر جديدة بلا فلسطين، ولا تونس جديدة بلا فلسطين، ولا ثورة حقيقيّة في أيّ قطر عربيّ بلا فلسطين.
…
إنّ وصول الثورة العربيّة الجديدة إلى الأهداف التي تليق بعذاب الشعب العربيّ، وبشهدائه، وجرحاه، ومعتقليه، ومنفيّيه، ليس بالأمر البديهيّ ولا المضمون، بل تحفّ به مخاطرُ الثورة المضادّة القادمة من الخارج والداخل. ولهذا فلن يحقّ للثوّار والمثقفين التغييريين أن يستسلموا إلى ما حقّقوه من إنجازات رائعة حتى اليوم. وإذا كان الرئيس جمال عبد الناصر قد صاح ملتاعاً عقب النكسة الكبرى «إنها ليست ساعةً للبكاء بل ساعةٌ للعمل»، فربّما يجدر بثوّارنا اليوم أن يصيحوا بابتسامة مليئة بالثقة: إنها ليست ساعةً للفرح وحده بل للعمل أيضاً!
هوامش
(1) هيفاء زعيتر، «عن هويّة ثوّار 25 يناير،» السفير، 9/2/2011، ص 13.
(2) Phillip Inman, ”Mubarak Family Fortune Could Reach $70bn, Say Experts,” Guardian, 4 February 2011.
(3) Chris McGreal, “Egypt’s Army “Involved in Detentions and Torture”, Guardian, 9 February 2011.
(4) Antonio Gramsci, “The Formation of Intellectuals,” in: The Modern Prince and Other Writings (New York: International Publishers, 9th printing, 1983), p 121.
(5) محمد شعير، «جابر عصفور: سقوط مثقف مصريّ،» جريدة الأخبار،3/2/2011.
(6) ديوان الشابّي، تحقيق وتقديم: نور الدين صمّود (تونس: دار المغرب العربيّ، المجلد الاول، ط1، 1994)، ص 231.
(7) سماح إدريس، المثقّف العربيّ والسلطة ـ بحثٌ في رواية التجربة الناصريّة (بيروت: دار الآداب، 1992)
(8) http://forums.fatakat.com/thread1227672
(9) علي عطا، «مثقفون مصريون يطالبون بدولة مدنيّة…،» جريدة الحياة، 19/2/2011، ص 17.
* رئيس تحرير مجلة الآداب.
وهذه هي افتتاحيّة العدد الذي
يصدر خلال أيّام، ويتضمّن ملفاً ضخماً بعنوان «الأمّة العربيّة
الأخبار