حوار مع السينمائية السورية هالة العبدالله عن الثورة التونسية
1 ـ كيف تشعرين يا هالة الآن؟ أقصد في ظل هذا الطوفان العارم الذي بشرتنا به نيران البو عزيزي؟
-) في ظل هذا الطوفان ، كما تقول، أشعر بسعادة حقيقية إذ أصبح بإمكاننا أن نموت يوماً بسلام.. أننا لن نورث أولادنا ثقل الطغيان، أننا خففنا عن أكتافهم الصغيرة وطأة الظلم ولأننا لم نتركهم والخوف يعشش في قلوبهم…
هذا بالنسبة للغد، أما اليوم، فشعوري متداخل بين الفرح والقلق..
حين تكون يداك مقيدة خلال سنوات طويلة طويلة
طفلا، مراهقا ورجلا لم تعرف يوما ما هو طعم الحرية.. وفي اليوم الذي تكسر فيه قيودك وتجد نفسك فجأة حراً مقدماً على حياة جديدة تواجه فيها عقبات، صعوبات ومسؤوليات من نوع مختلف عن الذي عشته سابقاً. هذه الصورة تجعلني أفرح وأقلق بنفس الوقت… هذا ما يشعر به التونسي اليوم والمصري قريبا جداً. الفترة التالية لكسر القيود فترة صعبة معقدة مركبة، تحمل معها مفاجآت ومطبات وأفخاخ من كل الأنواع والألوان… الشعوب المحرومة من حريتها، حين تسترد هذه الحرية، تكون بحاجة لإعادة تأهيل لكي تتعرف على إمكانياتها وتتملك أدواتها وتبتكر ما يناسبها من حلول ومشاريع وتتمكن بعد ذلك من بناء حاضرها ومستقبلها بنفس الوقت.
أنت حر ولكن حولك خراب.
نصف قرن من الديكتاتورية.. لن تبدأ فقط من الصفر ولكن ستبدأ من أبعد بكثير من ذلك، حيث عليك أن تمحي آثار الخراب هذا أولاً وتعيد للإنسان ملامحه الطبيعية ليبدأ بعدها بالتدرب على استخدام حواسه الخمسة بشكل صحي، بشكل إنساني… بحرية.
2 ـ رأيناك متابعة ومواكبة لأخبار ثورة تونس وأخبار أهلها، بحماسة شديدة. كسورية، ومثقفة، كيف تشرحين لها كل هذا الشغف؟
-) هذا الشغف !!! مفردة أحبها.
عندما تتعرف شعوبنا على هذه المفردة، وتعايشها وتتذوقها وتعتبر أن من حقها أن تعيش هذه الحياة بشغف. حينها أطمئن إلى أننا حافظنا على إنسانيتنا بشكل جميل.
لماذا تابعت ما يحدث في تونس بكل هذا الشغف؟ لأسباب عديدة..أولها، أن أي حركة في العالم ضد الظلم وأي انتفاضة على أي ديكتاتور تمسني وتعنيني.
نحن في عام 2011 نعيش ما يشبه فصام الشخصية, كل التكنولوجيا وكل وسائل التواصل وكل آليات العولمة وتسهيلات النشر والانتقال تجعل الإنسان يشعر أنه إنسان عالمي ينتمي للكون بأجمعه، وبالتالي من هذه الزاوية يكون معنياً بكل ما يحدث في العالم.. في الوقت الذي يكون فيه النصف الآخر من جسده غارقاً في مكان عيشه، في مساحة ضيقة لا يمكنه حتى أن يتنفس فيها… هذا الإنسان هو كل منا وهو أنا أيضاً بروح مقسومة إلى شقين ، إلى روحين: مخنوقة وحرة ، الروح المخنوقة لاحقت بشغف ما يحدث في تونس لأنني تربيت في مدرستي وفي بيت أهلي على أننا جزء أساسي من وطن عربي وعلى أنه لنا تاريخ مشترك وهموم وقضايا مشتركة… تربيت على ما يسمى الوحدة العربية وعندما تحركت الناس في تونس وهدرت في شوارعها تذكرت نفسي طفلة على مقاعد المدرسة وقلت لنفسي إذن هذه المشاعر التي تنتابني الآن هي من تلك الطفولة، مشاعر لم تسكنني سابقاً بهذه الطريقة الايجابية..
أما روحي الحرة فقد لاحقت بشغف ما يحدث في تونس، لأنني كنت أتلمس وأسمع عن قرب كيف يمكن لشعوب أن تكسر جدار الخوف!! كانت هذه المتابعة تمرين على التنفس الحر، التعبير الحر. عندما يغطس أمامك صديق في بحر هائج مجهول وغامض وتراه يتغلب على الأمواج ويسبح ويستمتع بالسباحة ثم تراه يصل سالماً آمناً إلى الشاطئ.. هذا المشهد سيبقى حياً في ذاكرتك ولن تنساه أبداً.
كنت أتابعهم يومياً وأنشر كل ما يصل منهم على الفيس بوك وأحاول أن أقول ما أرغب وما ينتابني من مشاعر وأفكار، أولاً لأنني أعرف، وهذا كان قد وصلني منهم ، أن مشاركتنا لهم ومتابعتنا لهم كانت تعطيهم قوة إضافية، هذا أولاً وثانياً من الناحية التقنية كنا نشارك بنقل أخبارهم بين بعضهم البعض.. وثالثاً وأخيراً كان يهمني أن يصل ما يحدث في تونس إلى كل الناس المعنيين في جميع أنحاء المنطقة لكي يروا كل التفاصيل التي تؤكد أن الشعب لا يموت.. وأخيرا كنت أتابعهم بشغف لأن لي أصدقاء هناك أحبهم وأخاف عليهم.
في البداية كان الكثيرون يستهترون بهذه المتابعة ويسخرون منها.. ومع الوقت ازداد عددنا، نحن المتابعون بشغف للثورة، ونشأت بيننا جميعاً علاقة ، وإن كانت غير واقعية، ولكنها أضحت حقيقية وضرورية.
3 ـ كيف تنظرين إلى هذا الجيل من الشباب؟ وإذا ما طلبنا أن تعقدي مقارنة بين جيلك وبين هذا الجيل، ماذا تقولين لنا؟
-) دوماً في كل مرحلة هناك الشباب، العصب الأكثر حيوية في كل مرحلة، تقع عليهم ضرورة طرح الجديد، طرح المختلف، طرح البديل.
جيلي عندما كان في مرحلة الشباب، فترة الثمانينات وأوائل التسعينات، حاول أن يتحرك وحاول أن يعبر عن نفسه وحاول أن يقاوم…
موضوع الأجيال موضوع غني وجدير بالتوقف وبالتحليل ولكن لا أجد أن ما يحدث الآن هنا هو موضوع أجيال وجيل شباب فقط..
إن الذين خرجوا في الشوارع في تونس هم الشباب الذين أهرمتهم الحياة، الفقر والجوع والبطالة والقهر وانعدام الحرية جعلت التجاعيد تجتاح قلوبهم والشيب يفترش أرواحهم وهذا ما دفعهم للحركة والانتفاض… غلب على الشارع التونسي الشباب ولكن كانت هناك كل الأجيال، وكذلك في مصر الآن ..
إن الثورة توحد الأجيال، الثورة ترفع الحواجز التي بناها الزمن بين الأطفال والشباب والكبار.. بين الرجال والنساء.. إن الثورة تعيد للشعب المنهك المترهل، تعيد له شبابه..
4 ـ سارع بعض رجال الدين إلى تحريم حرق الجسد بعد إقدام البو عزيزي الشهيد على ذلك، إلا أنهم لم يشكلوا ظاهرة تذكر. بل إن عدة حوادث مماثلة تكررت بعد ذلك في عدد من الدول العربية. ما رأي هالة بهذا الفعل، حرق الجسد احتجاجاً أقصد؟ وهل تمتلكين تصوراً لبدائل؟
حرق الجسد، قرار الموت غضباً وعجزاً ويأساً وقهراً.. لا أتمنى لأي بني آدم أن يصل للحظة مماثلة.. طبعاً أحترم لحظة القرار التي وجد فيها هذا الإنسان نفسه بمواجهة جدار أو هاوية، لا حل أمامه ولا خلاص ولا سند.. اللحظة التي يشعر فيها المرء بأنه وحيد وعاجز.. لحظة شديدة القسوة والمرارة.. أفهم كيف يصل فيها إلى القرار بأن الرحيل هو الحل، لأن الألم فوق طاقة الاحتمال.. عندما قرر بوعزيزي الرحيل بهذه الطريقة، كانت صرخة ألم دوَّت في كل أنحاء الكرة الأرضية..كان يريد أن يرحل ولكن قبل الرحيل أراد أن يصنع بنار جسده بقعة ضوء لينبه الناس إلى السواد الفاحم الذي يغلف حياته.. فكر أن يلفت النظر إلى بلاده، حياته ومأساته ولكن لم يخطر بباله أن النار التي أشعلها في جسده سوف تتمدد إلى هشيم البلاد.. فطوبى له لأن موته أعاد شعباً كاملاً إلى الحياة.
رجل الدين الذي يحرم حرق الجسد، هذا من شأنه، وإن كنت لا أظن أن الدين والإيمان يعلمانه أن ينظر للحياة من ثقب الإبرة.. عليه أن يحرم الظلم والاضطهاد واللاعدالة والفقر والبؤس، أن يحرم كل ما يؤدي بالإنسان إلى التفريط بحياته يأساً..
أتساءل بنفس الوقت ما الذي يجعل إنساناً آخر حين يقتل نفسه مجاهدا بنظر هذا الشيخ؟ هل لأنه حجز له مسبقاً مكاناً في الجنة ؟
تسألني عن البدائل، سؤال كبير ومعقد .. ولكن فيما يتعلق بحالات اليأس المطلق، رغم أنها نتاج وضع سياسي واجتماعي إلا أننا نتحمل نحن أيضاً مسؤولية ما بشكل من الأشكال، علينا أن نقترب أكثر من بعضنا البعض وأن نسند بعضنا وأن نحمي أنفسنا من لحظات اليأس والشعور بالوحدة.. الوحدة بمواجهة مصير أسود.. يمكننا أن نكون مع الآخر بكل بساطة، قربه في اليوم الذي يقترب فيه من قرار الموت.. إنه ليس كلاماً رومانسياً .. انه طريقة بسيطة وإنسانية للمقاومة. البدائل الجذرية هي التمرين اليومي على المقاومة والصمود حتى وصول الثورة.
5 ـ بما أنك تسكنين في فرنسا… كيف تصورين لنا التفاعل هناك مع نيران البو عزيزي؟ وهل يستطيع الفرنسيين استيعاب مثل هذا الفعل؟ وكيف تفاعلوا أيضاً مع ثورة تونس وشبابها وما تمخضت عنه من نتائج؟
-) للأسف تفاعل الفرنسيون ببطء شديد مع ما حدث في تونس، الرسميون كانوا جبناء. والناس، الأغلبية منهم يتأثرون بالإعلام وبالتلفزيون فكانت حركتهم أيضاً بطيئة..
على كل، فإن ثورة تونس كانت صاعقة ومفاجئة للكثيرين في أنحاء العالم..
أما حول تقبلهم وكيفية تلقيهم لإحراق البو عزيزي لنفسه .. فربما فعل الحرق هو المؤلم ولكن الموت يأساً أمر يقلق ويقض مضاجع الفرنسيين .. السنة التي فاتت انتحر فيها عدد هائل من الناس يأساً .. موظفو شركة الاتصالات، أساتذة المدارس، أفراد من البوليس ومهن أخرى يجد فيها الآباء والأمهات أنفسهم عاجزين لتدني مستوى المعيشة وشعورهم بالوحدة بمواجهة هذا البؤس .. اقصد أن الموت يأساً أمر للأسف عالمي .
مع هروب بن علي واثبات الثورة التونسية لمصداقيتها وفاعليتها بدأ الشارع الفرنسي بالاستيقاظ والتفاعل وحتى وصل البعض منهم للتفكير بأن الثورة ستمتد إلى أبعد بكثير من حدود الشرق الأوسط .
6ـ كيف تتخيل هالة المستقبل؟ وهل كنت متفائلة بالسابق؟
المستقبل هو للشباب، أثق بهم .. أؤمن بهم
أجرى الحوار: رامز كوسا
رواق الشباب
مجلة إلكترونية شهرية متخصصة بقضايا الشباب وتعليم حقوق الإنسان
http://www.riwaq-shabab.net/