روزا ياسين

الحلقة الخامسة

null
نيغاتيف –  من ذاكرة المعتقلات السياسيات
روزا ياسين حسن

1987
الساعة الخامسة والنصف صباحاً: داهموا البيت. الليلة الكانونية الباردة ما تزال تنفث صقيعها مع اقتراب الشروق، وخبطات عناصر الأمن العسكري على الباب تكاد تخلعه. كانوا يريدون نزار زوج بثينة.ت. لكنه كان قد سبقهم، حالما سمع بضجيجهم الآتي من صمت المكان، وقفز من شرفة البيت إلى شرفة الجيران قبل أن تفتح زوجته الباب لهم كأن شيئاً لم يكن. ليلتئذ كانت بثينة قد أتمّت اليوم الأربعين لولادتها. حين فتحتُ الباب، مدّعية استيقاظي للتو، أشهر الضابط الهوية الأمنية في وجهي:
ـ زوجي ليس هنا.
بالطبع لم يكتفوا بكلمتي، دخلوا البيت من فورهم بالعشرات كالداخل إلى ساحة حرب. فتّشوا كل زاوية فيه، كان مليئاً بالأدبيات: البيانات والمناشير والمجلات… دسّوا الفرشة وكانت ما تزال دافئة، هذا يعني أن نزار لم يبتعد. أجبروني، بعد انتهائهم من التفتيش، على النزول من البيت إلى سيارة الأمن (ستيشن بيضاء) مع ابنتي، وأنا ما زلت أرتدي قميص النوم في برد كانون، لم يدعوني أغيّره، أو أرمي رداءً ما على الصغيرتين. ابنتي الصغرى راما، لم تكن تبلغ الأربعين يوماً بعد، أشدّها بقوة إلى صدري، فيما أنزلوا الكبرى لانا، ذات الأربع سنوات، حافية باكية ورائي. أخذوهن على الفور إلى فرع الأمن1. هناك في زنزانة في مجاهل الطابق السفلي بقيت الابنتان مع الأم حتى أقبل الليل حين أتت جدتهما وأخذتهما. كان أطول نهار مرّ على بثينة في حياتها، قضته في محاولة لحماية الطفلتين من البرد والوحشة، وفي درء شعور بالعجز الكامل راح يقطّع دواخلها. أما الصغيرتان فقد قضتا نهاراً من الرعب الحقيقي في ذاك المكان الغريب البارد والموحش.
ظلت بثينة.ت أكثر من خمسة أيام في المنفردة، وهي نفساء تنزف. كان السجانة يضطرون إلى أخذها يومياً إلى المستشفى، ومن ثمّ إعادتها من جديد، ذلك أن شحوب وجهها، والدماء المنسابة، التي لوّثت ثيابها والفرشة وحتى أرض المنفردة، جعلتهم يرتعبون من إمكانية موتها. لم يكونوا بحاجة إلى شهيدة جديدة، وفي الوقت نفسه لن يطلقوا سراحها قبل أن يؤتي اعتقالها ثماره، أي: الضغط على زوجها كي يسلّم نفسه. نتيجة تلك الأيام الخمسة عانت بثينة لسنوات قادمة من تقرّح في الرحم، إضافة إلى الكثير من المشاكل النسائية الأخرى، جعلتها تخضع لأكثر من عملية جراحية مستقبلية. بثينة أخذت كرهينة على الرغم من أن زوجها اعتقل بعدها بشهر واحد فقط. لم يطلق سراحها إلا بعد ذلك بسنوات ثلاث.
في السنة ذاتها وصلت دفعة من الصبايا المعتقلات في مدينة الشمال بعد اعتقالهن هناك مدة شهر تقريباً. كنّ ثماني معتقلات هن: مي.ح(40)، سحر.ب، لينا.ع(41)، أميرة.ح(42)، وفاء.ط(43) صاحبة الصوت الجميل وأغاني صباح فخري، حميدة.ت، هدى.ك(44). وغرناطة.ج. تم نقلهن في باص مع أربعة من رفاقهن. كان الانتقال أشبه برحلة، كأن عناصر الأمن يكفّرون سلفاً عن سني العذاب التي تنتظر الصبايا في العاصمة. لم يضعوا الطميشات على عيونهن، كما جرت العادة، ولم يربطوا أيديهن بالكلبشات.. قاموا بكلبشة الشباب فحسب.
فرصة جيدة كي يودعوا الحياة لمدة أربع سنوات قادمة.
غرناطة.ج، التي نقلت معهن من المدينة الشمالية حيث اعتقلت، لم تكن قد بلغت الحادية والعشرين من عمرها بعد، تدرس في كلية الهندسة الميكانيكية وذلك في كانون الثاني سنة 1987.
في الليلة التي سبقت يوم اعتقالها خرجت غرناطة في صقيع الساعة الثانية فجراً من بيت جدتها. كان خالها قد اتصل منذ ساعة وقال إن الأمن سأل عنها في المدينة الجامعية حيث تسكن، ومن ثم سأل في بيت خالها في المدينة نفسها.
لم أكن أعرف ماذا سأفعل؟
فتاة مثلي في مدينة محافظة كهذه المدينة، وفي وقت عصيب كالثمانينيات، وبعد منتصف الليل.. ما الذي سأفعله الآن؟! نزلت إلى الشارع، ولم أجد نفسي إلا وأنا أوقف سيارة تاكسي لأذهب إلى بيت أصدقاء من الممكن أن يكون بيتهم آمناً. لكني لم أجد أحداً في البيت، فلم يكن مني إلا أن عدت وأوقفت سيارة تاكسي من جديد. تحديقات شوفير التاكسي كانت تحاصرني، تجبرني على تبرير وجودي في مثل هذا الزمان والمكان. صرت أؤلف قصة ما تبدو مقنعة: أني تعاركت مع زوجي في الليل، أني هاربة منه ومن بطشه إلى بيت أهلي.. وما إلى ذلك.
حينها سألني الشوفير: لوين بدك تروحي؟
لم يكن في ذهني شيء، ربما كنت قد أخذت التاكسي لأترك لنفسي فسحة للتفكير.. حينها تذكرت بيت صديق حميم، وتوجهت إليه على الفور.
حين نزلت من السيارة لم يكن هناك أحد في المنزل، مشيت إلى الأمام قليلاً، كان هناك بناية ببيت درج زجاجي، دخلت إليها وقعدت إلى الصبح. البرد كان شديداً. كلما سمعت صوتاً مقترباً أصعد الدرجات إلى الأعلى ثم أعود حالما يختفي. ما أن أطلّ الفجر حتى كنت قد انهرت تماماً، فقررت الذهاب إلى بيت أصدقاء آخرين. الباب الخارجي هناك كان مغلقاً. هذه رسالة تعني أن هناك أحداً في الداخل: رجال الأمن بالتأكيد. على الرغم من ذلك فتحت البوابة، ودخلت من فوري، كانت الساعة قد بلغت السابعة صباحاً. رجال الأمن كانوا في الداخل فعلاً. أنا أشبه بطفلة متشردة في العشرينيات، ترتجف من البرد والتعب.
ـ ماذا تريدين قبل أن نذهب؟
سألني ضابط الأمن على غير عادته وقت الاعتقال.
ـ أريد أن أنام.
بالفعل تركني أنام في الداخل حوالي ساعتين. الغريب أني ارتميت بكامل ملابسي على السرير، وغرقت في نوم عميق خلال هنيهات على الرغم من كل الجو المتوتر المحيط بي. في التاسعة تماماً أيقظني:
ـ لم نعد نستطيع التأخر أكثر من ذلك.. يا الله.
قال الضابط، ثم طلب مني أن أغيّر ثيابي. كنت أرتدي تنورة وجاكيت وكندرة، فلبست بنطلون وبوط صديقي، ومن ثم أخذوني إلى فرع الأمن2 العسكري.
لم يكن أمام الصبايا الثماني، المنقولات بالباص من مدينة الشمال إلى العاصمة، إلا أن يغنين طيلة الطريق. كانت مي.ح، التي اعتقلت سابقاً في فرع العاصمة، تنقل إليهن طيلة الوقت صورة مفزعة عن الوضع في الفرع، هذا ما جعلهن خائفات للغاية.
حدثتهن عن الأوساخ والقذارة هناك، عن الحشرات العجيبة والفئران، عن الوحشية التي سيعاملن بها. حدثتهن أيضاً عن اعتقالها السابق وقت أتتها الدورة الشهرية، بعد أيام من الاعتقال، ولم يرضَ السجان أن يأتيها بالمحارم النسائية، لأنها، حسب قوله، كان ينبغي أن تحتاط للأمر، وتجلب معها الفوط قبل الاعتقال! اضطرت مي وقتئذ إلى استعمال الجرائد التي أتاها السجان بها بدل الفوط النسائية.
على الرغم من كل ذلك أملت الصبايا بوضع مغاير قليلاً. لأن الفرع في مدينة الشمال كان قذراً للغاية، ولا يعقل أن يكون هناك أقذر منه. حتى أن بعضهن كحميدة اضطرت إلى أخذ مضادات تحسس، لأن الأوساخ عملت على جعل البثور الحمراء تجنّ في جسدها. إضافة إلى أنهن حشرن، وهن حوالي خمس عشرة معتقلة، في زنزانة ضيقة مما جعلهن مضطرات إلى تقسيم أدوار النوم، قسم ينام بطريقة التسييف(45) فيما ينتظر القسم الآخر دوره عند الباب.
الوضع كان مرهقاً حقاً، ازداد بؤسه بوجود حالة عصبية زادت الطين بلة: فتاة كردية شابة تدرس في المعهد الطبي. على الرغم من عدم قيام الفتاة بأي فعل سياسي خارجاً، وعدم انتسابها إلى أي فصيل معارض، فقد اعتقلت بشراسة، وذلك بتهمة حضورها لما سميّ: المؤتمرات الطلابية تلك السنة في جامعة الشمال، حيث اشتعلت المشاكل بين طلاب الاتحاد الوطني للطلبة/ حامل لواء السلطة وبين طلبة المعارضة. كانت تلك الفتاة من بين البنات الكثيرات اللواتي سقن في ذلك الوقت إلى السجون. اعتقلت الفتاة مع صديقها الكردي: آزاد. في ذلك اليوم عمل العناصر على تعرية الفتى تماماً، ومن ثم عذّبوه تعذيباً وحشياً ولمدة طويلة وهم يجبرونها على مراقبة ذلك، كلما حاولت إغماض عينيها يجبرونها على فتحهما، يغرسون أصابعهم بين جفنيها، يشدّون شعرها، ويعاجلونها بضربة مباغتة تجبرها على البحلقة! دخلت الفتاة في حالة من الانهيار العصبي. ظلت بعدها أكثر من عشرة أيام وهي تضرب أبواب المهجع بيديها ورجليها، وتصرخ بجنون فيما المكان الضيق، الذي ينوء بالمعتقلات المحشورات، يهتزّ من صدى ضجيجها وضجيج الضرب على أبواب الحديد. ظلت الفتاة الكردية تصرخ، تزعق، تخبط، تشتم، وتتلوى في أرض الزنزانة حتى أخرجوها منها. لكن إلى أين؟ هذا ما لم يعرفه أحد!
وصل الباص من مدينة الشمال إلى ساحة رئيسة في العاصمة، وهناك راحت الصبايا يغنين:
زينوا الساحة.. والساحة لينا..
ربما كنّ يحاولن بالغناء أن يطردن شبحاً قبيحاً لازمهن عن العاصمة، أو كن يحاولن أن يسترجعنها كمدينة حرّة كانت قبلاً تزفّ الأحرار وفي هذه الساحة بالذات. تلك الساحة لا تمتّ اليوم بصلة لكل ما كانته. ربما كن يحاولن تحصين أرواحهن من الآتي المرعب حتى وصلن فرع الأمن2 العسكري.
حملة الاعتقالات التي طالت أطياف المعارضة كانت آنذاك في آخرها، وكل ما تريده السلطات الأمنية من معلومات كان مكشوفاً لها، لذا فقد كان تكهّن مي.ح في غير مكانه. وضعت الصبايا في غرفة وأغلق الباب. هنا بدأت الرحلة الأشد خصوصاً أنهن وصلن بعد العشاء، الأمر الذي جعل إمكانية تقديم الطعام مستحيلة، وهنّ جائعات.. جائعات جداً. لذا كان لابد من جمع كل ما معهن من نقود، وإعطائها للسجان المناوب ليأتي لهنّ ببضع زيتونات، يسددن بها رمقهن.
الشباب الأربعة، الذين وُضعوا في الغرفة المجاورة، دأبوا على دق الحائط المشترك: كانوا جائعين أيضاً. لكن ما كان متاحاً للصبايا لم يكن متاحاً لهم، لذا فقد حاولت البنات استخدام تمديدات الكهرباء غير المنجزة، التي أحدثت ثقباً في الحائط بين الغرفتين، ليدخلن حبات الزيتون حبة حبة في الثقب، ثم ينتظرن ليتلقين بذورها بعد أن يأكلها الشباب. ما فعلنه كان الحل الأنسب كيلا يكتشف السجانة بذر الزيتون في مهجع الشباب، وحينها سيتعرضون جميعا للعقاب المؤكد.
في فرع الأمن2 العسكري كان كل شيء ممنوعاً حتى الأصوات.. عليك أن تهمسي همساً. الجدران صماء لكنها تنقل أية نأمة. السجانة صمّ لكنهم يلتقطون تنهيدة النفس. وباب الحديد أصمّ لا يرد صوتاً ولا ضجيجاً. في فرع الأمن كان كل شيء ممنوعاً حتى الحياة، وربما كانت أول الأشياء الممنوعة! في صباح اليوم التالي أخذوا سحر.ب وأميرة.ح، وتركوا البقية في الغرفة. رميتا في زنزانة مألوفة بعد أن أخرجوهما من مزدوجة أخرى، قيل أن الجرب استشرى فيها.
كانت الزنزانة الجديدة زنزانة هند. ق قديماً. لم تتأخر أميرة وسحر باكتشاف ذلك، فقد كانت مليئة ببصمات هند الخاصة، بالكتابات وبخربشات الحك والقلم، والروزنامة على الحائط وراء الباب الحديدي، والجملة المتوهجة التي نقشتها هند فوق الباب:
غاب نهار آخر..
كان لتلك الجملة قدرة السحر في بثّ السلوى في روحيهما القانطتين.
كل شيء في زنزانة هند على حاله، كأن السنوات الثلاث لم تمرّ على تلك الجدران الوفية. وزنزانة أبي مهند، المعتقل الفلسطيني الذي كان سكرتيراً لياسر عرفات، ما تزال على حالها بجانب زنزانة هند، وساكنها ما يزال نفسه: ذاكرته متقدة حاضرة، وميّزاته الكثيرة، دون بقية المعتقلين، لا تزال: زنزانته مفتوحة دائماً فيما تغلق الأبواب على الزنازين الأخرى، يخرج في بعض الأحيان ليتمشى ببيجامة الرياضة في الكوريدور، الأمر المحرّم بالطبع على باقي المعتقلين إلا حين الذهاب إلى الخط، يدردش مع العناصر، والأهم لديه راديو مفتوح دائماً، وبصوت عال، على صوت فلسطين.. الصوت الوحيد وسط صمت الزنازين وصراخ السجانة وخبطات أبواب الحديد.
أول أغنية سمعتها أميرة.ح، بعد زمن طويل من الاعتقال، كانت من راديو أبي مهند: ثوري ثوري. حينئذ فقط علمت، هي وسحر، أن انتفاضة 87 قد قامت في الأراضي المحتلة.
أما بقية الصبايا فقد نقلن إلى المهجع رقم 6.
حميدة.ت كانت تعاني من إدرار بول شديد، والاعتقال زاد حالتها سوءاً على سوء، الأمر الذي جعلها لا تستطيع انتظار الليل بطوله كي يأتي الصباح، وبالتالي تدخل إلى الحمامات وقت يسوق السجانة المعتقلات إلى الخط. كما إنها لم تستطع الاعتياد،
كما معظم المعتقلات، على التبول على مرأى من الجميع في علبة بلاستيكية كانت مخصصة فيما مضى لمعجون الجلي. تلك العلبة البلاستيكية تحولت إلى مرحاض صغير متحرك: لونه قاتم وتفوح منه رائحة نشادر قاتلة تفغم المهجع بكامله. كان ذلك في المهجع قبل أن تُنقل الصبايا إلى المزدوجات حيث الحمام من ضمن الفراغ المغلق عليهن.
المهجع رقم 6 كان محاطاً بزنازين المعتقلين. قبالته منفردة فيها معتقل شيوعي شاب اسمه: موريس، فيما بقية الزنازين مليئة بعساكر معاقبين. لم يكن أمام المعتقلات إلا طلب المعونة من رفيقهن المقابل، وذلك عبر مناداته من شقّ الشراقة في باب المهجع، وكان على موريس مساعدة حميدة في محنتها بأية وسيلة كانت، فالمسكينة كانت تتلوى من الألم، ومثانتها تكاد تنفجر!.
بالفعل استطاع موريس اختراع طريقة مبتكرة لحلّ المشكلة:
نادى في صمت الليل على سجين المنفردة المجاورة له، وهو عسكري معاقب بسبب سرقته لسيارة ضابطه وهربه بها. وبما أن شرّاقة العسكري كانت مفتوحة، بخلاف السياسيين، فقد استطاع موريس، بشقّ النفس، تمرير حزامه الجلدي إليه. إثر ذلك راح العسكري يطوّح بالحزام من شراقته إلى باب المهجع المقابل: مهجع المعتقلات. فشلت محاولات عديدة في جعل بكلة الحزام المعدنية تعلق بالمزلاج الذي يغلق المهجع من الخارج. امتد الزمن والمحاولات الفاشلة تتالى، وحميدة يكاد يغمى عليها.
لكن الخطة نجحت أخيراً فقد عَلِقت البكلة المعدنية بالمزلاج، واستطاع العسكري أن يسحبه ويفتح باب المهجع. بخفة قطة مجربة تسللت حميدة عبر الكوريدور، الصامت والمعتم، إلى الحمامات في نهايته لتقضي حاجتها الملحّة بسرعة، وتعود من فورها، وعلى رؤوس أصابعها، إلى المهجع الذي يغصّ بالمعتقلات المنتظرات والخائفات لئلا يكتشف الأمر، ويخضعن كلّهن لعقاب جماعي لم يكنّ يتكهّن بشراسته.
بعد أيام في المنفردة نقلت سحر وأميرة إلى المهجع 6 أيضاً، حيث صار عدد المعتقلات هناك حوالي إحدى وأربعين معتقلة من تهم مختلفة: شيوعيات، عرفاتيات، بعث عراق، ودعارة سياسية، وذلك قبل أن ينقل بعضهن إلى المزدوجات في فرع الأمن1، حيث قضين الثلاث سنوات القادمة، وينقل بعضهن الآخر إلى سجن النساء ليقضين السنوات الأربع القادمة.
من الصعب وصف ذاك الشوق الكبير الذي استقبلت به المعتقلات في فرع الأمن. كان عددهن تسع شيوعيات فحسب إضافة إلى المعتقلات الأخريات. الفرع ممتلئ، حتى التخمة، بالمعتقلين والمعتقلات. الشباب في المزدوجات المقابلة لمزدوجاتهن. الأمر الجيد، الوحيد ربما، أن المعتقلات كنّ قادرات على رؤية رفاقهن من السقيفة فوق المزدوجة، وذلك عن طريق شبك الباب الفوقاني الذي يطلّ على الكوريدور المطل بدوره على سقيفة مزدوجات الشباب.
تحدثت البنات لرفيقاتهن عن التعذيب الشديد الذي تعرّض له المعتقلون قبل قدومهن، وذلك حين طالبوا بتحسين الخبز (ما اصطلح على تسميته فيما بعد انتفاضة الخبز). ضربوهم بشكل مسعور في الكوريدور. شبحوهم لساعات طويلة على أبواب الحديد أمام الجميع.. كان صراخهم يملأ الفرع: عباس.ع، سمير.ح، أكرم.ب، فرج.ب، مازن.ش، وراشد.ص. حينها جلب السجانة أكل الغداء للبنات في المزدوجات، فرفضن أن يأكلن حتى فكّوا الشباب عن الشبك. بالنسبة إلى القادمات الجدد كان مجرد سماع القصة يحرك ألماً عميقاً لا يستطعن احتماله فما بالك باللواتي عشنه.
انتفاضة الخبز تلك شهدتها حسيبة.ع أيضاً. وحيدة في منفردتها كانت، وما حدث يضجّ حولها حتى اللحظة: كانوا يضربونهم بجنون.. بجنون وهي منكمشة على نفسها، تحاول أن تمنع أصواتهم المتألمة من الدخول إلى رأسها. لم يأكل أحد في ذلك اليوم، كان يجب أن يُعلن الإضراب العام لكنها كانت حملة اعتقالات مسعورة وأي ردّ من هذا القبيل سيشعل النيران أكثر! الحرب النفسية هي السلاح الأمضى المشهر أبداً في وجه المعتقل. ربما هذا ما حدا بالمحققين إلى وضع المعتقلات في جو من الرعب والتحقير: لست بطلة.. لست صامدة.. أنت شيء صغير صغير جداً.. أنت باختصار وبفيض كلام: لاشيء.

تلك الحرب النفسية كانت أول حرب تشنّ عليّ وقت اعتقالي حين رميت إلى جانب مزدوجات البنات في منفردة محايدة.. وحدي وحدي.. كان قد مرّ أكثر من سنة على اعتقالي الثاني، وبضعة أشهر على وجودي في سجن النساء، حين أعدت من جديد إلى فرع الأمن1 للتحقيق معي. يبدو أن جملة معلومات إضافية اكتشفت، إثر حملة الاعتقالات الكبيرة في سنة 1987، وأرادوا أن يتحققوا مني بشأنها. أو ربما كان الأمر، على ما يبدو، مجرد أخبار تسرّبت من سجن النساء عن كوني أتكلم بأشياء لها علاقة بالسياسة أثناء زيارات الشبك.. أو شيء من هذا القبيل. بقيت في المنفردة أربعة أشهر ونيّف. الزنازين حولي مليئة بالمعتقلين طيلة شهور، أصوات التعذيب تصلني في كل وقت، في الصباح والمساء، في الظهيرة وبعدها، صراخ مؤلم يمنعني النوم والتفكير وحتى التنفس. في تلك المنفردة كانت القوة النفسية هي المهمة، القوة الداخلية وليست الإيديولوجيات. تحوّل الأمر باعتقادي إلى امتحان، امتحان حقيقي، ولا توجد وسائل تقاتلين فيها إلا الجسد.. إذاً كان عليّ أن أقاتل الاعتقال والزنازين وبطشهم بجسدي.
الكثيرات مثل حسيبة حاربن الاعتقال والسجن بأجسادهن لا غير. لكن الأمر لم يكن سهلاً البتة ومخالب الوحدة والعجز تنهش فيهن يوماً بعد يوم. حين كان الليل يخيّم، تخفّ وطأة العناصر المراقبة في الكوريدورات، يبدأ ليل المعتقلين، ليل من الأحاديث الحميمة والأصوات المألوفة والحب، ليل يجعل النهار الجحيمي يمضي بعيداً.
فاديا.ش(46) كحسيبة، وغيرها من المعتقلين، تنتظر الليل بفارغ الصبر لتتحدث مع قاطني الزنازين المجاورة، وذلك من تحت الباب الذي يرتفع سنتيمترات قليلة عن الأرض. توسّد رأسها إلى صلب الإسمنت، وبعين واحدة تراقب الأبواب الموصدة للمنفردات المقابلة، ترمي كلماتها بصوت هامس، وتستمع إلى الدقّ على الجدران المشتركة بين مهجع المعتقلات ومنفردات المعتقلين. كانت فاديا تحاول أن تحيك، من الهمسات والأحاديث الخافتة والطرقات، أمسيات عذبة وحميمية على الرغم من كل شيء. في ليل الزنازين تشرق شمس جديدة، شمس تبدّد ظلمة الوحدة والصمت وقهر السجون. بعد كل تلك الشهور والتحقيق أعيدت حسيبة.ع من جديد إلى سجن النساء. كانت تصيح في الكوريدور بصوت عال وهي تغادر الفرع يجرّها السجان من يدها:
ـ أنا خارجة.. هل هناك من يريد شيئاً مني؟ أنا ذاهبة إلى دوما هل…
لم ترد على صياحها إلا النحنحات من المنفردات المتقابلة، النحنحات المتصاعدة والوجلة، وهي تحمّلها وعود المعتقلين. فيما أنّات زوربا (وجيه.غ) تصاحبها وهي تغادر، ويصاحبها حتى اللحظة صوته المتعب وهو مرمي في المنفردة مدمّى من التعذيب، يطلب من السجان كل حين طلبه الأوحد: شعّليّ سيجارة..

عن الاعتقال كتبت ناهد. ب في مذكراتها:
(بعد انتهاء التحقيق أنزلوني إلى القبو أي سجن الفرع. أول ما بادرني وأنا ما زلت على درجه تلك الرائحة الغريبة والفظيعة والتي لا يعرفها إلا من زار مثل هذه الأماكن، ولكن يمكنني تشبيهها برائحة قن دجاج غير مهوّى لمدة سنة كاملة. ثم بادرتني لوحة معلقة أمام الدرج بحيث يقرؤها النازل بسهولة، لوحة مكتوب عليها الآية القرآنية: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(47). فابتسمت في سري وقلت لم يفتهم استثمار أي شيء. بعد نهاية الدرج دخلنا في ممر عريض تتوزع أبواب المهاجع على اليمين واليسار في آخره حمامات الزنازين على يمينها ممر صغير يفضي إلى عشر زنازين، وعلى يسارها ممر صغير آخر يفضي إلى ثمانية زنازين ومهجع جماعي صغير يسمونه 802. الزنازين اليمنى كانت مليئة بالنساء الشيوعيات واليسرى بشبابه. وهنا أيضاً خدمتني الظروف بأن لا مكان لي في الزنازين كما هي عادتهم أول الاعتقال، فقد أدخلوني إلى المهجع 6، وهو غرفة تقع على يسار الممر الرئيسي، غرفة مربعة أظن أن ضلعها يساوي 5م، ومقابل الباب يقع المرحاض. دخلت إلى الغرفة ووجدت فيها خمس معتقلات هن: آسيا، رجاء، هتاف، أم بسام، ورقية، وعرفت فيما بعد أنهن من نفس التهمة. وكان وضعهن النفسي صعباً فقد تركن وراءهن أطفالاً صغاراً، ورقية كانت حاملاً.

واصلنا الحياة بأقصى ما نستطيع من التحايل على هذه الظروف السيئة. ابتدعنا طرقاً للتواصل عبر الجدران مع رفاقنا في الزنازين وكانت تضم أسامة وعدنان ونزار و.. آخرين. في البداية كنا نكتب الكلمة بقطعة معدنية ويحاول الرفيق على الطرف الآخر إدراكها عن طريق الإصغاء بلصق الأذن على الجدار، إلا أنها كانت وسيلة صعبة وغير ناجحة في بعض الأحيان. فابتكرنا طريقة أخرى تعتمد على الطرق على الحائط عدد من الطرقات يساوي موقع الحرف الذي نريده في الأبجدية مع فاصل بين الحرف والحرف وهكذا تبادلنا الأخبار ودارت أحاديث طويلة).

أما هبة. د فقد كتبت بعد سنوات طويلة عن الاعتقال في كتابها:
(الخروج.. لكن إلى…(48): كنا نراقب خروج الشباب بعد الإفطار في السجن إلى الخط، فيقبل بعضنا إلى شق في طاقة بابنا تراقب ما يجري وتترقب بعضهن أن ترى أخاً لها أو قريباً بينهم.. ولم تكن تلك الصلة الوحيدة بيننا وبين الشباب، فلقد اكتشفت البنات قبلنا وجود فراغ بسيط حول أنبوب التدفئة بين مهجعنا والمهجع المجاور فطلبن من العناصر خرطوماً بحجة استعماله في الحمام فأحضروه لهن، فمددوه عبر الفراغ وصرن يحادثن الشباب عبره أو يمررن لهم الماء من خلاله لأن المهاجع الأخرى(49) باستثنائنا لم تكن فيها حمامات أو صنابير مياه، ولم يكونوا يسمحون لأحد بطلب ماء أو الذهاب للحمام إلا في المواعيد. ذات يوم وبينما كانت الحاجة(50) تحادث الشباب في الزنزانة المجاورة عبر الأنبوب أتاها من وراء الجدار صوت سائل منهم يسأل إن كان بيننا حمويات. فقالت له: نعم.. فقال لها: يا خالتي نحن من المدينة أيضاً وسنخرج غداً إفراج، فلو كانت لدى أي من الحمويات رسالة لأهاليهن اكتبوها وضعوها في شق الطاقة ونحن سنسحبها بإذن الله أثناء خروجنا إلى الخط بطريقة لا تشعر العناصر ونوصلها لهم..
والذي تبين فيما بعد أن هؤلاء الشباب المساكين وعدوا بالخروج في اليوم التالي وبالفعل ولكن الخروج كان في الحقيقة إلى…!.)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى