الإخوان المسلمون و”الانتقال المنظّم” للسلطة
جلبير الأشقر
نهاية شهر شباط/فبراير، قرّر الإخوان المسلمون تأسيس “حزب الحرية والعدالة” كذراعٍ سياسي تمكّنهم من التأثير في مستقبل البلاد.
بعكس معظم الترجيحات، كانت الغلبة لأطرافٍ علمانية وديموقراطية في تحالفات القوى – أحزاب، جمعيات، شبكات من روّاد الإنترنت – التي دفعت بالإنتفاضة المصرية وقادتها. وقد شاركت منظّمات الحراك الإسلامي أو شارك أعضاؤها بصفةٍ فردية في هذه الانتفاضة، إنّما على قدم المساواة مع تشكيلاتٍ كانت هامشية قبل بداية الثورة، ومجموعاتٍ أشبه بالمنشقّين الأوروبيين الشرقيين في العام 1989 منها بالأحزاب الجماهيريّة أو الطلائع الثورية التي تبرز عادةً في الثورات الاجتماعية.
واذا أمكن تفسير التواضع الذي اتسم به دور الحركة الإسلامية في تونس بوحشية القمع الذي حدّ كثيراً من قدرة حزب النهضة على التحرّك، فإنّ الموقف الحذِر الذي إعتمده الإخوان المسلمون في مصر يجد تفسيره، من باب المفارقة، في موقعهم كحزبٍٍ سمح بنشاطه النظام العسكري القائم.
والحال أنّ أنور السادات، بعد تبوّئه السلطة عقب وفاة جمال عبد الناصر في أيلول/سبتمبر 1970، كان قد سهّل عودة الإخوان إلى السّاحة العامّة وارتقائهم لموازنة اليسار الناصري، أو الراديكالي. فاندرج الإخوان المسلمون بالكامل في سياق سياسات التحرير الاقتصادي (“الانفتاح”) الذي أشرف عليه مقوّض الناصريّة هذا، الأمر الذي انعكس إجتماعياً في صفوفهم بالتأثير المتزايد لرجالٍ ينتمون إلى البورجوازية المصرية الجديدة. إلاّ أنّهم مع ذلك لم يعدلوا عن إبراز تقواهم في مواجهة تفشّي الفساد، لا بل شكّلت إدانة الفساد إحدى حججهم الأساسيّة لدى الشرائح البورجوازية الصغيرة التي تشكّل أرضيّتهم المفضّلة.
وقد بنت جماعة الإخوان المسلمين نفسها كحركة سياسية رجعيّة دينية، كان هدفها الرئيس – ولا يزال- هو أسلمة المؤسّسات السياسية والثقافية المصرية، والترويج لإعتبار الشريعة مصدر التشريع القانوني؛ وهو برنامج يلخّصه شعار الجماعة المركزيّ: “الإسلام هو الحلّ”. لكنّ الجماعة شكّلت أيضاً ترياقاً سياسياً في مواجهة مجموعات أصوليّة متطرّفة وعنيفة.
من جهته، استمرّ السادات بالمراهنة على الورقة الدينية لشرعنة سلطته عقائدياً في مواجهة المعارضة الاجتماعية والقومية. فبغية التعويض عن تأثير اتفاقية السلام التي عقدها مع إسرائيل في آذار/مارس 1979 (بعد أقلّ من ستّة أسابيع على الثورة الإيرانية) والتي لم تحظَ بتأييدٍ شعبي، عدّل الدستور في العام التالي لإدراج الشريعة فيه كـ”مصدرٍ رئيسي للتشريع”، وذلك بالرغم من وجود أقليّةٍ مسيحيةٍ هامّة في صفوف الشعب المصري. بيد أن هذا التنازل لم يكفِ لكسب تأييد الإخوان للمعاهدة الإسرائيلية المصرية. حينها قرّر السادات وضع حدّ لنفوذهم. وفي العام 1981، قبل بضعة أشهرٍ على اغتياله على يدّ أعضاء في الجناح المتطرّف من الحراك الأصولي الإسلامي، شنّ ضدّهم حملةً واسعة من الإعتقالات.
بعد فترةٍ وجيزة على ارتقائه سدّة الرئاسة كخلفٍ للسادات، أطلق السيد حسني مبارك سراح الإخوان المسلمين المحتجزين. ففي البداية، قدّم الرئيس الجديد نفسه على أنّه رجل معتدل ورزين، مبرزاً الفرق بين أسلوبه وأسلوب سلفه المتغطرس. وحاول بدوره التفاهم مع الإخوان المسلمين ليزوّد نفسه بقاعدةٍ شعبية، مع حرصه على استمرار نظام الحريّات المقيّدة الذي فرضه السادات عليهم للحدّ من تطوّرهم.
حذر المحافظين الأكبر سنّاً، ونزعة الشباب منهم للمطالبة بالحريات السياسية
تشنّجت علاقات الإخوان بالنظام في العام 1991، خلال مشاركة مصر في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ضدّ العراق خلال حرب الخليج. وقد تسبّب هذا الصراع بمنعطفٍ حاسمٍ في العلاقات بين واشنطن وحليفتها السعودية من جهة، والحراك الإقليمي للأصولية الإسلامية السنيّة “المعتدلة”، الذي تنتمي إليه الأحزاب الإسلامية الجماهيرية في الجزائر ومصر وتونس، من جهة أخرى. فشاركت تلك الأحزاب بالاحتجاج ضدّ الحرب، بما أغاظ النظام الملكي السعودي الذي كان يحافظ على علاقات معها حتّى ذلك الحين. هكذا سهّلت قطيعتهم مع الرياض تعرّضهم للقمع بدرجاتٍ مختلفة خلال التسعينات، بموافقة الولايات المتحدة وأوروبا.
خلال الأعوام العشرة الأخيرة، عرف الإخوان تضارباً بين النزعة الحذرة المحافِظة لدى قادتهم الأكبر سنّاً والضغط الذي مارسه جزءٌ من كوادرهم الأكثر شباباً، من أجل المطالبة بالحريّات السياسية بقوّة وفعاليّة. فمع حرصهم على عدم إثارة سخط النظام، إزداد انخراطهم في المعارضة الديموقراطية والوطنية. فشارك أعضاؤهم في حركة “كفاية”، التي ولدت وسط مناخ التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وتطوّرت في سياق معارضة الحرب على العراق في العام 2003، قبل أن تفرض نفسها كقوّة معارضة للطابع الديكتاتوري للسلطة ولمشروع توريثها الذي بدأت ترتسم ملامحه.
كان من شأن ارتقاء حزب العدالة والتنمية، وهو حزب مسلم محافظ، إلى السلطة في تركيا عبر الانتخابات البرلمانية في العام 2002، أن شجّع المطالبين بالمزيد من الجرأة السياسية. وقد بدا وكأن التجربة تؤكّد على إمكانية اعتماد نموذجٍ كان يُعتبر حتّى ذاك الحين غير قابلٍ للتطبيق. والحال أنّ تعليق العسكريين القسري للآلية الانتخابية في الجزائر، في كانون الثاني/يناير 1992، ومن ثم إستقالة السيد نجم الدين أرباكان الإجبارية في تركيا في العام 1997، وقد أقصاه الجيش بعد عامٍ على تبوّئه رئاسة الحكومة، كانا قد أظهرا أنّ الوجهة البرلمانية مسدودة أمام الحركات الإسلامية النزعة في البلدان التي تخضع فيها السلطة السياسية للسيطرة العسكرية.
ثمّ أشارت التجربة التركية الجديدة إلى تغييرٍ في هذا المجال، لا سيما وأن واشنطن والاتحاد الأوروبي قد باركا هذا المسار الجديد. إذ إزاء سقوط الذريعة الرسميّة لاجتياحها العراق (أي وجود أسلحة دمار شامل) في العام 2004، تحجّجت إدارة بوش بـ”ترويج الديموقراطية” كهدفٍ مُعلن لسياستها في الشرق الأوسط. ونتيجة للتطوّر المطمئن للتجربة التركية، ارتفعت في واشنطن أصواتٌ تطالب بموقفٍ أكثر انفتاحاً إزاء الإخوان المسلمين المصريين. فخضع السيد حسني مبارك على مضض لضغوط الولايات المتحدة، وسمح بتعدّدية أكبر في انتخابات العام 2005 متنازلاً عن المزيد من المقاعد للمعارضة، كان أكثرها من نصيب الإخوان المسلمين. هكذا أمل مبارك أن يبرهن بهذا الشكل أن إجراء انتخابات حرّة في مصر سيصبّ في مصلحتهم أكثر من سواهم. وبعد بضعة أشهر، في كانون الثاني/يناير 2006، جاء الفوز الانتخابي لحركة حماس الفلسطينية ليُخمد أيّة رغبة لدى إدارة بوش في “ترويج الديمقراطية” في المنطقة بشكلٍ عام، وفي مصر بشكل خاصّ.
إن تبوّء السيد باراك أوباما سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة، والخطاب الذي ألقاه في القاهرة في 4 حزيران/يونيو 2009 والذي أكّد فيه على دعمه للتحوّل الديموقراطي في المنطقة، إضافةً إلى تحذلقه على نظيره المصري، أمور أثارت حماسة المعارضة ضدّ السيد مبارك. فبعد بعض التردّد، قبل الإخوان تمثيلهم في “الجمعية الوطنية للتغيير”، وهي التحالف ذات الغالبية الليبرالية الذي تأسّس في شباط/فبراير 2010 وأبرز أعضائه السيد محمّد البرادعي.
بالرغم من ذلك، تجاهل الإخوان بعد بضعة أشهر دعوات المعارضة الليبرالية لمقاطعة الانتخابات البرلمانية المُزمَع إجراؤها في تشرين الثاني/نوفمبر-كانون الأول/ديسمبر، وشاركوا في دورتها الأولى على أمل الحصول في المقابل على تجديد قسمٍ كبيرٍ من مقاعدهم. فجاءت النتيجة بما لم يُبقِ أمامهم من خيار سوى مقاطعة الدورة الثانية. لذا لم يحصلوا سوى على مقعدٍ واحد، لنائبٍ تم فصله من الجماعة لعدم التزامه بمقاطعة الدورة الثانية، مقابل ثمان وثمانين مقعداً في المجلس المنتهية ولايته.
أدّت تلك الانتخابات إلى تفاقم السخط لأقصى حدوده، في بلد يعيش فيه 44 في المئة من السكّان بأقلّ من دولارين يومياً، وتتباهى فيه بورجوازيّة وصولية وجشعة بترفٍ لا يضاهيه سوى ترف أغنياء مشايخ النفط الخليجيين الذين يزورون مصر للترفّه. هكذا بات البلد أشبه ببرميلٍ من البارود؛ وجاءت الشرارة من تونس. فدعت شبكات وتحالفات من المعارضين الشباب إلى التظاهر في 25 كانون الثاني/يناير 2011. ومرّة أخرى، خشيت جماعة الإخوان المسلمين من إثارة سخط النظام عليها، فقرّرت عدم الإنضمام إلى هذه الدعوة. ولم تلتحق بالحركة سوى في اليوم الثالث، إذ قرّرت توظيف قوّتها المنظّمة في التظاهرات. وفي الوقت نفسه، حرص قادة الإخوان على كيل المديح للجيش، لعلمهم بأنّ هذه النواة الصلبة للنظام هي التي سوف تبتّ الأمور في النهاية.
الجماعة تعارض “الدولة الدينية” لصالح “دولة مدنية ذات مرجعيّة إسلامية”
عندما عيّن السيد مبارك رئيس جهاز المخابرات، السيد عمر سليمان، نائباً له، دعا هذا الأخير المعارضة إلى “الحوار”، فوافقت قيادة الإخوان على اللقاء به. ساهم هذا الموقف، إضافةً إلى رفضها المشاركة في المرحلة الأولى للإنتفاضة، في الحطّ من مصداقيتها لدى “الشباب” قادة التحرّك. أخيراً، عندما تنحّى السيد مبارك، حيّا الإخوان الطغمة العسكرية وهم يطالبونها بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارىء. وأعلنوا عن مشروع تأسيس حزبٍ سياسيّ شرعيّ.
هكذا تستعدّ جماعة الإخوان المسلمين للمساهمة في “الانتقال المنظَّم” (orderly transition) للسلطة، الذي لم تكفّ واشنطن عن التوصية به منذ بداية الإنتفاضة المصرية. وقد أعطت الجماعة ضمانات لهذه الغاية، مؤكّدة على أنّها لا تطمح إلى الاستيلاء على السلطة، إنّما فقط إلى التمتّع بحقوق ديموقراطية. وهكذا شرح أحد قادتها، السيد عصام العريان، إلى صحيفة New York Times، في 9 شباط/فبراير، “ما يريده الإخوان المسلمون”، كاتباً: “ليس في نيّتنا لعب دورٍ طاغٍ في الانتقال السياسي القادم. ولن نقدّم مرشّحاً عنّا للانتخابات الرئاسية المرتقبة في أيلول/سبتمبر”. إذ يريد الإخوان “إنشاء دولةٍ ديموقراطية ومدنية”، مع إعتراضهم على “الديموقراطية العلمانية الليبرالية على الطراز الأميركي والأوروبي، ورفضها القاطع إدخال الدين إلى الحياة العامة” [1].
ثمّ كان العريان أكثر وضوحاً في مؤتمرٍ صحافي عُقد في اليوم نفسه في القاهرة، حيث شدّد على أن الإخوان هم “ضدّ الدولة الدينية” – أي بكلام آخر، ضدّ الدولة التي يديرها رجال الدين على الطريقة الإيرانية – لكنّهم “مع الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية” [2]. و”المرجعية” تعبير قد يُشير إلى سلطة قضائية من العلماء المسلمين مكلّفة بالتحقّق من توافق القوانين التي يصوّت عليها البرلمان مع الإسلام، ومزوّدة بحقّ نقضٍ تشريعيّ لهذه الغاية، على غرار ما نصّ عليه مشروع برنامج الجماعة الذي تمّ الإعلان عنه في العام 2007، ولم يُعتمد رسمياً. وقد زاد من الإحتجاج على هذا المشروع تأكيده على أنّ رئاسة مصر لا يمكن أن تعود إلى امرأة أو غير مسلم.
ولتأمين دعم الإخوان المسلمين لهم، عيّن العسكريون في لجنة تعديل الدستور أحد أبرز أعضاء الجماعة، المحامي والنائب السابق صبحي الصالح، وهو صاحب كتاب معادٍ للعلمانية. وعيّنوا على رأس اللجنة نفسها السيد طارق البشري، وهو قاضٍ متقاعد انتقل من قوميّة ناصرية إلى فكر يشدّد على الهويّة الإسلامية لمصر وضرورة إستناد تشريع البلد إلى الشريعة. هذا وفي الخطاب الذي ألقاه في القاهرة خلال التظاهرات الكبرى التي جرت يوم 8 شباط/فبراير، دعا الزعيم الروحي للجماعة، الشيخ يوسف القرضاوي، إلى وضع حدّ للإضرابات ومنح الجيش بعض الوقت، مع دعوته إياّه لتغيير الحكومة.
هكذا ترتسم ملامح “الانتقال المنظَّم” الذي يخطّط له العسكريون برعاية واشنطن: التوجّه المعتمد هو الديموقراطية الانتخابية تحت إشراف الجيش، على غرار العملية الانتقالية التي تمّت في تركيا بين العامين 1980 و1983. وجه آخر لـ”النموذج التركي” يلوح في الأفق: إمكانية وصول حزبٍ إسلامي النزعة إلى السلطة، وتعاونه مع العسكريين في إدارة البلد. وقد يكون هكذا تعاون أكثر سهولةً في مصر، لأنّ الجيش فيها لا يلعب البتّة دور حامي العلمانية الذي يدّعي لعبه في تركيا. إلاّ أن التوافق سيبقى معقّداً، طالما لم يشهد الإخوان المسلمون حركةً تجديديّة على غرار تلك التي نتج عنها حزب العدالة والتنمية التركي، وطالما استمرّوا في إثارة حذر الولايات المتّحدة وعداء إسرائيل بسبب موقفهم من قضيّة فلسطين.
لكن طالما لم تُخنَق الطاقة الثورية الكامنة التي تجلّت في 25 كانون الثاني/يناير، قد يؤدّي تجذّرها الذي تشير إلى احتماله موجة النضالات الاجتماعيّة التي أعقبت استقالة السيد حسني مبارك، إلى ولادة تيّار يساري قد يبدو الإخوان المسلمون مقارنةً به أهون شرّين، سواء بالنسبة لواشنطن أم لزبائنها العسكريين المصريين.
* أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية SOAS وجامعة لندن. صدر له مؤخّراً كتاب حول العرب والمحرقة: Les Arabes et la Shoah. La guerre israélo-arabe des récits, Sindbad/Actes Sud, Paris, 2009 المؤلفات السابقةالصادرة: “الشرق المتأجّج”، طبعة جديدة 2004. الصادر عن مؤلفات Page deux، لوزان، 2003، و”صدمة الهمجيات”، 18/10 باريس، آخر مؤلفاته: العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية-الإسرائيلية، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ودار الساقي، بيروت، 2010.
[1] Essam El-Errian, « What the Muslim Brothers Want », The New York Times, 9/2/2011.
[2] “الإخوان المسلمون: نرفض الدولة الدينية لأنّها ضد الاسلام”، Ikhwan online ، 9 شباط/فبراير 2011، www.ikhwanonline.net