صفحات مختارة

ميدان التحرير: إطار الثورة

ناصر الرباط
ميدانٌ يحمل كلّ رموز التاريخ المصري، ولكن الثورة وحدها أعطت اسمه معناه كاملاً
ميدان التحرير أنشأه الخديوي إسماعيل، وسمي بدءاً باسمه، وكلّف مصر ديوناً باهظة ومن ثمّ استقلالها. تحيط به ذاكرة وأبنية ترمز إلى الملكيّة السابقة، والتقارب مع روسيا السوفياتية وبعدها الولايات المتحدة، ومن ثمّ مصر الناصريّة وأحد الأبطال الشعبيّين. أعطي اسمه الحالي رمزاً للاستقلال، لكنّ الثورة الحالية هي التي حقّقت أخيراً هذا… التحرير.
خلال تاريخها المعاصر كلّه، نادراً ماتحدّثت مصر عن نفسها. فمنذ أن جاءها نابليون بونابرت غازياً عام ١٧٩٨ وحتّى الأمس القريب، تعاقبت على حكم البلاد مجموعة من الباشاوات والسلاطين والملوك والمندوبين الساميين والضباط الثوريين والرؤساء الدكتاتوريين والمترهّلين، الذين لم يتركوا للشعب كبير مساحةٍ من الحرية إلاّ في تلك اللحظات النادرة التي ثار فيها المصريون وانتزعوا بعضاً من حريّتهم لفتراتٍ قصيرة. كما في ثورة أحمد عرابي عام ١٨٧٩، التي انهارت تحت وطأة الاحتلال الانجليزي للبلاد عام ١٨٨٢، وثورة ١٩١٩ التي وحّدت الشعب المصري بمختلف فئاته حول سعد زغلول، “أبو المصريين”، ضدّ الاستعمار البريطاني. ولكن الاستقلال المبتسر، والتفاوت الطبقي الهائل، وهزيمة الجيوش العربية الناشئة أمام الحركة الصهيونية في فلسطين عام ١٩٤٨، تضافرت كلّها لكي تنتج “ثورة” مصرية جديدة: ثورة تموز/يوليو ١٩٥٢ التي أتت بالضباط الأحرار إلى السلطة.
وعدت ثورة ١٩٥٢ الشعب بالكثير ولكنّها لم تستطع تنفيذ وعودها. وتمخّضت بنهاية الأمر عن ثلاث جمهوريات حكمها ثلاث ضباط بالتتالي، جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك؛ لم يتخلّوا عن عقليتهم العسكرية وحكموا بيد من حديد، على الرغم من تفاوت سياساتهم في كلّ شيء عدا إيمانهم بحكمهم المطلق. هكذا عاشت مصر خلال ستين سنةً تقريباً في ظل حكمٍ عسكري ديكتاتوري ازدادت بشاعته وخذلانه وبطشه بابتعاد مسيرته عن أهداف الثورة الأصلية. ولم يتأتَ لمصر الانتفاض عليه بنجاح إلاّ في كانون الثاني/ يناير ٢٠١١.
ففي الخامس والعشرين من هذا الشهر، قام شباب ماعرف بجيل الفيسبوك بما عجزت عنه كلّ القوى السياسية التقليدية عبر عقودٍ طويلة من المعارضة، بشكلٍ أدهش كلّ المراقبين. فقد انتفض هؤلاء الشباب ضد النظام انتفاضةً سلمية غير ذات اتجاه سياسيّ واضح سوى الرغبة بالإطاحة بالنظام الفاسد والسعي إلى نظامٍ جديد أكثر عدلاً وأكثر ديموقراطية وأكثر انتماءاً لمصر ولقضاياها. وخلال ثماني عشرة يوماً من التظاهر السلمي تمكّن شباب الفيسبوك، الذين انضمّ إليهم الشباب الأفقر ومن بعدهم فئات المجتمع كافّة، من إجبار الرئيس مبارك على ترك الحكم مع معاندته الطويلة ومحاولاته المتعددة وأركان نظامه لتجاوز الاحتجاجات والبقاء.
ميدان التحرير دخل التاريخ، بعد أن كان ذاكرة جماعية عمرانية
خلال الأسابيع الثلاث، التي شدّت العالم إلى شاشات التلفزة، تجمّع الشباب المتظاهرون في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر وشوارعها، وهم يرفعون الشعارات ويردّدون الهتافات التي تطالب برحيل النظام. أصبح الميدان بيتهم فعلاً، ومركز عملياتهم، ونافذتنا الأهم على ثورتهم. تظاهروا فيه، وتعارفوا فيه، أكلوا وشربوا وناموا فيه، ونظّموا أنفسهم فيه؛ وفيه أيضاً صنعوا مصيرهم. فقد العديد منهم حياتهم وهم يدافعون عن هذا الميدان. واكتشف الكثيرون فيه أنفسهم وانتماءهم هنا، وقدرتهم على تحدّي الخوف. وقام الكثير منهم بحفر وجودهم على صفحات الميدان من خلال نضالهم وتنظيمهم وتآخيهم، بل وقام البعض منهم بربط ذكرياته الخاصّة بالميدان، كما فعل أحمد زعفان وعلا عبد الحميد عندما تزوجا يوم السادس من شباط/ فبراير مع آلاف المتظاهرين كشهودٍ على زواجهم الذي أصبح تاريخياً بفعل حصوله في الميدان تحديداً. هكذا تحوّل ميدان التحرير إلى رمز ثورة الشباب وإطار أحلامهم وآمالهم وخوفهم وانتصارهم بالنهاية. وارتفع في عيون العالم المشدودة والمدهوشة إلى مصاف الميادين الأخرى التي صنعت تاريخاً كميدان الباستيل في باريس، وميدان الكرملين في موسكو، وميدان آزادي في طهران، وأخيراً ميدان تيان أن مين في بكين.
ولكن على عكس الميادين التاريخية الأخرى التي بدأت حياتها كميادين مخطّطة، فإن ميدان التحرير قد تشكّل من مخلّفات عقودٍ طويلة من التجارب العمرانية، متفاوتة النجاح والفشل، تراكمت لكي تعطيه شكله الحالي المفلطح الذي يتلوّى عبر مساحةٍ هائلة بين مبانٍ لها تاريخ تشكّل حدوده الحالية وتربطه بذكريات جماعية عديدة، بعضها عمراني بحت وبعضها سياسيّ أو طقوسي أو اجتماعي، تختزل في مجموعها ذاكرة مصر الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتّى اليوم. هذا الترابط بين العمارة والذاكرة يضفي على ثورة ٢٥ كانون الثاني/يناير امتداداً تاريخياً لابدّ وأنّه كان ماثلاً في أذهان مئات الآلاف من المحتجين الذين ازدحموا في الميدان لثلاثة أسابيع وثاروا ونجحوا في ثورتهم في ظلّ هذه المباني وعلى مرأى من علامات التاريخ على واجهاتها.
طبعاً لم تكن ذاكرة الأمة على بال مخطّطي ميدان التحرير الأوّل ولاعلى بال الأجيال المتلاحقة من المصمّمين العمرانيين والسياسيين والدبلوماسيين والشركات العالمية التي احتلّت كلاًّ منها حيّزاً معمارياً من فراغ الميدان واندمج واقعها ومصيرها العمراني والتاريخي بتاريخه وبصيرورته. فالميدان قد ظهر أوّل ما ظهر كفراغٍ إضافي خلف مجموعة قصورٍ أقامها أفراد من الأسرة العلوية الحاكمة حوالي منتصف القرن التاسع عشر على ضفّة النيل. اكتسب الميدان بادئ ذي بدء اسم “ميدان قصر النيل”، تلك المجموعة المعماريّة التي أقامها الخديوي اسماعيل كقصر وثكنات للجند في آنٍ معاً في أقصى الشمال من الأرض التي كان يخطّط لها أن تصبح القاهرة الجديدة أو اسم “منطقة الإسماعيلية” على اسم الخديوي.
وقد أنشاً الخديوي اسماعيل، الذي كان مهووساً بتقليد أوروبا وبتطوير بلده وفق نموذجها، هذه “الإسماعيلية” كواجهة جديدة للقاهرة القديمة التي ورثها عن سابقيه. كان الخديوي معجباً جداً بمخطّط باريس الإمبراطورية التي زارها بمناسبة المعرض العالمي عام ١٨٦٧، والذي صمّمه البارون هوسمان لنابليون الثالث على شكل شوارعٍ مستقيمة عريضة تتفرّع عن ميادين على شكل نجوم تسمح بسهولة حركة العربات وبمراقبة الطريق كلّه في آن واحد. ولكن إسماعيل كان على عجلةٍ من أمره، فهو كان بحاجة لدليلٍ على عصريّة بلاده ومضاهاتها للحواضر الأوروبية من أجل عرضها بزهوّ على ضيوفه من أمراء وملوك ونبلاء أوروبا الذين كان قد دعاهم لحفل افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩. فتعاقد مع مخطّطٍ فرنسي هوسماني الاتجاه، بيير غراند بك، على تخطيط قاهرته الأوروبية الجديدة، وأمر وزيره للأشغال، علي باشا مبارك، الإشراف على العمل وتنفيذه بأقصى سرعة. وهذا ماتأتّى له، فحصل على قاهرته الجديدة في الموعد المحدّد مع منشآت أوروبية الشكل والوظيفة وشوارع واسعة ومستقيمة، وميادينٍ فسيحة وحدائقٍ مزروعة بعناية. ولكن هذا الإنجاز العمراني الباذخ جاء على حساب استقلال مصر وتوازن ميزانيتها العامة؛ فالخديوي كان قد اقترض مبالغ باهظة وبفوائد إجرامية من بيوتات الأموال الأوربية وعجز عن الدفع، ممّا سمح لبريطانيا وفرنسا بالاستحواذ على مجمل أسهم شركة قناة السويس أوّلاً، ثم التدخّل في الشؤون المالية المصرية مباشرةً عن طريق تعيين وزيرين، واحدٌ فرنسيّ وآخر بريطانيّ في الحكومة المصرية، ثم خلع إسماعيل ونفيه وتعيين ابنه توفيق مكانه عام ١٨٧٩. ثم خلعت بريطانيا القناع كليّاً واحتلّت مصر مباشرةً بعد ثورة أحمد عرابي عام ١٨٨٢، بحجّة ضمان دفع مصر لديونها؛ ولكنّها انتهت بأن قبعت كقوّة محتلة على صدر مصر لاثنين وسبعين سنة.
واحد من أول قرارات بريطانيا في القاهرة كان الاستحواذ على ثكنات قصر النيل لجيش الاحتلال، حيث مارس الجند تدريباتهم واستعراضاتهم في ميدان قصر النيل على مرأى من المصريين كدليل سيطرة وقوة. وهكذا أصبح ميدان قصر النيل واحداً من مواقع المواجهة بين جيش الاستعمار والشعب المصري، وشهد مظاهرات ومصادمات عديدة كانت أهمّها طبعاً ثورة ١٩١٩ حيث شهد ميدان قصر النيل – الذي أصبح يعرف أيضاً بميدان الإسماعيلية بعدما طوق العمران الجديد الأرض التي كانت غير مخطّطة خلف قصور العائلة العلوية على النيل – العديد من المواجهات وعرف أوّل شهدائه على دروب تحرّر مصر.
ميدانٌ يحفّه متحف ينتظر إعادة تبنّي مصر لتاريخها كاملاً
كذلك حصل ميدان الإسماعيلية على أول منشآته الثقافية وأهمّها مع بداية القرن العشرين، حيث أنشئ المتحف المصري على قطعة أرضٍ شمال ثكنات قصر النيل لاحتواء مجموعة الآثار الفرعونية الوطنيّة التي كانت ولم تزل بطبيعة الحال أغنى مجموعة في العالم. كان هذا المشروع فكرة تحمّس لها الفرنسي مارييت باشا الذي عمل كمديرٍ للآثار المصرية، والذي رغب بوضع حدٍّ للنهب المستمرّ للآثار الفرعونية وآثار الفترات الأخرى، ولو أن هذا الموضوع كان أقل أهمية بالنسبة له. وكان مصمّم المتحف فرنسياً، وطرازه كلاسيكيّ محدث على غرار المتاحف الأوروبية، وبنته شركة مقاولات إيطالية، وطبعاً كان غالبية زواره والعاملين فيه من الأوروبيين أيضاً. بل وكان المتحف نفسه والحضارة التي احتواها وصورها هواية أوروبية بامتياز بعدما استحوذت أوروبا لنفسها على التراث الفرعوني كمكوّن أساسيّ وجذري من مكوّنات حضارتها هي، وحرمت مصر بذلك من الانتماء الكامل لهذا التراث. ومع أنّ الحال تغير في القرن الماضي وأصبحت غالبية العاملين في المتحف المصري من المصريين، ونسبة كبيرة من زواره مصريين كذلك، إلاّ أن الحضارة المصرية القديمة مازالت مسروقة نظريّاً ومعنوياً. إذ مازال الخطاب السائد في مصر خطاباً يرى فيها ماضٍ بعيد لا يمتّ لتاريخ مصر الحالي بكبير صلة، فيما عدا بعض الحلقات هنا وهناك. ولاأظنّ أن المتحف المصري الكبير الجديد الذي يبنى حالياً على هضبة الأهرامات سيغيّر من الوضع كثيرا،ً مالم تتمّ إعادة النظر بمفهوم التاريخ المصري نفسه وتتمّ استعادة الحقبات المسروقة منه وتبنّيها بشكلٍ كامل في الخطابين التعليمي والشعبي.
في بداية القرن العشرين أيضاً تحوّلت المباني السكنية التي كانت تحفّ بميدان الإسماعيلية من الشرق والجنوب شرق من فيلاّت كبيرة لسراة القوم الأرستقراطيين وأمراء الأسرة الحاكمة، الذين كانوا يشكّلون قمة الهرم الاجتماعي، إلى مبانٍ سكنية من عدة طوابق للأثرياء الجدد من العائلات الأجنبية والشاميّة التي صعدت إلى قمة الهرم الاقتصادي في مصر بفضل انغماسها في التجارة العالمية. ولم يبقَ من القصور الكبيرة التي زنّرت ميدان الإسماعيلية في نصف القرن الأوّل من عمره إلاّ إثنان ما زالا يلعبان دوراً في صياغة تاريخ مصر. أول القصرين، قصر الدوبارة، الذي بناه بين سنتي ١٩٠٦ و١٩١٣ المعمار السلوفيني غزير الإنتاج أنطون لاشياك، فهو اليوم ملك لوزارة الخارجية؛ وقد كان حتّى سنوات قليلة ماضية مركزها الرئيسي وموقع مكتب وزير خارجية مصر. وهو يقبع على الطرف الشرقي للميدان على مدخل كوبري قصر النيل بعمارته الباروكية المحدثة ولونه الأبيض الهادئ، وقد كان بدءاً قصراً للأمير كمال الدين حسين، الابن الوحيد لسلطان مصر الوحيد في العصر الحديث الذي قضى قبل أن يتنسّم العرش. أمّا القصر الثاني فقد كان قصر أحمد خيري باشا، قريب الأسرة المالكة وصفّي إسماعيل ووزيره، الذي بناه عام ١٨٧٤. أصبح القصر معملاً للتبغ في بداية القرن العشرين، قبل أن تحتلّه الجامعة المصرية الناشئة لمدّة تزيد عن عشر سنوات بين ١٩٠٩ و١٩٢٠، ليصبح منذ ١٩٢٠ وحتّى ٢٠٠٨ المبنى الرئيس ضمن مباني حرم الجامعة الأمريكية في القاهرة، المركز العلمي المرموق في مصر ورمز الوجود الثقافي الأمريكي القويّ فيها، والذي تتراوح المواقف منه بين الإعجاب الشديد بل والتماهي التامّ، وبين الازدراء والعداوة.
أما المبنى الذي أصبح السمة الأساسية لميدان التحرير والذي لابدّ وأن كلّ مصري زاره في أكثر من مرحلة من مراحل حياته فهو مبنى المجمّع. ذلك الصرح المهيب بل والمخيف معمارياً، والذي كان هديّة من الاتحاد السوفياتي للمملكة المصرية، لم يفتتح إلاّ بعد ثورة الضباط الأحرار عام ١٩٥٢. وهو لذلك أصبح مرتبطاً بأذهان المصريين عامّةً بكل ماهو جامد وتقليديّ ومعقّد في البيروقراطية المصرية، وخاصّة تلك التي استوحشت وترهّلت في ظلّ النظام الدكتاتوري. وقد أصبح المبنى وما يمثّله ومن يعمل به هدفاً للنقد والسخرية والتندّر المصريّ المشهور، وأصبح أيضاً موضوعاً لبعض الأفلام، أشهرها طبعاً فيلم عادل إمام “إرهاب وكباب”. هذا المبنى-الرمز من تصميم المعماري المصري كمال إسماعيل، الذي استعمل في تصميمه الصعب مواضيع العمارة السوفياتية مطعّمة بعناصر معماريّة مصرية مملوكيّة مستقاة من واجهة مدرسة السلطان حسن المهيبة (١٣٥٦-١٣٦١) على الطرف الجنوبي للقاهرة التاريخية مقابل قلعة القاهرة.
ثمّ جاءت ثورة الضباط الأحرار بالكثير من التغييرات لميدان التحرير ولكل المظاهر العمرانية والمعمارية في القاهرة. وكان أهمّ تغيير طبعاً هو الاسم. فميدان الإسماعيلية سرعان ماتحوّل إلى ميدان الحريّة بعد الثورة عام ١٩٥٢، ثم تبدّل الاسم ثانيةً عام ١٩٥٤ إلى ميدان التحرير، بعد أن نجح عبد الناصر وصحبه في التفاوض مع البريطانيين وإقناعهم بالانسحاب التامّ من جميع الأراضي المصرية بما فيها قناة السويس، بعد أن تنازلوا عن مطلب بقاء السودان تحت الحكم المصري. ولم يكن تغيير الاسم هو المظهر الوحيد، بل إن إزالة ثكنات قصر النيل في نهاية العهد الملكي قد حرّرت أرضاً ثمينة شمال الميدان أصبحت موقعاً لاثنين من أهمّ المباني في القاهرة. الأوّل هو فندق النيل هيلتون، أوّل فندق خمس-نجوم حديث في القاهرة، والذي صمّمه وفق الطراز الحديث مكتب ويلتون بيكيت في كاليفورنيا عام ١٩٥٨. وقد مثّل هذا الفندق واحدةً من أولى خطوات التقارب بين مصر جمال عبد الناصر والولايات المتحدة الأمريكية التي تناوبت قرباً وبعداً حتّى إشكالية بناء السد العالي في بداية الستينيات. ومثّل أيضاً، كغيره من فنادق هيلتون التي ظهرت في العديد من العواصم العالمية في الخمسينيات، واحدة من أدوات التأثير الجماهيري التي استخدمتها الولايات المتحدة في حربها الباردة على المنظومة الاشتراكية، فهو سفير صورة الحياة الجميلة في أمريكا بوسائل راحتها ورفاهيتها وحداثتها التي أغرت ومازالت تغري جلّ الناس باشتهاء وتقليد النموذج الأمريكي.
من قصور الأمراء إلى رمز أمريكا إلى مصر الناصريّة، ولكن لا صرح إلاّ لبطلٍ شعبيّ واحد
أما المبنى الثاني الذي قام على أرض ثكنات قصر النيل فهو المبنى الرئيس لجامعة الدول العربية الذي صممه المعماري المصري محمود رياض عام ١٩٥٨ على الطراز الوظيفيّ الحديث، بتعارض ٍفراغي ورمزيّ واضح مع فندق الهيلتون شماله. فهذا المبنى يمثّل لحظة صعود أسهم جمال عبد الناصر صعوداً هائلاً في نهاية الخمسينيات كزعيم الأمة العربية الأوحد بلا منازع، الأمر الذي اكتسب ترجمته الواقعية السياسية بالوحدة بين مصر وسوريا التي تمّت في نفس السنة، ١٩٥٨. ومع أنّ الوحدة قد انفرط عقدها عام ١٩٦١، وعلى إثر ذلك عانت القضايا العربية هزائم سياسية متتالية لم تتمكّن جامعة الدول العربية مقلّمة الأظافر من فعل أيّ شيء إيجابيّ تجاهها، فإنّ ما تمثله فكرة العروبة نفسها، وإن خبت جذوتها، مازال فاعلاً في الضمير العربي. ولعلّ فيما سمعناه من آراء لشباب ثورة ٢٥ كانون الثاني/يناير عن قضيّة غزة وغيرها من القضايا العربية العالقة أملٌ في أن تستعيد العروبة بعضاً من عافيتها.
إلى نهاية الخمسينيات أيضاً يعود المبنى الدينيّ الوحيد الموجود في ميدان التحرير: وهو مسجد عمر مكرم. هذا الجامع الصغير والأنيق الذي صمّمه المعماريّ الإيطالي-المصري ماريو روسي على طراز مملوكي محدّث، قد أصبح المسجد المفضّل لجنازات فقيدي الطبقة المثقّفة والفنيّة والحاكمة في مصر، بحيث لايمرّ يوم إلاّ ونجد فيه سرادقات لواحدٍ أو أكثر من المشاهير. وقد سمّي المسجد على اسم الشيخ عمر مكرم، خريج الأزهر الشريف ونقيب الأشراف في مصر وقائد ثورة القاهرة ضد الفرنسيين عام ١٨٠٠. عمر مكرم هو أيضاً الشيخ الذي أمّن لمحمد علي باشا الدعم الشعبي الذي أراده في صراعه مع المماليك ومع الولاة المعيّنين من قبل استانبول على السلطة في مصر. ولمّا تبين لعمر مكرم فيما بعد رغبة محمّد على بالاستحواذ على الحكم حاكماً منفرداً قام ضدّه ودفع الثمن بنفيه إلى دمياط ثم إلى طنطا حيث قضى. عمر مكرم إذن بطلٌ شعبيّ والتمثال الذي أقيم له في نهاية القرن العشرين في الميدان أمام المسجد والمجمّع، بعد انتهاء عمليات الحفر والتمديد لمترو القاهرة تحت أرض الميدان، ما هو إلاّ اعتراف متأخّر بهذا القائد الشعبي. وهو بهذا التمثال الصغير والعاديّ فنياً قد غطّى على كل المحاولات السابقة، التي لم تؤدّ إلى نتيجة، لزرع تمثال زعيمٍ سياسيّ في قلب ميدان التحرير، بدءاً بفكرة الملك فاروق بوضع تمثال جدّه إسماعيل على قاعدة جرانيتية ضخمة أقامها لهذا الغرض في وسط الميدان، ولكنّه أطيح به قبل أن يوضع التمثال عليها. وبقيت القاعدة فارغة إلى أن طفت فكرة جديدة بوضع تمثال جمال عبد الناصر عليها إبّان صعود نجمه، ولكنّ هزيمة ١٩٦٧ وتعثّر وضع مصر بعدها قد أجّل تنفيذ الفكرة، ثم مات عبد الناصر وبقيت القاعدة فارغة. وقد اقترح بعض المتزلّفين إقامة تمثال السادات على هذه القاعدة، بعد أن أعيد تسمية الميدان على اسمه إثر اغتياله عام ١٩٨١. ولكن الفكرة والاسم الجديد سرعان ما تمّ تناسيهما، وحصل السادات على اسم محطة المترو الواقعة تحت الميدان بدلاً من الميدان نفسه.
لعلّ في ذلك عبرةً ما. إذ أن اسم ميدان التحرير الذي كان معبّراً ولكن خاوياً في الستين سنةً الماضية قد استعاد معناه في الشهر الماضي. فالشباب الذين ثاروا وضحّوا ونجحوا في القضاء على حكم الدكتاتور، وكلّ الأمل في أن يتمكّنوا من إزاحة نظامه بكامله، قد أعادوا للميدان وظيفته المفترضة، التي لم تتّحقق تماماً من قبل: أن يكون موئلاً للتجمّعات الشعبية للتعبير عن رأي الجماهير فيما يحصل في بلادها ومايقرر باسمها. وهم من خلال ثورتهم قد أعادوا لاسم الميدان ألقه وأحقيته. إنّه الآن ميدان التحرير بحق، بعدما قبع منذ ١٩٥٤ ميداناً لتحريرٍ وعدت به زمرة من الضباط الثوريين فشلوا فشلاً ذريعاً بالمحافظة على وعدهم.
* أستاذ الآغا خان للعمارة الاسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى