الانتفاضات العربيّة وغيابُ مقوِّمات الثورة الحقيقيّة
* عبد الحقّ لبيض
تضغط ديناميكيّةُ الأحداث، والتباسُ أفقها في الحراك الشعبيّ الضخم الذي تشهده تونس ومصرُ هذه الأيّام، على المحلِّل، وتجعله يواجه صعوبةً في استجماع التفاصيل، ونقصًا في تحقيق عناصر المقاربة الموضوعيّة.
فنحن عشنا مع تجربة تونس، ونعيش هذه الأيّام مع تجربة مصر، حركيّةً متسارعةَ الإيقاع لم نمتلكْ بعدُ الأدواتِ والآليّاتِ الدقيقة للبحث في معطياتها واستنتاج الأحكام والتقييمات من تفاعلاتها. وأيّةُ محاولةٍ لهذا الاستنتاج لن تكون سوى مجرّد انطباعاتٍ أوليّةٍ أو عاطفيّةٍ قد تجرفها سيولُ الأحداث الجارية، خصوصًا أنّ أحدًا لا يستطيع التنبّؤ بما ستؤول إليه الأمورُ في البلدين.
أنطلق هنا من مناقشة كلمة “الثورة” التي أُسهب في استعمالها لتوصيف الحراك الاجتماعيّ في كلا البلدين. وأتساءل: هل يشكّل ثورةً حقيقيّةً تحمل سمات الثورات التي شهدها التاريخُ الإنسانيُّ المعاصر؟ أمْ أنّه مجرّدُ انتفاضةٍ شعبيّةٍ تلقائيّةٍ في وجه الظلم، اتّخذ المجالَ العامَّ وسيلةً للتعبير عن أفقٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ راديكاليٍّ من دون الالتفات إلى حيثيّات السلوك الثوريّ التغييريّ؟
إنّ المتأمّل لبواعث الانتفاضة الشعبيّة في تونس ومصر يلاحظ أنّها محكومةٌ بصدقيّةِ وعفويّةِ الشباب القائمين عليها، والمغذّين بديناميّتهم لتفاصيلها اليوميّة. ويصرّ هؤلاء على أنّ حركتهم الاحتجاجيّة بلا لونٍ سياسيّ ولا طعم إيديولوجيّ ــ وهي ظاهرةٌ جديدةٌ في مجتمعاتنا العربيّة التي اقتصر دورُها على مباركة الثورات العسكريّة في خمسينيّات القرن الفائت وستينيّاته. لكنّ الشعب اليوم هو الذي يضغط على زناد التغيير. وهذا الوضع، بقدر ما أعطى مطالبً الشعب زخمًا هائلاً، قد جعل الحركةَ الشعبيّة من دون رؤيةٍ سياسيّةٍ بديلةٍ قادرةٍ على تقديم برنامجٍ واضحٍ يشكّل أفقا للتغيير وملاذًا لتصريف الطموحات التي يحملها شبابُ تونس ومصر.
ومن نتائج غياب هذه الرؤية السياسيّة والبرنامج البديل للسلطة القائمة انحسارُ المطالب الشعبيّة وعودتُها إلى مربّع النظام القائم الذي يُنتظر منه أن يكون قوةً اقتراحيّةً لتدبير المرحلة الانتقاليّة. ومن شأن هذا المسار أن يلتوي على المطالب الشرعيّة لانتفاضة الشعب ويعرقل مسيرةَ التغيير الديمقراطيّ، أو بالأحرى يزيّفها من خلال الترويج لتغييراتٍ هامشيّة: مثل الدفع إلى إطلاق بعض الحريّات (كحريّة التعبير والتجمّع وتأسيس الأحزاب والجمعيّات) من دون ضماناتٍ يؤسِّس لها التوقيعُ على عقدٍ اجتماعيٍّ جديد.
وإذا تأمّلنا واقعَ التغيير السياسيّ في تونس بعد الانتفاضة، فسنخْلص إلى أنّنا لم نكن أمام تأسيس عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يؤشّر عليه سقوطُ نظامٍ بكامله وإقامةُ نظام جديد يمهِّد لانتقالٍ ديمقراطيٍّ حقيقيّ، وإنّما كنّا أمام إسقاط رموز نظام، في حين استمرّ هذا الأخير في الوجود، بل كان هو المؤثِّت لمرحلةِ ما بعد زين العابدين بن عليّ. والمستحضِر لحجم التضحيات التي قدّمها الشعبُ التونسيُّ، ليس في زمن الانتفاضة وحدها بل على مدار 23 سنة من الحكم البوليسيّ، يقتنع بأنّ النتيجة لم تكن بحجم الحلم الذي راود أولئك الشباب الذين تحدّوْا آليّات القمع وواجهوا كلَّ التحدّيات من أجل التغيير. لستُ هنا، بالطبع، بصدد تبخيس التضحيات التي قدّمها هذا الشعب، ولا استصغار ما أقدم عليه من تحوّل، لكنّ مسارَ الصراع بين َقوى الشعب والنظام لم يصل إلى مداه ليحقّق المنشود منه. والسبب ليس الشعب بالتأكيد، وإنما غياب القيادة الموجِّهة لحركيّة الشعب، والمؤهَّلة لاحتضان هواجسه، والتساوق مع المرحلة.
وفي مصر تتكرّر الصورة، وربّما بالسيناريوهات ذاتها: حراك شعبيّ بعنفوان يستبق كلّ الخطابات والأفكار والاستعدادات عند النخب والأحزاب السياسيّة. وهذا ـ بالتالي ـ يؤزّم وضعَ الأحزاب “المعارضة” التي وجدتْ نفسَها غير قادرة على تدبير المرحلة بالكشف عن برامجها السياسيّة وقدراتها الاقتراحيّة، فظلّت متواريةً خلف شعارات الشباب الراديكاليّة تردّدها دونما قدرةٍ على تمثّلها في شكل برنامج أو رؤية سياسيّة. ولنتأمّل الآن التخبّط الذي تعيشه أطرافُ المعارضة المصريّة اليوم (4/2/2011) في تدبير اللحظة، على ما يتجلّى في البيانات المتعارضة والمتناقضة والتصريحات المتدافعة بدون رويّة ولا تبصّر.
إذن، نحن أمام علوّ سقف مطالب الجماهير من جهة، وأمام غياب قيادة قادرة على ترجمة ملفوظات الشارع إلى رؤيةٍ ثوريّةٍ تحدِّد معالمَ عقدٍ اجتماعيٍّ جديد وتعلن عن استعدادها لتسيير المرحلة القادمة ضمن مشترَكاتٍ تتفق عليها كلُّ مكوّنات الفعل الثوري ـ من شبابٍ وتنظيماتٍ وفعّاليّات مجتمع مدني. وهذا الغياب يُفرغ الحركات المجتمعيّة من مضمونها الثوريّ ويحصرها ضمن أدبيّات الانتفاضة الشعبيّة التي تبدأ تعبيرًا احتجاجيًا عن أوضاعٍ ما لتنتهي بتسجيل مواقفَ احتجاجيّةٍ تحتاج إلى دورةٍ زمنيّةٍ أخرى لاستعادة بريقها.
***
إنّ سقوط فكرة الثورة، الجذريّة العميقة ذات البرنامج الإستراتيجيّ والتكتيكيّ، عن الحراك الاحتجاجيّ في كلٍّ من تونس ومصر يجعلنا نستفيق على وضعٍ غايةٍ من التراجيديا:
ـ وضعٍ تحْكمه أجهزةُ نظامٍ قمعيٍّ تسلّطيٍّ عميلٍ لقوًى أجنبيّة وخادمٍ لأجندةٍ خارجية؛
ـ وتَستكمل تأثيثَه أحزابٌ سياسيّةٌ “معارضةٌ” متهالكةٌ أغرت الشارع بفقاعات خطاباتها المتخشِّبة على مدار عقود، حتى إذا ما عرّتها الوقائعُ الجديدةُ لم تستطعْ أن تستر عوراتِها وهي تهرول على ركح نضاليّ لم تتحسّسْ كيف تشكَّلَ ولا من أين استحضر الشبابُ موادَّ تأسيسه؛
ـ ويحْدث على خلفيّة قاعٍ اجتماعيّ كثيرًا ما وسمْناه بالسلبيّة والانعزال والاستسلام والتدجين، لكنّه يستنهض الهمم ويدفع بالحراك الاجتماعيّ إلى أقصى مداه.
***
هل لهذه العوامل المعطِّلة لإنجاز الثورة نحو التغيير الديمقراطيّ الحقيقيّ في تونس ومصر تأثيرٌ على مسار الحراك الاجتماعيّ في بعض الدول العربيّة؟
الإجابة، طبعًا، هي بالإثبات. فإذا فكّرت الشعوبُ العربيّةُ مليًا في أنّ تضحياتها بالأرواح والممتلكات لن تفضي إلاّ إلى نزع رأس النظام والحفاظ على مضمونه، فإنها قد تتراجع عن الثورة. وأركّز هنا على تجربة مصر لِما لها من ثقل في العالم العربيّ. إنّ نجاح تحقيق ثورة عميقة في مصر سيكون فاتحةَ التغيير الديمقراطيّ في العديد من الدول العربيّة. بل ليس سرًا أنّ شعوبًا كثيرةً تنتظر ما ستؤول إليه انتفاضةُ مصر لتسْطع معها شمسُ التغيير على العالم العربيّ. لهذا تتردّد الإدارةُ الأميركيّة، اليوم، في دعم انتفاضة مصر لأنّها مدركة معنى أن يوقِّع المصريّون تعاقدًا اجتماعيًا جديدًا. وإلاّ، فلماذا لم يصف أوباما المنتفضين المصريين بالشجاعة، كما وصف أشقّاءهم في تونس؟ ولماذا تتتالى رسائلُ الدعم والتأييد لـ “الرئيس” المصريّ حسني مبارك من الحكّام العرب، وتٌحْجم عن زين العابدين بن عليّ بدعوى “عدم التدخّل في الشان العام التونسيّ”؟
لهذا السبب لا بدّ للشعوب العربيّة من دعم انتفاضة شباب مصر من خلال النزول إلى الشارع، وتكوينِ خلفيّةٍ نضاليّةٍ لهم (في الشارع وعلى مستوى الفكر). وما نستغربه في هذا السياق ارتفاعُ أصواتٍ تحذِّر من ركوب البعض موجةَ الانتفاضات؛ فالحال أنّ الدعوة يجب أن تكون ليركب الجميعُ ـ أحزابًا وفعّاليّاتٍ حقوقيّةً ومدنيّةً ـ هذه الموجةَ ليقدِّمَ لها زخمًا جديدًا ينتقل بها إلى مصاف الثورات التي تَقْطع مع القائم وتفتح الأفق نحو المتغيّر والجديد. ولنا في تجربة الثورة الإيرانيّة خيرُ مثال: فقد بدأتْ هذه الثورة انتفاضةً شعبيّةً، ثم استطاعت كاريزميّةُ الخميني واستعدادُه القبْليّ لطرح رؤيته الثوريّة أن تحوِّلها إلى ثورةٍ عارمةٍ أسّستْ لتعاقدٍ اجتماعيٍّ جديد قَطَعَ مع مرحلة الشاه شكلاً ومضمونًا. وهذا، في رأيي، ما تحتاج إليه انتفاضتا تونس ومصر.
***
بالرغم من كلّ الملاحظات التي سجّلناها عن واقع انتفاضتيْ تونس ومصر، فإنّ الأساس الذي لا يمْكن الاختلافُ عليه هو أنّ ما بعد الانتفاضتين لن يكون كما قبلهما. ذلك أنّهما قدّمتا دروسًا تاريخيّةً مفرقيّة لا يمكن القفزُ عليها في مستقبل الأحداث في المنطقة العربيّة. ومن هذه الدروس نذكر ما يأتي:
1ـ تكسير حاجز الخوف لدى الشعوب العربيّة. وقد أدّعي جازمًا أنّ الشعوب العربيّة، من الماء إلى الماء، قد شرعتْ في التحرّر من الخوف التي لبسها فتراتٍ طويلةً من أنظمتها القمعيّة. إذ كشفتْ لها الثورتان التونسيّة والمصريّة، بلا شكّ، أنّ سوط القمع ليس طويلاً كما اعتقدتْ، وأنّ صورة النظام الذي لا يُقهر قد انهارت من خلال التجربة العينيّة. وهذا معطًى جدُّ متطوّرٍ على مستوى التشكيل النفسيّ والوجدانيّ للمواطن العربيّ المقهور لعقود من الزمان.
2 ـ ترسيخ صورة نظام المافيا، القائم على التسلّح بأجهزة الشرطة السرّيّة والبلطجية التي يقدّمها لظروف الأزمة ذراعًا حاميةً للسلطة، وباثًا للرعب في أوصال المجتمع، وطارحًا لمعادلةٍ سفيهةٍ وحقيرة: إمّا الديكتاتوريّة، وإما الفوضى والعنف والخراب.
3 ـ تجاوز الشعب للتنظيمات السياسيّة والنقابيّة والثقافيّة التي تسمّي نفسها “معارضة،” وإظهارها في صورة الصنم الفاقد للروح لكنه المتمسّك باحتلال مساحةٍ في المشاهدة العينيّة لا غير.
4 ـ التحالف الشيطانيّ بين الأنظمة العربيّة والقوى الإمبرياليّة لخدمة أجنداتٍ خارجيّةٍ لا علاقة لها بتطلّعات الشعوب. ومواقف الإدارة الأميركيّة من النظام المصريّ بعد كلّ المجازر التي شهدتها شوارعُ تونس ومصر دليلٌ على ذلك .
5 ـ وجود قوة شعبيّة معارضة كامنة تحتاج إلى التأطير والفعل ضمن سياق تأهيل المجتمع للمشاركة السياسيّة في تدبير الشأن العامّ.
***
وأخيرًا، فإنّ مستقبل التغيير الديمقراطيّ في الوطن العربيّ اليوم على مفترق الطرق. فالانتفاضتان رسمتا طريقَ التغيير الديمقراطيّ الشعبيّ، لكنْ بقي أن نتحاور في أشكال تصريف متطلّبات الانتفاضات الشعبيّة في أجنداتٍ وبرامجَ سياسيّةٍ واضحةِ المعالم والأبعاد وقريبةٍ من نبض الشارع. وهذه مهمّة القوى الحيّة في الشارع العربيّ.
الدار البيضاء
* أستاذ جامعيّ ومراسل الآداب في المغرب.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١