دروس للثوّار العرب من خلاصات ثورة تونس
* دياب أبو جهجه
عندما أفكّر في ثورة تونس تَتغلّب عواطفي على المنطق وأميلُ إلى الكتابة الأدبيّة لا التحليليّة. كيف لا، و ثورةُ تونس أنجبتْ ثورةَ مصر، وثورةُ مصر ستنجب مستقبلاً عربيًا جديدًا حلمنا به سنين وظننّاه حلمًا تتلاشى منه الحقيقة. الثورة كانت كلمة ترسّبتْ في حناجرنا، فاتّهمَنا الخصومُ باللغة الخشبيّة لأنّنا لم نيأسْ من الحديث عنها وعن الجماهير وعن العاصفة ونذرها وعن الغد الذي تصنعه الأمّةُ حرًا عزيزًا على أنقاض الحاضر الذليل. كما أخذوا علينا أنّنا قلنا إنّ العروبة تجعل منّا جسدًا واحدًا مترابطًا إلى درجة التماهي: فإذ بمصر تردّ تحيّة تونس؛ وإذ بشعارات تونس تتردّد في مصر واليمن وغيرهما من بلاد العرب، وبلغةٍ فصيحةٍ هي لغتُنا جميعًا: “الشعب يريد إسقاطَ النظام.” لم تكن العروبة يومًا أكثر حيويّة من هذه الأيّام , ولا أكثر حقيقيّةً وواقعيّةً وموضوعيّة. هذه هي الثورة العربيّة الكبرى، لا ثورةُ الإقطاع العربيّ عام 1914، ولا انقلاباتُ العسكر، ولا مسيراتُ الملوك الخضراء والصفراء والزرقاء…
فلنحاولْ أن نستخلص دروسًا نراها حاسمةً من ثورتيْ تونس ومصر، أملاً في أن تكون في تصرّف الشباب العربيّ الذي يخطّط في هذه اللحظات ثورتَه، كلّ في بلده، ضدّ ديكتاتوره أو مليكه اللاشرعيّ.
1 ـ أولاً في الشكل الاجتماعيّ
أ ـ وحدة الشعب: لا بدّ من توفّر ظروفٍ معيّنة للنبض الثوريّ، أهمُّها الوحدة الشعبيّة والوطنيّة. فالثورة لا تقوم في المجتمعات المتشظّية، بل يحلّ مكانَ الثورة تناحرُ الفئات والطوائف. ومن هنا كانت ثورة تونس قابلةً للحياة في بلادٍ متجانسةٍ إلى نسبةٍ تفُوق 90 في المئة عرقيًا ودينيًا ومذهبيًا، بحيث يَصْعب على النظام الدكتاتوريّ أن يلعب لعبة “فرِّقْ تسدْ” بشكل فعّال. أكثر من ذلك: لقد سطّح القمعُ الديكتاتوريّ كلَّ تضاريس الشعب التونسيّ الإيديولوجيّة، وخلق كتلةً لاسياسيّةً ولاهويّاتيّة انقلبتْ عليه في النهاية. أما في مصر، فالتجانس موجودٌ إلى درجاتٍ عالية كذلك، على الرغم من وجود الأقليّة القبطيّة المؤثِّرة ومحاولة النظام لعب ورقة الانقسام الطائفيّ. إلا أنّ الانقسام الأهمّ في مصر هو بين الطبقة الوسطى والشعبيّة المعتدلة الفقر من جهة، والمسحوقين أو ما يسمّى بـ “سكّان العشوائيّات” من جهة ثانية. غير أنّ الطبقة المتوسّطة المصريّة التي أطلقت الثورة تخطّت خوفَها من الطبقات المسحوقة؛ ولعب دورًا أساسيًا في ذلك العاملُ الشبابيُّ الذي أراد أن يغامر في شرفٍ مرومٍ من دون حسابات السياسيين التقليديين المتّسمة بالخوف من “الفوضى” (وهي الورقة التي يعوِّل عليها النظام).
ب ـ نموّ الطبقة الوسطى: المجتمع المسحوق تمامًا غيرُ قادر على إنتاج حراك ثوريّ، بل جلُّ ما يستطيع القيامَ به هو انتفاضاتُ خبزٍ محدودة، لا تلبث أن تُسحق أو يتمّ إرضاؤها بفتات مائدة الأنظمة وزبانيّتها. في المجتمعات المفقَرة التي يعمّها الجهلُ ولا تتخطّى نسبةُ المتعلمين فيها 40 في المئة، يكون التحدّي هو خلق وعي ثوريّ بديل، والعمل على استنهاض كتلة طليعيّة راديكاليّة تخوض صراعًا يسهم في تشكيل وعي الجماهير. أما في البلاد ذات الطبقة الوسطى النشطة، وتشهد نموًا في النخب الاقتصاديّة والعلميّة المهمّشة سياسيًا، مثل تونس ومصر، فتكون العمليّة الثوريّة أنجع لأنّ أنظمة الحكم لا تستطيع إدارةَ هيكليّاتها من دون أبناء تلك الطبقة وهذه النخب. في تونس انطلقت الثورة من أوساط الجماهير الشعبيّة المهمّشة انتفاضةَ خبزٍ وكرامةٍ، لكنّها ما لبثت أن تحوّلتْ إلى ثورةٍ تغييريّةٍ جذريّةٍ عندما احتضنتْها وانضمّت إليها الطبقاتُ الوسطى وحسمتْها. أما في مصر فقد فجّر شبابُ الطبقات الوسطى ثورةً من أجل دولةٍ مدنيّة، ولكنْ ما لبث أن التحقتْ بها جماهيرُ الأحياء الشعبيّة ودعمتْها. إلاّ أنّ آليّة التخويف من الفوضى أنجعُ في مصر منها في تونس، وبالتالي فإنّ إمكانيّة شقّ صفوف المجتمع (بين ثوريٍّ وخائفٍ من الفوضى) أكثرُ توفّرًا للنظام المصريّ.
2 ـ في شكل النظام
أ ـ فقدان الشرعيّة: كي تنجح الثورة فإنّ على النظام أن يكون مفتقرًا إلى أيّة شرعيّةٍ جماهيريّة، أكانت انتخابيّةً أمْ شعبويّةً أمْ دينيّة. إنّ أيّ نظام يحظى بتأييد أغلبيّةٍ (ولو طفيفةً) من الشعب غيرُ قابلٍ لأن يُسقط بثورةٍ شعبيّة. فمثلاً، عندما انتفض جزءٌ من الشعب الإيرانيّ ضدّ نظامه سقطت الانتفاضة لأنّ جزءًا أكبر من الشعب كان يؤيّد النظام ونزل إلى الشارع ليعبِّر عن ذلك؛ أما في تونس ومصر فلم يكن تأييدُ النظام إلا انتهازيًا وعابرًا وهزيلاً.
ب ـ التمادي: إنّ نظامًا غيرَ شرعيّ ولكنّه متساهل وغيرُ متمادٍ في القمع والتزوير والفساد قد لا يستفزّ الشارع بشكلٍ يدفعه إلى التضحية من أجل أسقاطه. الأنظمة المتمادية هي التي يمكن قلبُها في ثورةٍ عاتيةٍ وسريعةٍ لأنّها تحْفر قبرَها بنفسها من خلال ممارساتها. نظامُ بن عليّ كان قمّة في القمع والنهب والاستلاب الحضاريّ والثقافيّ؛ ونظامُ مبارك ذهب بعيدًا في تزوير الانتخابات الأخيرة وفي إغلاق معبر رفح والمساهمة في ذبح الشعب الفلسطينيّ وتغطيةِ جرائم الشرطة بحقّ الشعب (كما حصل في حادثة تصفية الشهيد خالد سعيد من قبل البوليس المصريّ).
3 ـ في الآليّات التحضيريّة للثورة
أ ـ كسْر التابو: لا بدّ لأيّ حراكٍ يطمح إلى تفجير ثورة من البدء في تشكيل واقع اعتراضيٍّ في زمنٍ قاعدتُه هي الانصياع. لا بدّ من كسر التابو، كما فعل ناشطو اتحاد الطلبة التونسيين في الجامعات لسنين وهم يهتفون بسقوط النظام؛ وكما فعل بعضُ الفروع الجهويّة لاتحاد الشغل وبعضُ أوساط نقابة المحامين والصحفيين. أما في مصر, فلن ننسى ما فعله ناشطو “كفاية” منذ العام 2005 إذ انقضّوا على مكانة الرئيس وتحّدوْا قدسيّته وكسروها في الشارع، مجبرين النظامَ على التراجع ولو بشكل محدود وعلى خلق مساحةٍ أوسع للمعارضة. كما ساهم بعضُ الحزبيين والنقابيين الشجعان في خلق وعي ثوريّ يسمّي الأمور بمسمّياتها ويتحدّى الآلة القمعيّة. لا بدّ إذًا من تحرّكات؛ ولئن كان المشاركون فيها بالعشرات فإنّ رسالتها تصل إلى الألوف وتساهم في تشكّل الوعي.
أهمّ تابو يجب كسرُه هو حماية رأس النظام. وهو ميكانيزم قمعيّ منتشر يقول بأنّ الفساد موجود في أوساط تحت رأس النظام، وأنّ رأس النظام لا تصله المعلومات وإلاّ فسيكون له موقفٌ آخر. إنّ الرغبة “الإصلاحيّة” هي التي تبرِّر هذا المنطق، إلا أنّ النزوع الثوريّ مناقض له تمامًا: فالثورة تبدأ باستهداف رأس النظام قبل غيره، على العكس من الاحتجاجات المطلبيّة الإصلاحيّة التي غالبًا ما تحاول توظيفَ رأس النظام كحَكَمٍ بينها وبين مستوياتٍ أدنى من مستويات الحكم.
ب ـ احتضان الانتفاضات المحدودة: على الطليعة الثوريّة احتضانُ الانتفاضات، التي لا بدّ من أن تقوم على خلفيّاتٍ مطلبيّةٍ ووطنيّة، وأن تحاول أن تحوّلها إلى حراك ثوريّ أو ضرباتٍ تتسبّب في تشقّق بنية النظام القمعيّة، كمثل ما حصل في احتجاجات الحوض المنجميّ في تونس أو المحلّة في مصر. وتتحوّل هذه الانتفاضات ورموزُها وضحاياها إلى رموز للقمع والثورة والتحدّي، وتسهم في تشكّل الوعي الثوريّ الحاسم. فمثلاً “حركة ستة أبريل،” التي كان لها دورٌ مفصليّ في تنظيم الثورة المصريّة، نشأتْ على خلفيّة أحداث المحلّة؛ كما تكوّنت مجموعة “كلنا خالد سعيد” التي لعبتْ دورًا فائق الأهميّة في خلق رأي عامّ أشمل من الحلقات الضيّقة للناشطين التقليديين وأحزابهم. إنّ كلّ محطّة احتجاجيّة لا بدّ من أن يتمّ التركيزُ عليها في عملٍ تراكميّ لا بدّ من أن يصل إلى ذروته مع انطلاق الثورة الشاملة.
ج ـ الإعلام التحريضيّ: استعمال كافّة أشكال الإعلام التقليديّ والبديل: من المطبوعات، إلى النشرات، إلى الفايسبوك والتويتر والمدوَّنات و اليافطات الإلكترونيّة اللافتة؛ وخلق مجموعات على الفايسبوك والتويتر لتخليد ذكرى الشهداء؛ وفضح الملفّات ومحاولة توسيع مروحة التأييد من خلال التركيز على ملفات معيّنة. كما أنّ من المهمّ جدًا استعمال النكتة والسخرية من خلال مواقع الميديا الاجتماعيّة كسلاح فعّال في فضح الممارسات وترسيخ وعي معادٍ للنظام وفاضح له؛ فالنكتة تخترق الأدمغة المغسولة وترْسخ في الذهن وتنتقل أسرع من المعلومة. كما تتيح الميديا الاجتماعيّة الجديدة ساحةً للحوار المفتوح والعميق ولتعارف الناشطين الذين ينقلون شبكاتهم الافتراضيّة إلى أرض الواقع. وقد استطاع الشباب التونسيّ أن يتخطّى كلّ أشكال الحجْب على موقع فايسبوك مثلاً، خلال الثورة وقبلها، من خلال استعمال خادومات البروكسي، وبالتالي لم يستطع النظامُ الحدَّ من قدرة الشباب على التواصل والتعبير وإيصال أخبار التحرّك ـ وهو ما أصاب النظامَ في مقتل. أما مجموعة “كلّنا خالد سعيد” على الفايسبوك فقد بلغ عدد أعضائها نصفَ مليون شخص؛ أيْ إنّها أكثر فعّاليّة من جريدة، لا بل من تلفاز. وخلال اعتصامات ميدان التحرير كان التويتر يلعب دورًا مهمًا جدًا في نقل الأخبار والأحداث دقيقةً بدقيقة، وفي نقل قراءة الموجودين في الميدان لما يجري. ومن اللافت أنّ الشباب التونسيّ قام بدعم نظيره المصريّ من خلال غرف عمليّات افتراضيّة ثوريّة تقوم بتسهيل نقل المعلومات عمّا يجري باستعمال الخبرات التونسيّة المتقدّمة. وقد أدرك النظامُ في مصر، كنظيره التونسيّ، الدورَ الخطيرَ للميديا الاجتماعيّة، فاعتقل مديرَ شركة غوغل في مصر والناشط الحقوقيّ مؤسّس صفحة “كلّنا خالد سعيد” وائل غنيم، ما دفع غوغل إلى تقديم إمكانيّة الاتصال بتويتر و بالفيسبوك من دون إنترنت ومن خلال أرقام مجّانيّة، وهو ما جعل الحرب الإلكترونيّة مع النظام مباشرةً وواضحة.
4 ـ في الثورة
أ ـ العامل المفجِّر: هذا العامل قد يكون عفويًا من خلال حادثة معيّنة، كحادثة الشهيد البوعزيزي التي أدّت إلى انتفاضة مدينة سيدي بو زيد. صمدت المدينة وحيدةً في البداية، وتونس بأكملها تراقبها ولا تساندها إلا من خلال الميديا الاجتماعيّة. وعندما استمرّت الانتفاضة هناك، بدأتْ في التسرّب إلى أنحاء البلاد كافّةً. ومع انطلاق القمع البوليسيّ الشرس تحوّلت المعركة بين الشباب إلى معركة “كسر عظم.”
وقد يكون العاملُ المفجِّر منظَّما، كمثل ما حدث في مصر نتيجةً لانشحان الجوّ العربيّ بنشوة النصر في تونس. العامل المفجّر لا بدّ من أن يكون دراماتيكيًا إذا لم يكن منظّمًا. ولكنْ أثبتتْ تجربةُ مصر أنّ تنظيم انطلاقة ثورةٍ شعبيّة (وهو ما كان يسخر منه الكثيرون) ممكن جدًا في عصر الميديا الاجتماعيّة، شرط أن تتوفّر العواملُ المذكورة أعلاه.
ب ـ الدم: الدم هو ما يصنع صلابة الموقف، وهو ما يجعل الموضوع موضوع “كسر عظم” لا مساومة عليه، وهو ما يجعل المساومة خيانة. من دون شهداء لا وجود لثورةٍ حقيقيّةٍ أمام أنظمة قمعيّة حقيقيّة. ومن دون الدم لا وجود لرغبة الثأر والاستمرار حتى النهاية بدافع الوفاء لدماء الشهداء.
ج ـ تحديد العدوّ وشيطنته وعدم المساومة معه: كمثل ما هو الحال في الحرب، لا بدّ من تحديد العدو وشيطنته. في تونس كان العدوّ هو “عصابة السرّاق،” و”الطرابلسية،” و بن عليّ، وحزب التجمّع. وفي مصر هو الرئيس، و”النظام،” والحزب الوطنيّ. وفي الحالتين يصمّم الشعب، وتتّجه كلّ شعاراته وحراكه إلى تحطيم العدوّ. ولا يساوم الشعبُ على ذلك، وإلاّ جاءت ثورتُه ناقصة. المساومة ليست هدفَ الثورة وإنّما الحسم. ولذلك لا بدّ من التركيز على سلبيّات العدوّ فقط، وإسقاطِ صفة الإنسانيّة عنه (وهي صفة غائبة عمومًا عند الديكتاتور)، وتصويرِه كشيطانٍ رجيمٍ ينبغي إرسالُه الى الجحيم.
د ـ وحدة الشعارات: إنّ عدم تشتّت الشعارات إيديولوجيًا، وتركيزها على القضاء على العدوّ المشترك، عاملٌ أكثرُ توحيدًا من الحديث عن البديل. وفي حين أنّ الاتفاق على إسقاط ديكتاتور أمرٌ متيسّر، فإنّ الاتفاق على نظام للحكم بعده أصعب. ومن هنا ضرورةُ التركيز على شعارات بسيطة تقود عمليّة التجييش كمثل: “خبز وما وبن علي لا” و” Degage” و”ارحلْ” و”الشعب يريد إسقاط النظام” و”أو يا فلان يا جبان الشعب الـ….ي لا يُهان” أو إنشاد النشيد الوطنيّ. وينطبق الشيء نفسُه على رفع راية البلاد دون غيرها، وذلك لتجنّب ظهور التناقضات بين الثوّار.
هـ ـ تدمير أدوات النظام: وأهمّها جهازُ الشرطة والبوليس السياسيّ، من خلال الصدام المباشر والعنيف في الشارع واستعمال قنابل المولوتوف والقوة العدديّة. كما يجب تدميرُ الذراع السياسيّة للنظام من خلال ضرب كلّ مراكز الحزب الحاكم، ومن ثمّ إفقاد النظام السيطرة على الشارع.
و ـ التصدّي للعنف المضادّ: وذلك من خلال مواجهة عصابات البوليس السرّيّ وأعوانها, التي ستثير الفوضى وتحاول جعل الناس يتندّمون على النظام (الذي سيصوِّر نفسه ضامنًا للأمن والنظام!). ويتمّ ذلك من خلال تنظيم لجانٍ شعبيّة في الأحياء والقرى لحراسة المنازل وحماية المواطنين، وكذلك لتحريك الشارع عند الضرورة. وبتشكيل هذه اللجان تكون الثورة قد كوّنتْ جسدًا متعدّد الخلايا وقادرًا على التحرّك المنسّق.
ز ـ استمالة الجيش وشقّه عند الضرورة: في حال محاولة النظام استعمالَ الجيش ضدّ الثورة أو عازلاً لحمايته، لا بدّ من محاولة استمالته من القاعدة وصعودًا، وإلاّ فشقّه من خلال التحدّي السلميّ والعصيان المدنيّ لأوامره. لا يمكن أن تسمح ثورةٌ بالقضاء عليها من خلال تبادل الغزل مع جيشٍ تخضع قيادتُه العليا لتاثير النظام، إنْ لم تكن من صلب مؤسسته أصلاً.
ح ـ ضبط إيقاع الحراك وخلق أفق سياسيّ: وذلك من خلال أداء هيئات نقابيّة أو معارضة قديمة أو مستجدّة. فقد لعبت الإضراباتُ التي أعلن عنها اتحادُ الشغل في تونس دورًا حاسمًا في استمراريّة الثورة خصوصًا في أيّامها الأخيرة، وتحديدًا عند إعلانها الإضرابَ العامّ والمظاهرةَ الحاشدة الأخيرة التي أقنعتْ بن عليّ بالهرب. كما تعطي هذه الهيئاتُ الثورةَ أفقًا سياسيًا لكي ترعى المرحلة الانتقاليّة إلى الديموقراطيّة.
خلاصة
هذه الدروس البسيطة التي تعلّمناها من الثورة العربيّة الكبرى (نعم هذا هو اسمُ ثورة تونس ومصر) تستطيع أن تكون بداية تحرّكٍ ممنهجٍ لإسقاط الأنظمة العربيّة القمعيّة قاطبةً. ونحن على يقين أنّ ذلك سيحصل عاجلاً أمْ آجلا. ثورة تونس وربيبتها المصريّة تُعتبران مدرسة في المنهج الثوريّ الحديث: فهي ثورة شعبيّة عفويّة وحقيقيّة انطلقتْ من جمهور المواطنين تعبيرًا عن نضج الشعب المتعطّش إلى المواطنة والرافض للاستعباد. ولسانُ حال الثوّار هو أنّ الحكم لنا كمواطنين، والأمرَ والقرارَ لنا لا لأيّ سلطةٍ لم نخترْها بأنفسنا ولا نستطيع أن نحاسبها وأن نسقطها.
لقد أخرستْ ثورتا مصر وتونس موجة الثورات المخمليّة المزيّفة التي قادتها وكالاتُ الاستخبارات الأميركيّة والغربيّة. وعبّرتْ عن حراك تاريخيّ وثوريّ في البلاد العربيّة, بالمعنى الأعمق من حيث قلبه لموازين القوى بين شعوب عالمثالثيّة مقموعة وأنظمة طفيليّة كومبرادوريّة تابعة لدول المركز.
إنّ رياح التغيير تهبّ من الجنوب لا من الشمال, وستغيّر بلادها العربيّة، ومن ثم ستغيّر خريطةَ العالم بأسره.
صيدا
* ناشط عربيّ من لبنان.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١