نهاية «الاستثناء العربي» وآفاق السلام الحقيقي في المنطقة
حسن منيمنة
إذا جاز لنا تلخيص الارتباك السياسي الذي شهدته ولا تزال المنطقة العربية، أمكننا الإشارة إلى معضلتين أوليين تواجههما الدول والمجتمعات فيها: مسألة الإصلاح والعدالة والحرية والمواطنة في الداخل، وقضية فلسطين بما تستدعيه من أبعاد إنسانية وثقافية وتاريخية على مستوى المنطقة والعالم. فالشكل الرئيسي لخطوط التماس السياسية هو بين تغليب مفترض لإحدى المسألتين على حساب الأخرى، وإن كانت الحصيلة، بعد سنين طويلة من التجاذب والتذبذب، القليل من التقدم في هذه وفي تلك.
وفي حين أن الخلاف حول أهمية كلتا المسألتين يكاد أن ينتفي، فإن السمة الرئيسية لطبيعة العمل السياسي العربي كادت أن تكون التوظيف السلبي لكل منهما. فترسخ الدولة السلطوية في العالم العربي قد استفاد في شكل بارز من استقرار القضية الفلسطينية في صميم الخطاب السياسي، فكم من حالة طوارئ وتجاوز لأبسط الحقوق فرضت بذريعة هذه القضية، وكم من قيادة سلطوية أقامت شرعيتها على أساسها. وفي المقابل، فإن الدعم من الخارج للحركات المحلية الداعية إلى الإصلاح السياسي غالباً ما جاء في إطار مقولة واهمة تعتبر الاهتمام بالقضية الفلسطينية وليداً حصرياً لتسويق إعلامي إلهائي، وترى في تحقيق الوعي بالحقوق المحلية وسيلة لفك الارتباط بين المجتمع الفلسطيني وسائر المجتمعات العربية، وصولاً إلى تسوية إسرائيلية فلسطينية أكثر واقعية في نظرها، أي أقرب إلى التصور الإسرائيلي. وأهداف هذا المسعى لم تكن خافية، بل ألقت بظلالها على الجهد الصادق للإصلاح، والذي أمسى بالإمكان اعتراضه بتهم تخوينية.
وكان واقع الحال أن السلطويات العربية اعتمدت ازدواجية خطابية في المسألتين. ففي الشأن الفلسطيني، لجأت السلطويات، سواء منها تلك المنسوبة إلى الاعتدال أو المنضوية في إطار الممانعة المفترضة، إلى كلام ظاهري محبّذ لعملية السلام، مع إتاحة المجال في طياته لقراءة باطنية تعفي القيادة السلطوية من أية نتائج سلبية مترتبة عن هذا التحبيذ، انطلاقاً من مقولة ضمنية هي أن مواقف هذه القيادة المبدئية ترفض الصلح مع إسرائيل وإن كانت لا تجاهر بهذه المواقف لاعتبارات عملية، وذلك على أرضية تحليلية تصرّ على أن الشارع العربي قطعي في رفضه الصلح مع إسرائيل. وكذلك في مسألة الإصلاح، فالقيادة السلطوية، على ما يبدو، كانت دوماً ساعية للإصلاح، غير أن ثمة عناصر فاسدة تعترض هذا السعي الحميد. فما على المواطن إلا الانتظار مهما طال الأجل، عسى أن تتمكن هذه القيادة من استئصال الفساد وتحقيق الإصلاح الموعود.
والتطور الذي شهدته الأسابيع والأشهر الماضية هو أن الخوف لدى المواطن، والذي مكّن القيادات السلطوية من إيهام نفسها بأن خطابياتها تفي بالغرض، قد سقط، وسقط معه أكثر من نظام سلطوي، والمسلسل لم ينته بعد. وبغضّ النظر عن المساعي المتواصلة للعقائديين من كل صوب لاعتبار ما جرى تحققاً لرؤياتهم، فإن استقراء شعارات المتظاهرين في الدول التي شهدت الحركات، ابتداء من تونس ومصر، مروراً باليمن والبحرين والدول الأخرى والتي لم تصل فيها التظاهرات إلى مستوى التحرك الشامل، وصولاً إلى ليبيا، يكشف أن الشأن الإصلاحي المحلي هو الدافع الحقيقي، مع إدراك واضح للتواصل العربي، دون الانغماس في الشعارات المستهلكة. فالمطلب في تونس والقاهرة وبنغازي والمنامة وصنعاء على حد سواء هو الحرية والكرامة. والأعلام التي رفعها المتظاهرون في تونس كانت تونسية، وفي مصر مصرية وتونسية، وهي اليوم في ليبيا ليبية (أعلام ليبيا الحقيقية لا جماهيرية الأوهام) ومصرية وتونسية. فالإصلاح هو الأساس، من دون أن يكون مرادفاً للانغلاق، على أن التواصل ليس تحت رايات العقائديين.
والجمهور الذي أنجز الثورة في تونس ومصر، وينجزها اليوم في ليبيا، ويطالب بالإصلاح الجذري في أكثر من دولة عربية، ليس صامتاً في الموضوع الفلسطيني، فمدوناته ومواقعه ووسائط تواصله تكشف عن آرائه، وهي متعددة ومختلفة حتماً، غير أن ما يجمع أكثرها هو توجه واضح للمطالبة بتحقيق العدالة. العدالة طبعاً للمجتمع الفلسطيني. لكن أيضاً، وهنا الجديد الذي من شأنه أن يربك العقائديين، العدالة أيضاً للمجتمع الإسرائيلي. فالمقولة التي اتفق السلطويون والعقائديون على جعلها من المحرمات في الخطاب العربي، مقولة أن إسرائيل تستحق التقدير كما النقد، والتعاطف كما الإدانة، ترد من دون تحفظ في أكثر من محفل. وهي، على رغم أماني المعترضين، وليدة العقل والنظر وليست نتيجة لدعاية ما.
ثمة شرخ خطير بين المجتمعين العربي والإسرائيلي في القراءة التاريخية بل في الأسس المبدئية لمفاهيم الحق والعدالة. والإشكاليات في هذه المواضيع إسرائيلية بقدر ما هي عربية، ولا بد لكل من الطرفين من تطورات داخلية لتجاوزها أو التفاعل معها. والخوف لدى العديد من الإسرائيليين، مع سقوط المنظومة السلطوية العربية، هو في استفحال العداء لدولتهم. إلا أن هذا الخوف مبالغ فيه. فالتحول الثقافي الذي تستقدمه الثورات العربية بوسعه أن يكون في اتجاه تجاوز الإشكاليات لا تأزيمها، شرط ألا يساهم الغرب ومعه إسرائيل، من حيث يدري أو من حيث لا يدري، في تحبيذ التوجه، والذي لا يزال إلى اليوم في أقصى هامش الثورات، باتجاه العقدنة.
وكاد أن يطيب لبعض الباحثين والمحللين في الغرب حتى أمس قريب الحديث عن «استثناء عربي» أمام سعي المواطنين في شتى أنحاء العالم لتحقيق نظام سياسي تمثيلي عادل، بل أمعن البعض في تفنيد الأسباب والعوامل التي تؤصّل هذا الاستثناء لتمسي فوارق جوهرية بين الغرب العقلاني والشرق الأهوائي. ومقولة صراع الحضارات التي اعتمدها العديدون بنيت انطلاقاً من هذا التأصيل، ومعها تنتفي إمكانية التوصل إلى تفاهم سلمي في القضية الفلسطينية، بل تصبح هذه القراءة تبريراً متقناً لتجاوز الحقوق الفلسطينية.مقولة الاستثناء العربي سقطت، على رغم أن المطلوب للانتقال من الوعد إلى التحقيق ما زال كبيراً. إلا أن إمكانات تصور مستقبل سلام للمنطقة أصبحت أقرب إلى الواقع مع تأكيد الشارع العربي أنه غير قابل للاختزال في مقولات أهوائية.
الحياة