حجة فرانكو على كاسترو
وسام سعادة
كان من الأجدى لو اقتدى «الحزب» بقائده، وأخذ الواحد منهما بيد الآخر، وتنحيا معاً. كان من الأفضل لكوبا ولكل المعنيين بتطوّرها السياسي والاقتصادي، لو ترافق تنحي الحاكم المطلق للجزيرة والذي دام ظلّه عليها ما يزيد عن النصف قرن، مع اعلان واضح وصريح من جانب الحزب الشيوعي الكوبي الحاكم،
يقضي بالتخلي عن نظام الأحادية الحزبية والسطوة المخابراتية، استعداداً لتنظيم انتخابات حّرة تعدّدية، بمراقبة دولية، بما من شأنه افراز مجلس تأسيسي يسهر على نقل البلاد الى حيث النظام الدستوري واقتصاد السّوق، فتشرّع الأبواب لعودة مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين الى أرض الوطن، ومعهم رجال الأعمال والمستثمرين، ويطلق سراح معتقلي الرأي من السجون.
كانت الثورة الكوبية خيانة فصيحة لتعاليم الماركسية كافة، تحت شعار «الصمود» أمام الامبريالية فاستبدلت كوبا تبعية بأخرى. زادت الثورة من السمات الكولونيالية للاقتصاد الكوبي. في أيام الحرب الباردة، ارتهن الاقتصاد الكوبي بالكامل لتقسيم العمل داخل المعسكر الاشتراكي. لم تطوّر الثورة القوى المنتجة، بل أعاقت تطوّرها. استعاضت عن ذلك بالتعويل على همّة «القوى المنتجة» في المعسكر الشرقي. بعد الحرب الباردة، صارت الثورة تعوّل على الشريحة المخابراتية والدواوينية التي طوّرتها على مدى عقود، كما صارت تعوّل على الحصار الأميركي نفسه. الثورة التي ضربت السياحة الكوبية في الخمسينيات صارت تقدم نفسها كسياحة في التسعينيات. أنقذت الثورة نفسها بأن عدّت من تقاليع العولمة الاستهلاكية، ومن حصون معاداة العولمة، في الوقت نفسه. ولم يكن ينقص النظام الكاستري غير اضاءات «الكرنفال البوليفاري» الصاخب، الذي يتحفنا بعروضه أمثال تشافيز وموراليس.
أما بالمقياس الجيو ـ استراتيجي، فقد كان تعويل الاتحاد السوفياتي على موقع كوبا الاستراتيجي هو «غلطة العمر». لقد أُكل الثور الأبيض يوم غالى السوفيات في تقدير دور النظام الكوبي وأسندوه بـ 36 صاروخاً نووياً وغواصات وخمسين ألف جندي، موجهين تهديداً «وجودياً» لأميركا على بعد مئتي كيلومتر من فلوريدا. كانت النتيجة أن خرجت الولايات المتحدة منتصرة بشكل حاسم من هذه المعركة الافتراضية التي كان يمكنها أن تتطوّر في لحظات محدّدة الى حرب عالمية ثالثة. اضطر نيكيتا خروتشيف الى سحب الصواريخ من كوبا في 26 تشرين الأول .1962 صار المعسكر الشرقي يراكم الخيبة بعد الخيبة، ويصر على المكابرة تلو المكابرة. استبعد الأميركيون خططهم السابقة لغزو «كوبا الأبية»، لكنهم كانوا قد كسبوا الحرب الباردة بشكل واضح، بفعل أزمة الصواريخ.
منذ رضوخ السوفيات وسحبهم هذه الصواريخ في 26 تشرين الأول ,1962 لم تعد من حاجة «أممية» حقيقية لهذا النظام الكوبي، اللهم غير تصدير الفولكلور «الرومانسي الثوري»، الذي مؤداه أنه «ليس علينا تطوير القوى المنتجة»، وانما يمكن الاكتفاء بإبراز منجزات وطنية «طابع ـ بريدية» في قطاعي التربية والصحة. لا يمكن انكار هذه المنجزات، انما ينبغي التروي عند عرضها، فالحظوة المعطاة لأبناء الجهاز مثّلت بعداً مركزياً من ضمن ديموقراطية التعليم.
ليس الهم إصدار حكم إدانة لتجربة تاريخية بكاملها. ليس المطلوب طرح السؤال عمّا كان ممكناً لكوبا أن تفعله؟ السؤال الوحيد الذي ينبغي أن يطرح داخل وخارج كوبا حالياً يتناول قدرة النظام الآفل على تقبّل عملية تسلّم وتسليم هادئة ومثمرة وغير مماطلة، تفضي الى حلول الديموقراطية التمثيلية، مع الحفاظ على «ديموقراطية الصحة والتعليم».
لسوء الحظ، أو لحسنه، ما من مقارنة جائزة الا بتركة الجنرال فرانكو في اسبانيا، والجنرال بينوشيه في تشيلي. لقد أقام كل منهما القاعدة المادية اللازمة للتطور الديموقراطي اللاحق لزوال حكمهما، إما بداعي الوفاة الطبيعية وإما بداعي المرض. ليست هذه حال كوبا، مع أن البطش في كوبا بقي أخف وطأة عمّا كابدته تشيلي في ظل بينوشيه، وعن مختلف مآسي الحرب الأهلية وما تبعها في اسبانيا، وان لم يكن فرانكو وحده من يتحمّل كل مآسي الحرب الأهلية وما تبعها. الجمهوريون أيضاً كانت لهم جرائمهم، ومجازرهم الجماعية.
… في الزمن الذي دخلت فيه كوبا الكاسترية في صراعها مع الولايات المتحدة، كانت اسبانيا فرانكو تغسل تاريخ انحيازها الى جانب هتلر وموسوليني، وتنضم الى أسرة الأمم الغربية في الحرب الباردة. عام 1959 حل الرئيس الأميركي دويت ايزنهاور، وهو من أهم أبطال الحرب العالمية الثانية، ضيفاً امبراطورياً على مدريد. وفي عقد الستينيات، قطعت اسبانيا الفرانكية أشواطاً مذهلة على صعيد الليبرالية الاقتصادية والتصنيع الحديث وبناء السدود وأنظمة الري، ما نتجت عنه نهضة زراعية شاملة من ناحية الرّيف، لم يتوصل اليها أي من برامج الاصلاح الزراعي «التقدمية» في البلدان الأخرى، كما نمت طبقة وسطى واسعة النطاق في المدن. صارت اسبانيا تاسع دولة صناعية في العالم في اليوم الذي رحل فيه فرانكو عن هذه الدار الفانية.
صنعت ديكتاتورية الجنرال فرانكو شروط الديموقراطية في اسبانيا. كذلك حال بينوشيه. هي مقارنة محرجة نعم، لكنها ضرورية. ما الذي صنعه «الرفيق فيديل»؟