فـي وداع المسـيري
حسام عيتاني
المواهب المتنوعة التي تمتع بها المفكر والكاتب الراحل عبد الوهاب المسيري تجعله واحدا من اعلام الثقافة العربية في الربع الاخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. من النقد الادبي الى الترجمة ومن قصص الاطفال الى البحث الاكاديمي الصارم، انتقل المسيري بيسر من يمتلك مفاتيح الفنون والعلوم امتلاك الواثق والقادر.
وعلى الرغم من الجوائز وشهادات التقدير التي نالها الراحل الكبير عن مجمل اعماله، تبقى »موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية« انجاز العمر الذي منحه الاعتراف العام كواحد من اكبر المتخصصين في الشؤون الفكرية والسياسية والثقافية اليهودية في التاريخ العربي الحديث. وسبق الموسوعة هذه عدد كبير من الدراسات التي يمكن القول انها تشبه الى حد ما المسودات او الرسوم التفصيلية التي يلجأ الرسامون اليها وتمهد لظهور اللوحة الكبيرة، او العمل الابداعي الضخم. وربما تلخص الموسوعة هذه الرحلة التي بدأت مع كتابه »نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني« المنشور في العام .١٩٧٢
ومن الأوجه التي تثير الاهتمام في الدكتور المسيري، هو ان رفضه الشديد لكامل منظومة الصور النمطية والمسبقة حول اليهود والصهيونية وإسرائيل، وهي المنظومة التي ما تزال تهيمن على النظر العربي الى هذه المسائل، ان هذا الرفض لم يضع صاحبه في حالة عداء مع المؤسسة الثقافية والسياسية العربية التي لم تبرأ بعد من تصورات وأخيلة لا تستند الى حقائق من نوع تلك التي حشدها المسيري في اعماله وخصوصا في الموسوعة.
لعلنا لا نجافي الصواب كثيرا اذا قلنا ان القبول الذي ظل المسيري يتمتع به برغم وضوحه النقدي للتصورات العربية وحتى الغربية بشأن الموضوع اليهودي، يأتي على خلفية ارفاقه الرفض هذا برفض مماثل للتصورات النمطية اليهودية والصهيونية عن الذات وعن الآخر العربي او الغربي. لقد رفض المسيري بجرأة كبيرة جميع الاساطير التي تتناول اليهود والمتراكمة في الخيال الجمعي العربي نتيجة التجربة المشوهة او نتيجة استيراد اساطير الآخرين في الغرب، تماما كما رفض الاساطير التي حاول ويحاول دعاة بناء دولة اليهود في فلسطين ترويجها وفرضها على شعبهم وعلى الفلسطينيين والعرب والعالم كحقائق نهائية أزلية.
ولعلها من المقالات التي تبرز قدرة المسيري الكبيرة على كشف الاسس الاسطورية او الخرافية للخطاب السياسي الراهن، تلك المقالة التي تحمل عنوان »معاداة اليهود: الاسباب وتكوين الصور النطية« (الجزء الثاني من »الموسوعة«) حيث ينبري وبصبر كبير الى تشريح الخلفية الاجتماعية التاريخية والاقتصادية التي رافقت بروز الاشكال المختلفة من العداء لليهود منذ القمع الروماني لليهود في فلسطين القديمة وصولا الى تبلور الدور اليهودي في اوروبا حيث ادوا دور الجماعة الوظيفية (وهو مفهوم يعود المسيري اليه كثيرا في العديد من مقالات الموسوعة كإحدى الادوات التي يستخدمها في شرح النقاط الملتبسة من تاريخ اليهود وتطور جماعاتهم).
ويسجل للمسيري انه من بين ابرز الكتاب العرب الذين تناولوا الجانب الاسطوري في صورة اليهود رافضا كل ما يعتبره الكثير من العرب وحتى من بين النخبة المتعلمة او المثقفة منهم من المسلمات. فهو يشدد على الطابع البشري او »العادي« (اذا جاز التعبير) لكل اوجه النشاط اليهودي الذي يتشارك في العديد من الزوايا مع نشاط أقليات أخرى في انحاء مختلفة من العالم ومن التاريخ، رافضا رفضا باتا مقولات من نوع »المؤامرة اليهودية« متعددة الاهداف التي تتغير وفقا لتغير الظروف التاريخية. فالمؤامرة هذه ترمي حينا الى »علمنة« العالم وحينا آخر الى نشر الرأسمالية او فرض الشيوعية. كما يرفض مقولة ماركس التي فصلها في كتابه »المسألة اليهودية« والتي تعتبر ان اليهود يعملون على »تهويد المجتمع« مشيرا الى ان المقولة هذه تتناقض مع مجمل فكر ماركس الذي نضج بعد كتابته »للمسألة اليهودية« في اعوام الشباب الاولى.
ومما يعارضه المسيري في »الموسوعة« تلك النزعة الساذجة التي تبحث بل تفتعل رابطا بين الانتماء اليهودي لشخص ما ودوره السياسي وحتى ميوله الشخصية والاخلاقية ونقدم هنا عينة مما يقوله المفكر الراحل في كيسنجر، وزير الخارجية الاميركي الاسبق والذي اثار عواصف من الانتقادات في العالم العربي، كنموذج على هذا الاسلوب الجدير بالاحترام من النظر الى الامور وتقييمها حيث يكتب في مادة »هنري كيسنجر (١٩٢٣)«: »محاولة اكتشاف البُعد اليهودي في تفكير كيسنجر أمر لا طائل من ورائه، فطريقة تفكيره وأولوياته وإدراكه لمصالح العالم الغربي وإدارته للأزمات الدولية (سواء في الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق) هي جزء لا يتجزأ من التفكير الإستراتيجي العام في الغرب بمنطلقاته الصراعية الداروينية والتي تعود إلى عصر النهضة، وفلسفة الدولة (….) ومن هنا اهتمامه بالبترول العربي فهو أداة ضغط أساسية على الدول »الحليفة« التي تعتمد على البترول المستورد. وما يُحدِّد موقف كيسنجر من إسرائيل ليس يهوديته أو رغبته في الدفاع عن المصالح اليهودية أو زيادة النفوذ اليهودي أو حماية الدولة اليهودية، وإنما حرصه على أن تكون إسرائيل حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة وسوطاً رادعاً في يدها. ومن ثم لا يمكن تفسير مواقف كيسنجر السياسية على أساس يهوديته، كما يفعل بعض المحللين العرب«.
السفير