المناضل والمفكر والفنان ثلاثة في رجل واحد
محمد الحمامصي
يقول يوسف زيدان أستاذ الفلسفة وتاريخ العلوم ومدير مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية: تثير وفاة عبد الوهاب المسيري عندي وجدا شديدا وتهيج فكرة مفزعة وهي أن البلاد تخلو من مناراتها من دون أن تقيم منارات جديدة فقبل أسبوع سقطت المنارة الفكرية المسماة سامي خشبة، وها هي اليوم منارة أخرى تسقط، وقد كنا دوما نقول مصر ولادة فأين هم الأولاد؟ وأين أولئك الذين سيتقدمون من بعد هؤلاء الذين يتساقطون بحكم الطعن في العمل والطعن في الأمل، مات طه حسين ولم نجد بعده مثله، ومات جمال حمدان ولم ينبغ جغرافي آخر، ومات نجيب محفوظ ولم تطاوله قامة أخرى، وهكذا تخلو البلاد من مناراتها لتخلو الساحة أمام المشوهين من الفنانين ومقدمي البرامج ولاعبي الكرة الذين صاروا ويا للعجب نجوما في المجتمع الجديد، ولا جديد عند هؤلاء، ولا نبت جديد يبشر بأشجار مثمرة مرة أخري تعوض ما يبس بالموت.
عرفت المسيري في الثمانينيات وكنا نلتقي كثيرا في الاسكندرية في بيته أو على شريط البحر وقد عاصرت تحوله من الاهتمام بالادب الإنكليزي إلى الانشغال بالتراث اليهودي وشاركت معه في الموسوعة (موسوعة اليهود واليهودية) وشكرني في مقدمتها على مشاركتي مع أنني لم أكن أوافقه على كثير من رؤاه بصدد التراث اليهودي واتهمه بأنه يستهين بهذا التراث ويعتقد أن ثلاث أفكار (نماذج تفسيرية) كافية لفهم هذا التراث الرهيب، كان يضحك من اتهاماتي ولا يكف عن مشاغبتي في جلساتنا الطويلة، كانت آخر مشاغباته في القاهرة، حين التقيته وكان معي ابني الوحيد علاء الذي عرف منه الدكتور المسيري أنه يدرس الهندسة، فنظر إليّ وقال : ابنك أنت يدرس الهندسة! فابن من الذي سيدرس التراث والفلسفة؟ رأيت فيه ميلا للمشاغبة فشاغبته بدوري قائلا: لقد انتهي العالم الذي كنا ننتمي إليه، فدعه يدرس الهندسة كي ندعك تشتغل بالسياسية بعد العلم وترأس حركة كفاية، حين ضحك لقولي أضفت: هذه الحركة لا بد من أن تغير اسمها، فإن كلمة كفاية في اللغة العربية تقال للشيء الجيد أما الأشياء السيئة فإذا أردنا لها أن تتوقف نقول لها (بس) وهي كلمة فصيحة، اندهش المسيري ولم تفارقه ضحكته بينما ظلت آلامه لا تفارقه طيلة السنوات الأخيرة، وافترقنا يومها وكان آخر ما رأيته من عبد الوهاب المسيري هو ابتسامته التي لن أراها أبدا بعد اليوم.
العدو من الداخل
المؤرخ والكاتب خالد عزب عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية يقول: يمثل عبد الوهاب المسيري أحد أعظم المثقفين العرب في القرن العشرين حيث كان مثقفا غير تقليدي، تخلى عن الوظيفة الجامعية لصالح مشروعه الفكري فأنجز موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ونذر نفسه للبحث العلمي وفق منهج تحليلي وليس وفق النقل والسرد كما تعودنا من الباحثين العرب وأساتذة الجامعات والمثقفين، كما قدم ثروته لهذا المشروع الذي نذر نفسه له، والذي بسببه تم إحياء فكرة دراسة إسرائيل والمجتمع اليهودي من الداخل ومن الخارج.
ويؤكد الروائي إبراهيم عبد المجيد أن رحيل المسيري خسارة للأمة العربية وللثقافة والفكر العربيين، كان أستاذا كبيرا في الأدب، وأضاف للثقافة العربية أهم موسوعة عن اليهود واليهودية والصهيونية، تلك الموسوعة التي أنفق فيها جل عمره.
كان مثقفا عضويا فاعلا، لم يفصل أبدا بين الكتابة والثقافة والحياة، فهو أحد أبرز أعضاء حركة كفاية وأحد أقطاب الفكر الحر، لم يزايد أبدا بقيمته العلمية الرفيعة، كان قمة في التواضع، ومواقفه الوطنية والإنسانية تتجلى عبر مراحل حياته المختلفة.
الناقد عبد الرحمن أبو عوف يؤكد أن رحيل المسيري خسارة عربية وليست مصرية فقط للفكر والثقافة والنضال المخلص ويشير إلى أن موسوعته اليهود واليهودية والصهيونية ثمرة وطرح مشروع فكري بدأه المسيري بظهور كتابه نهاية التاريخ عام ،١٩٧٢ وقد قدمه كذات عربية مسلحة في مواجهة الآخر، فهذه الموسوعة ككل هي موسوعة كتبها المسيري وهو يشعر بأن الحداثة الغربية التي تدور في إطار العقلانية واللاعقلانية المادية والعلمانية الشاملة قد أدخلت الجنس البشري في طريق مسدود وتطرح الموسوعة أسئلة معرفية كلية ونهائية، ماذا يحدث للانسان بدون إله، من أجل ذلك كتب المسيري سيرته الذاتية والفكرية وتحوله من الانبهار بالفكر والثقافة الأوروبية وانتمائه إلي الماركسية في شبابه ثم مراجعته لهذا التكوين والتبعية الفكرية والتمرد لمحاولة بناء رؤية فكرية ذات نسق عربي إسلامي يوحد بين الحدث والروح وبين العقل والمادية.
ويقول القاص والكاتب الصحفي بجريدة الأهرام محمد الشاذلي: يمثل غياب الكاتب والناشط السياسي والمفكر عبد الوهاب المسيري رمزا لغياب جيل من الكتاب والمفكرين الموسوعيين في مصر والعالم العربي.. لم يعد أحد يفكر تقريبا بالطريقة نفسها التي درج عليها المسيري ولم يعد أحد يعمل على نفس النهج.. فالمسيري الذي بدأ حياته أستاذا للادب الانكليزي وذلك بعد أن تلقى تعليما رفيعا في الجامعات المصرية والأميركية، عمل على متابعة المشروع الصهيوني ودراسته بشكل متعمق، وكما هو معروف أنجز موسوعة تاريخ الصهيونية، مبتعدا عما هو دعائي فج لا يقدم ولا يؤخر، مقدما إنتاجا علميا معرفيا دقيقا، يمكن الاطمئنان إلى نتائجه. إن نظرة واحدة إلى قائمة مؤلفاته تعطي فكرة عن القدر الذي ذهب إليه المسيري في عمله هو الذي ناضل بالفكر والكلمة من أجل قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وفي إشارة لها دلالة فهو مات في مستشفى فلسطين بحي مصر الجديدة بالقاهرة والقريب من منزله. لقد نفض المسيري عن نفسه تهمة البرج العاجي الذي يعيش فيه المفكرون عامة وانخرط لحد بعيد في الحياة العامة حتى تولى قيادة حركة كفاية التي تنشد التغيير السياسي في مصر وترفض التوريث مع ما يمكن أن يحمله ذلك من مخاطر على حالته الصحية التي لم تكن على ما يرام في الأعوام الأخيرة.
المسيري ترك تراثا هائلا في تاريخ الحركة الصهيونية، ليست كتاريخ جامد حقق أغراضه ومضى، ولا يصلح تذكره إلا في حلقات دراسية ضيقة، وخائفة من اتهامات بمعاداة السامية، ولكنه قدم طريقة تفكير وتاريخ يمكن الجدل معه، واستشراف لإمكانية مجابهته.
بناء الطالب الجامعي
ويرى أحمد ثابت أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن رحيل المسيري خسارة للبحث العلمي أكبر خسارة، إنني حزين علي فقد رجل أخلص لمشروعه العلمي كما أخلص لوطنه وأمته، ويضيف: إن الجهد التفسيري للدكتور المسيري في موسوعته الكبرى اليهود واليهودية من خلال ثلاثية الحلولية والعلمنة والجماعة الوظيفية قد تم تطبيقه ببراعة على الجانب الخاص بإشكالات الهوية عند الجماعات اليهودية، ومن خلال الموسوعة دعانا لكي نفهم تاريخ الحركة الصهيونية والجامعة اليهودية، فهي تدعونا إلى أن نتعب عقولنا في التفكير ونتخذ منحى مركبا وليس بسيطا لأن العالم الذي نعيش فيه يحتاج إلى فكر مركب، إننا لا بد وأن نمتلك معلومات وتحليلا كاملا للجماعات اليهودية والظاهرة الصهيونية في العالم.
ويقول الروائي والباحث السيد نجم: هناك بعض الشخصيات لا يمكن أن يتجاهلها التاريخ أو الناس، مهما اختلفت معها.. في آرائها أو أفكارها أو حتى مواقفها السياسية. مثل هؤلاء: لأن الناس يستشعرون صدقه وإخلاصه وحسن نواياه.. ومن هؤلاء د. عبد الوهاب المسيرى.
فهو صاحب موسوعة »اليهود واليهودية والصهيونية«، وهو من أعطى لقضية الصراع الأولى في العالم العربي كل همه واهتمامه، ومعظم ما أنتجته قريحته.
وهو الأستاذ الجامعي الذي لم يكن مدرسا في الجامعة، بل كان مناقشا ومحاورا، وقادرا على استخلاص الكامن في رؤوس تلامذته وتلاميذه، وتوليد الأفكار والمواقف، التي هي في النهاية أساس بناء الطالب الجامعي، بل والإنسان.
وهو صاحب كتاب »رحلتي الفكرية« وهو الكتاب الذي سرد فيه سيرته الذاتية، ومع ذلك لم تلك سيرة تقليدية، بل مجموعة من الأفكار التي أثرت فيه وتأثر معها خلال مراحل عمره. وبذلك أضاف إلى أنماط كتابة السيرة الذاتية نمطا جديدا يذكر باسمه.
وهو الكاتب في أدب الطفل »قصة ـ شعر« وهو ما قد يدهش البعض: كيف لهذا الباحث المفكر أن يصبح طفلا ويكتب للأطفال؟ ولكن من يطلع على قصصه وأشعاره، يتأكد أنه لم يتخل عن جذوره الفكرية وقناعاته.. وربما في كتابته للأطفال إضافة ورؤية مستقبلية لقناعاته.
ففي آخر حوار إعلامي معه في »موقع إسلام أون لاين«، قال إن المنظومة المجتمعية لإسرائيل تتآكل، ويرى أن ما دعا إليه »ديفيد بن غوريون« مؤسس الدولة الصهيونية من »صهر« الهويات المتعددة لليهود المهاجرين إلى إسرائيل في هوية جديدة.. بدا وكأنه تتآكل، لذا يتنبأ بانهيار إسرائيل.. رحم الله المسيرى رحمة واسعة.
وتقول هبة رؤوف عزت أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة: برحيل أستاذنا عبد الوهاب المسيري رحل جزء كبير من وجدان وعقل هذه الأمة الذي سعى الراحل طوال حيــاته إلى استنهاضهما.
ما زلت أتذكر أول لقاء جمعني بالمسيري وكان ذلك في عام ١٩٨٩ في ندوة بمقر حزب العمل عن الانتفاضة والنموذج الانتفاضي وفي ذلك اليوم بدا لي خطابه مختلفا عن الخطاب السائد على كل الجبهات لآخذ منه موعدا وزرته وبدأت معرفتي به وبأسرته، فقد شاهدته وعايشته في أحواله كإنسان ومفكر عظيم وأديب كبير، وعاصرت معاناته في إنهاء موسوعته التاريخية وتعلمت منه أن علاقة المفكر بأجيال أصغر ليست علاقة كتاب يستعار أو جلسة فكرية تعقد بل علاقة أب بأبنائه.
وتؤكد هبة على أن وصف المسيري بأنه خبير في قضايا اليهود والصهيونية أو أنه أستاذ أدب إنكليزي وكاتب موسوعي غير دقيق، فالمسيري في إيجاز مفكر إنساني بل يأتي بجدارة على رأس المفكرين الإنسانيين الذين يؤمنون بقدرة الإنسان وتجاوز أفق العقل لقانون الطبيعة وحدود الجسد.
(القاهرة)