آلام وأحلام وكأس شاي عراقي
مسعود عكو
كانت لدي أحلام كأي إنسان يعيش على هذه البسيطة، لعل أعظمها كان زواجي بزميلتي في الجامعة انتصار، وقفص زوجية جميل يجمعني بها مع أولادنا، لكن! تلك الكلمات أصبحت سراباً، هربت من بغداد، بعد أن قامت جماعة إرهابية باختطافي واحتجزوني لأكثر من شهر، وتركت انتصار وتلاشت كل أحلامي بمجرد عبوري الحدود العراقية السورية.
بهذه الكلمات ابتدأ علي جواد حديثه معي، عندما طلبت منه أن يتكلم عن أسباب هجرته من العراق، فرد علي قائلاً “لم أهاجر بل نزحت عن دياري، أنا الآن بلا وطن”.
لم يتمالك علي نفسه، وبدأت تتساقط على خديه عبرات أليمة تذكر من خلالها بغداد التي أحبها وزملاء الجامعة وقبل الجميع حبيبته التي شاء الإرهابيون أن يفصلوا بينهم بنهر من الآلام والأحزان، والتي طالما رافقتهم منذ ولادتهم في كنف النظام السابق ولحقت بهم حتى بعد دخول قوات التحالف إلى العراق.
علي جواد كان طالباً في كلية الصيدلة بجامعة بغداد، ترك العراق منذ صيف 2006 بعد أن قامت جماعة إرهابية باختطافه، تحفظ علي على ذكر اسمها مكتفياً بقوله “جماعة إرهابية” وقاموا أمامه بقطع رؤوس ثلاثة أشخاص كانوا برفقته، حتى أغمي عليه، ولحسن الحظ قامت القوات الأمريكية والعراقية بمداهمة المخبأ وعثروا عليه حياً.
أحلام كثيرة، وآلام أكثر تركها العراقيون خلفهم، ونزحوا من ديارهم باتجاه سورية والأردن ودول أخرى هرباً من بطش الحرب الطائفية التي اندلعت في البلاد عقب سقوط نظام صدام حسين على يد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا في ربيع 2003 وأسدل بذلك الستار عن حقبة تاريخية عرفت بأكثر المراحل من تاريخ العراق قسوة، شبهها علي جواد باجتياح المغول لبغداد ولم يفرق بين هولاكو وصدام سوى أن الأخير كان عربياً مسلماً وقبل كل ذلك عراقي.
تدخل مدينة جرمانا في ريف دمشق تواجهك محلات تجارية كثيرة مكتوبة عليها عناوين عراقية يظن الداخل إليها وكأنه في بغداد أو الموصل أو النجف أو الرمادي. فتجد العشرات من مكاتب السفر والنقل بين دمشق وبغداد، بالإضافة على العديد من المطاعم العراقية، والتي تقدم أكثر الوجبات العراقية الشعبية كالگص والقوزي والپاچة. ناهيك عن الكباب العراقي الخالص كما شاء لصاحب مطعم نينوى أن يسميه. ليس فقط في جرمانا هناك العديد من المناطق في دمشق أخذت طابعاً عراقياً كالبرزة، وقدسيا، والسيدة زينب، ومناطق أخرى.
أم أحمد المرأة السمراء الطويلة، على يديها نقش، تلبس الزي العراقي التقليدي، قائلة إنني أفتخر بعراقيتي وأقل ما أفعله هو أن أبدو كعراقية في سورية، حتى يعرف الجميع بأني عراقية، رغم أني أحببت دمشق وسورية، ولكني عقب كل صلاة أتضرع إلى الله خاشعة أن يعيدنا إلى ديارنا، وينعم علينا جميعاً بالأمان والسلام.
لم تترك السيدة زينب الحمودي أو أم أحمد الفلوجة إلا بعد موجات العنف الطائفي التي اجتاحت المدينة، فكانت ضريبتها قاسية جداً، زوجها وبكرها قدما قرباناً لهذه الحرب اللعينة، التي حصدت الآلاف من الأبرياء. فاختارت أم أحمد سورية لتعيش فيها مع أبناءها الثلاثة.
كنا نجلس دائماً أمام الدار، نتكلم على بعضنا، عن الجيران، عن عرس بنت فلانة، وخطبة أخرى، كانت أيامنا جميلة، نشرب الشاي مع الهيل، ونأكل الكليجة، البنات يقفن عند بعضهن ويتهامسن، والنسوة الكبار يبقين في صراع دائم حول مواضيع نسائية كانت تهمنا حينئذ.
الآن فليس لدي سوى ذكريات وآلام، أتذكر شقيقي عبد الحسين الذي استشهد في حرب صدام مع إيران، أما مظفر فقيل لنا أنه مات في فرع للمخابرات، ولم نعثر حتى هذه اللحظة على أي أثر لهما.
هكذا وصفت أم أحمد حياتها قبل أن تصبح لاجئة في سورية.
عبد الكافي السعيد، طالب في المجلس الثقافي البريطاني، دخل سورية قبل سنتين وقدم طلباً للهجرة عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين واختار كندا للهجرة، وقد أخذ درجة الأيلتس لكي يستطيع بذلك الحصول على فيزا تخوله الدراسة في إحدى الجامعات الكندية. تكلم بحسرة على بغداد، ووصفها بدار السلام، وعروسة دجلة والفرات، كان دائماً يكرر في حديثه معي، كلمات الرصافة، والكرخ، والشورجة، والكرادة، وتبين لي بأنها أحياء في بغداد ويستشهد بأبيات شعر و أغاني عراقية.
كان صوته جميلاً حين غناءه. ورقيقاً حين كلامه، يقول كم أتمنى أن أجلس في مقهى على الفرات واشرب الشاي المهيل، واستمع إلى سعد الحلي، وياس خضر وناظم الغزالي، وحميد منصور، وكل الفانين العراقيين.
اختتم كلامه بهذه الجملة التي أثرت في نفسي أن تكون عنواناً لهذه المادة واصفاً العراقي بأنه إنسان لديه “آلام وأحلام وكأس شاي عراقي” مردداً في نهاية كلامه، موالاً للفنان العراقي الكبير سعدون جابر “يلي مضيع وطن، وين الوطن يلقاه”.
خاص – صفحات سورية –