صفحات أخرى

«قفصة» و«سيدي افني» وسواهما: بعض دلالات ما يجري «هناك»!

null
نهلة الشهال
هي أسماء أماكن غريبة على الأسماع، وما يثيره الذي وقع فيها – وما زال – يخرج عن مألوف انشغالات المتابعين السياسيين والمثقفين، فلا هي شؤون تخص فلسطين أو العراق، ولا تخص قضايا «تشغل الدنيا» وتعرف كيف تسوق نفسها إعلامياً، كما هي حال كل شاردة وواردة في لبنان… ولكنها تطرح أسئلة جوهرية تتعلق بمفهوم الدولة وبممارسة السلطة وبمقاييس الشرعية، كما تتعلق بوحدة الكيانات القائمة أو انصهارها، وبالحال الاجتماعية والمعيشية لمجتمعاتنا وأنماط التنمية المتبعة. إنها ببساطة تكتنز داخل حدودها التي تبدو ضيقة – وقد يقول البعض استثنائية، متطرفة أو طرَفية – السمات الأساسية لمحصلة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتبعة ولمآلاتها كما تبدو قائمة اليوم.
قفصة في الجنوب الغربي من تونس، هي منطقة الحوض المنجمي للفوسفات في البلاد، أحد أهم ثرواته التصديرية. بدأت في إحدى مناطقها تحركات شعبية بوجه «شركة فوسفات قفصة»، تندد بطرق توظيف العمال والكوادر، وتحديد التقديمات التي يستوفونها، وصرفهم من الخدمة. تعاني المنطقة الغنية منجمياً من فقر مدقع وتهميش كبير، وقد شارك في التحركات الأولى التي بدأت مطلع هذا العام نقابيون وعمال وموظفون من القطاع العام وممن يستخدمون فيه بواسطة شركات توظيف خاصة، وأيضاً عاطلون عن العمل ومن بينهم حملة شهادات عليا، وطلاب، وأرامل العمال. أثار التحرك المطلبي والسلمي قضايا غلاء المعيشة، والحصول على العمل، والفساد، ومقاييس توزيع الثروة… وبمواجهته، لجأت السلطة فوراً إلى أقصى التدابير الأمنية والزجرية، فعزلت المنطقة لشهور عن سائر البلاد، وأوفدت اليها آلاف عناصر الشرطة والأمن المدججين بالسلاح، وجردت حملات دهم بيوت وتدمير أثاث ومطاردات واعتقالات، مع ما يرافق ذلك من سوء معاملة بل وتعذيب. سقط قتيل أول من المعتصمين وارتفع بالضرورة منسوب التوتر وتوسعت دائرته. وعلى امتداد الأشهر الستة الماضية، سارت الحال من سيء إلى أسوأ، فسقط مطلع حزيران (يونيو) الفائت قتيل ثان وعشرات الجرحى من ذوي الإصابات الخطرة في إطلاق الرصاص الحي على المعتصمين والمتظاهرين، وطال الاعتقال العشرات، وفر العديد من أهالي القرى وأحياء البلدات إلى الجبال القريبة والمناطق الصحراوية!  وتعاني المنطقة من حصار كامل ولا يسمح بدخول المواد الغذائية إليها بعدما عمد رجال الأمن إلى تدمير محتويات المحال التجارية والمخازن. وتحرك محامون من كل أنحاء البلاد لحضور المحاكمات في قفصة (بلغ عددهم ستة وعشرين)، فمنعت الحواجز الأمنية معظمهم من الوصول إليها، ومنعت الشرطة معظم من تمكن من الوصول من حضور المحاكمة، وجرت هذه بالمحاكمة بطريقة يصفونها بالصورية والتعسفية، أي أن  القاضي لم يلعب لعبة دوره الافتراضي.
يساعد الوصف – المستقى من تقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية، ومن بيانات تضامن نقابات أوروبية كبرى مع العمال والأهالي – في تعيين سمات متعددة للوضع القائم، منها عراء السلطة إذ لا تجد إلا القمع جواباً على المشكلات الاجتماعية، ومنها انحدار الأوضاع المعيشية للكتلة الأعظم من الناس نحو مزيد من الفقر ومن انعدام ابسط شروط الحياة، فيما يجري استعراض أرقام مرتفعة لنسب النمو المتحقق، والذي يجيز طرح سؤال عن الفئات الاجتماعية المستفيدة منه: حجمها، تموضعها، علاقتها بالسلطة ومكان توظيفها لاستثماراتها ومدخراتها، إذ هي تبدو أكثر فأكثر برّانية بالنسبة الى مجتمعاتها. ولكن على ذلك كله، يثير السؤال الأعظم عن مقدار القطيعة القائمة بين السلطة وعموم الناس، إلا الشلة المحيطة بها. فمن المدهش ألا يكون في جعبة السلطة سوى اللجوء فوراً إلى أقصى درجات القمع بدلا من محاولة التفاوض لإيجاد حلول تسووية، وإن استرضائية أو ترقيعية، لوضع اجتماعي غاية في البؤس. ولكن المدهش أكثر هو نوعية القمع نفسه، ليس درجته العالية فحسب، بل استهدافه الكتلة البشرية التي يخرج من قلبها التحرك، والجنوح نحو معاقبتها: هناك نقص حاد في الأدوية وحليب الأطفال في المنطقة المحاصرة (في تونس وليس في غزة)، وهناك تعقب ومضايقة وضغوط وتوقيف للمتحدرين من المنطقة الذين يسكنون خارجها(!)، وهناك رمزية شرود الأهالي إلى الجبال، كما الطرداء…
أما «سيدي افني» فتقع في ولاية أغادير في المغرب، وهي مرفأ صيد اسماك رئيسي في البلاد التي تحتفل هذه الأيام بذكرى استرجاع هذه المنطقة من اسبانيا…وسط مقاطعة سكانها للاحتفالات وتظاهراتهم التي تشارك فيها النساء مرتديات السواد علامة الحداد (وقد شاركت نساء قفصة أيضاً وبكثافة في التحركات مرتديات السواد، ومن غير المحتمل أن يكون جرى أي تنسيق بين المنطقتين! ولكنه الحس الشعبي وأدوات الاعتراض المتوافرة). انتفض منذ شهر سكان المرفأ ضد المتعهدين أصحاب الشركات ممن حصلوا على رخص احتكارية، والذين تتلخص علاقتهم بالمدينة بعبور أساطيلهم الشاحنة شوارعها ناقلة الأسماك، فيما هم عاطلون عن العمل وفي حال من البؤس والإهمال الكاملين… فسدوا مداخل المرفأ ومخارجه، متسببين بخسارة المنتوج الذي فسد، مطالبين باستفادة المنطقة من الصيد البحري وواصفين أنفسهم بـ «المهمشين». لجأت السلطات مباشرة إلى أعلى درجات العنف، كما كانت قد فعلت قبل أشهر في أحداث مماثلة في أكثر من مكان. أُطلق آلاف عناصر الشرطة والأمن المدججون بالسلاح في المدينة، ينكلون بأهلها كما يحلو لهم، متسببين بخسائر مادية تدميرية للسكان، موقعين جرحى، وموقفين عشرات الناس. ويقال أن بعض عناصر الأمن اغتصب نساء، بينما تقول التقارير الرسمية أن «الفعل» لم يقع، بل حدثت تحرشات جنسية وتهديدات! يسمي الأهالي تلك الأحداث بـ «السبت الأسود»!!
الخطير في أحداث «سيدي افني»، والقرى المحيطة بها والأسواق الموسمية أو الأسبوعية التي تنعقد في المنطقة والتي اتسع التحرك إليها، الخطير عدا القمع المفرط البشع، أنها أخرجتْ إلى السطح سمات هي الأخرى من طبيعة «تأسيسية»: هناك بالطبع موضوع بؤس الناس وسؤال اتجاهات التنمية والفئات المستفيدة منه (حيث هناك في المغرب، حسب التقارير الدولية، ما يقرب من نصف مليون طفل غادر المدرسة في العام الماضي وحده ليعمل أو يتسول أو يتجه نحو الدعارة، وثلث النساء والأطفال في البلاد يعانون من نقص حاد في التغذية وفقر الدم، وبنايات تنهار على قاطنيها كل يوم، ومعامل تحترق بعمالها الذين يشتغلون فيها في ظروف تشبه ظروف السجناء أو الأرقاء، واتساع مدن الصفيح على رغم كل المخططات الموضوعة لها…). ولكن، وعلاوة على ذلك، فقد طرحت في «سيدي افني» مسألة وحدة البلاد وليس أقل، حيث يتندم بعض الناس علناً على أيام الأسبان، ويعتبر من لا يفعل أن نضاله الحالي يشبه نضال أجداده للتحرر من الاستعمار الاسباني، ويطالب آخرون بربط الولاية بالصحراء أو يجنح نحو مواقف انفصالية، على أسس مناطقية، أو وفق التوتر العربي – الأمازيغي.
أمثلة مستجدة لكنها ليست وحيدة ولا استثنائية. فهل وصل «النموذج» – على تنوع تفريعاته – إلى نهاياته: نموذج الدولة الوطنية التي لم تنجح في امتحان الاندماج، ونموذج السلطة المتزايدة ضيقاً وانغلاقاً وبرانية وغربة عن المجتمع، ونموذج التنمية المتجه إلى مقياس تحقيق أرقام وليس إلى مقياس توفير الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية إن لم نتكلم عن تعميم الرفاه الاجتماعي، ونموذج الطموح إلى بناء دولة، الذي يقابله انهيار ما كان قائماً من مؤسسات ومرافق عامة بحيث تبدو الأمور تسير على عواهنها، إلا في بعض القطاعات المهمة والمحروسة جيداً، ونموذج القمع العاري والمزداد عنفاً كرد على المشكلات الاجتماعية… ولكن ماذا بعد ذلك؟
الحياة     – 06/07/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى