ما يحدث في لبنان

فخّ المفاوضات الاسرائيلية – اللبنانية

null
الياس خوري
بعيداً من هذه العجقة الحكومية المغمسة بالدم، والتي تشير الى ان الهدف الوحيد للعرقلة، هو اعادة لبنان الى حظيرة الهيمنة السورية.  وبعيداً من لغة العقم، التي حوّلت المقاومة محرما على الآخرين، واداة تحليل وتحريم، تقبع  فوق المجتمع والناس والحوار، وهو امر مستغرب ولا سابق له في العالم كله، تعالوا ننظر الى اللعبة في اطارها التاريخي، اي في اطار الصراع مع اسرائيل، الذي يشكّل الاطار الوحيد الذي يصوّب النقاش، ويعطيه معنى لا تمتلكه الرؤوس الحامية ولا الطوائف المسلحة وغير المسلحة في “الساحة” اللبنانية.
يلاحظ القارئ الكريم اني استخدمت تعبير “الساحة”، وهو تعبير ممجوج كان امل جميع اللبنانيين في انتفاضة الاستقلال التخلص منه. لكنه بكل اسف عاد ليحتل السياسة اللبنانية، وخصوصا بعد اتفاق عقد في “ساحة” اخرى، هي “الساحة” القطرية، وتلك مسألة تحتاج الى نقاش خاص بها. مدخلي الى النقاش هو الدعوات الاسرائيلية المتكررة الى فتح مفاوضات اسرائيلية – لبنانية، تشكل استكمالا للمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، على المسارين السوري والفلسطيني. بصرف النظر عن النيات الاسرائيلية المبيتة، كالقول ان هذه المفاوضات سوف تكون بابا لتفجير لبنان، و/او اداة  لتفجيره تمهيدا لتسليمه الى الوصاية السورية، فإن المسألة يجب ان تناقش في وصفها مسألة استراتيجية كبرى تمس الوجود الوطني اللبناني، وتقدم امكاناً لبلورة فكرة لبنانية، تتجاوز منطق “الساحة”، وتقفل الباب امام تحويل الشعب اللبناني بكل فئاته وقودا لصراعات اقليمية على النفوذ والهيمنة، لا علاقة لها بقضية فلسطين او بقضية المستقبل العربي.
هناك سببان جوهريان لرفض المفاوضات:
السبب الأول سياسي، اذ لا مصلحة وطنية لبنانية في اي مفاوضات مع اسرائيل. لقد نجح لبنان في تحرير ارضه بلا قيد ولا شرط، واندحر الجيش الاسرائيلي الى ما وراء الخط الأزرق. فلماذا المفاوضات؟ كنا نأمل ان يشكل النموذج اللبناني حافزا للأشقاء العرب، وخصوصا في سوريا، كي يحرروا ارضهم بالمقاومة والصمود، لكن خيارهم كان مختلفا. لا نريد ان نعطي دروسا في الوطنية لأحد، لكننا لم نعد على استعداد لتلقي الدروس ممن لا يقاومون الا بنا وبدمائنا.
في السياسة، لا مبرر للمفاوضات ولا هدف لها، سوى محاولة جرّنا الى التهلكة والتطبيع والى آخر المطالب الاسرائيلية، التي اثبتت انها لا تنتهي. ان قراءة متأنية لمعاهدات السلام بين مصر واسرائيل او بين الأردن واسرائيل، تفيد بأن اسرائيل لا تريد اقل من الاستسلام. اما قراءة اوسلو نصاً وتطبيقا، فتشير الى رفض اسرائيل القاطع حتى للاستسلام الفلسطيني، لأنها تريد من الفلسطينيين التحول عبيدا في باندوستانات التمييز العنصري.
لماذا نفاوض اذاً؟ وما مصلحتنا الوطنية في ذلك؟ هل من اجل مزارع شبعا؟ بالطبع لا، لأن المقاومة الاسلامية التي حررت الجنوب لا تعترف بوجود دولة اسرائيل فكيف تفاوضها؟ كما ان المزارع يمكن وضعها في عهدة الأمم المتحدة في انتظار قرار الاخوة السوريين حول ملكيتها، ونحن على استعداد للقبول برأيهم أياً يكن، فهم في النهاية اخوتنا في القومية والمصير، ولا نريد ان نختلف معهم، من اجل قطعة من الأرض ذهبت ضحية الهزيمة- العار في حزيران 1967.
اما اذا كان التفاوض مع اسرائيل سيُفرض علينا باسم التضامن العربي، والمشروع العربي للسلام، فإن هذا يعني ان شرط هذا التفاوض هو الحل العادل للقضية الفلسطينية، ومن الآن الى ان تعترف اسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني يخلق الله ما لا تعلمون.
السبب الثاني استراتيجي، فاذا كانت دولة راسخة كمصر، عاجزة عن احتمال الآثار المدمرة لمعاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية، فكيف يتحملها وطن صغير كلبنان. لكن السؤال ليس هنا. انه يتعلق بمعنى المقاومة الفلسطينية والعربية للمشروع الصهيوني منذ وعد بلفور. رفض المشروع الصهيوني لا يمكن اختصاره بالدفاع عن الأرض التي احتلت، والشعب الذي طُرد من وطنه، على ما في المسألتين من اهمية وضرورة. رفض المشروع الصهيوني كان وسيبقى رفضا لمشروع بناء كيان عنصري في المنطقة. اسرائيل لم تكن سوى تجسيد لمشروع طائفي اقصائي وعنصري، يرفض التعددية ويسعى الى سحق الأقليات القومية والاثنية الأخرى. وعلى رغم تلطي هذا المشروع بلغة قومية علمانية مأخوذة من فكر عصر النهضة الأوروبية، والهسكلاه اليهودية، وتذرعه بالوحشية النازية التي حاولت الوصول الى حل نهائي همجي للمسألة اليهودية، فان طبيعته القيامية المهووسة بمسيانية بدائية، سرعان ما بدأت تتكشف بعد احتلال القدس. اي ان اسرائيل هي نقيض لبنان والفكرة العربية معا. لا لبنان ولا دول المشرق العربي تستطيع التحول الى دول قومية او دينية صافية، لأن ذلك يعني نهايتها وتشظيها واستعبادها من قبل اسرائيل. وهذا ما لا يستطيع الفكر الأصولي الجديد استيعابه، او استيعاب دلالاته الجوهرية.
اذا كان العالم العربي، نتيجة هزيمته وعجزه عن صوغ ردّه على الهزيمة مسوقا بقياداته الهرمة والفاسدة الى الاستسلام، فان القضية العربية في حاجة الى مكان تتابع منه المعركة الثقافية ضد العنصرية الصهيونية، تمهيدا لتحويل سلاح النقد الى نقد السلاح. المكان الوحيد الذي يستطيع القيام بهذه المهمة هو لبنان، ويجب ان يبني نفسه سياسيا وفكريا كي يستطيع، والا ضاع الوطن في زحمة جنون الأصوليات والعصبيات في المنطقة.
الفكرة اللبنانية الجديدة تبدأ من هنا، وهذا يقتضي اعترافا وتوبة عن الخطايا التي ارتكبت في الحرب الأهلية، عندما اوصلت حماقة التحالف مع اسرائيل، اي التبعية لها، الى انهيار الاستقلال الأول، تحت ركام جنون الطوائف وكلبية الديكتاتور العربي.
شرط الاستقلال الثاني، يبدأ من بلورة جديدة للفكرة اللبنانية، اي من رفض العنصرية والطائفية، من خلال الامساك بشعلة مقاومة الطائفيات والعنصريات والافكار الاقصائية، والهوس القيامي، عبر رفض هيمنة الفكر الصهيوني على العالم العربي، وتأكيد التعددية والعدالة في آن واحد.
من له اذنان للسمع فليسمع، ومن له عينان للقراءة فليقرأ، ومن ليس له “فالذي معه سوف يؤخذ منه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى