في ذكرى سقوط الباستيل والثورة الفرنسية
حسين العودات
تحتفل فرنسا يوم 14 يوليو بعيدها الوطني، وهو في الواقع عيد الثورة الفرنسية الشهيرة الذي اعتبر يوم سقوط سجن الباستيل في 14 يوليو 1789 يوم بدايتها. أثرت الثورة الفرنسية تأثيراً عميقاً وشاملاً في تاريخ العالم كله، فغيرت مصير أوروبا والعالم وخطّت بداية مرحلة تاريخية جديدة.
وصار العالم بعدها غيره قبل حدوثها، ولعل مبادءها ما زالت حتى الآن تشكل معايير للدولة الحديثة (الدولة ـ الأمة، المواطنة هي المرجعية الوحيدة، الحرية، الديمقراطية، تداول السلطة، حقوق الإنسان.. وغيرها)، فكانت في الواقع صرخة مبكرة وليدة تراكم ثقافي وسياسي وظلم اجتماعي كان عمره مئات السنين، وتنبئ بضرورة قيام أنظمة سياسية واجتماعية غير التي كانت قائمة قبلها، وهذا ما حدث بالفعل.
لم تكن الدولة الأمة بمعناها الحديث قائمة في أي بلد من بلدان أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد كانت كل من هذه البلدان موزعة بين مقاطعات ودوقيات يملكها أفراد (مالكو الأرض) ويسود في كل منها النظام الإقطاعي.
ولكل مقاطعة نظامها السياسي والإداري والاقتصادي وجماركها وجيشها وترتبط بالمركز بروابط واهية، حتى أنه كان يمنع على الفلاحين (الأقنان) الانتقال من مقاطعة إلى أخرى، وكانت تجبى الرسوم على البضائع المنقولة بين المقاطعات وكأنها تنتقل بين الدول.
في الوقت الذي نشأت فيه بورجوازية في هذه المقاطعات كانت تحتاج لليد العاملة المحجوزة للإقطاعيين ولذلك طالبت ب«حرية العمل»، كما تحتاج ليكون البلد كله سوقاً واحدة لمنتجاتها تمر بين مقاطعاته بدون رسوم أو جمارك ولهذا طالبت ب«حرية المرور».
وهكذا كانت الثورة الفرنسية في الأساس ثورة البرجوازية الفرنسية التي كان شعارها الرئيس وذو الأولوية هو «حرية العمل وحرية المرور»، ولكن هذا الشعار ترافق مع معايير سياسية للدولة برمتها، فقد أرادت البورجوازية الفرنسية إقامة دولتها التي تحقق مصالحها.
ولذلك فإضافة لطرح الثورة مفهوم الدولة ـ الأمة، طرحت شعارات الحرية والمساواة والديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة، ما يتناسب مع مصالح البرجوازية والفلاحين والمثقفين المتنورين والطبقات الوسطى والدنيا بشكل عام.
هبّ شعب باريس ثائراً واحتل سجن الباستيل، الذي كان عنواناً للقمع والتعذيب والاضطهاد ومكاناً لاعتقال المفكرين والسياسيين ورمزاً لقسوة النظام وجبروته وسلطته القمعية المطلقة، ولم يجد فيه الثوار في الواقع سوى سبعة سجناء غير سياسيين.
لكنهم احتلوه على أية حال لرمزيته وقتلوا حاكمه (الماركيز دي لواني)، وكان ذلك اليوم هو يوم إعلان الثورة الفرنسية، وأخذ سقوط الباستيل أهمية رمزية ما زالت في العمق الثقافي للشعوب تعبر عن قسوة السجون السياسية وازدرائها.
طبقت الثورة الفرنسية شعاراتها خاصة شعار «حرية العمل وحرية المرور»، وألغت الرسوم الجمركية والمالية أمام انتقال البضائع والمنتجات الصناعية في المقاطعات، ووحدت قوانين البلاد ووضعتها تحت سلطة واحدة.
وأعفت العمال الزراعيين والأقنان من التزامهم العمل مدى الحياة لدى ملاك الأرض، وسمحت لهم بالالتحاق بالمعامل الناشئة وحددت ساعات العمل وحدّثت الدولة، وأصدرت قوانين حقوق المواطن والإنسان، وتبنت الحريات السياسية والثقافية، وحققت في النهاية الدولة القومية والثورة الصناعية وكان شعارها «الحرية والعدالة والمساواة».
عارضت الأنظمة السياسية الأوروبية الملكية والإقطاعية الثورة الفرنسية، وحشدت جيوشها لتقضي عليها وعلى مبادئها، وانهزمت فرنسا في معركة «واترلو» بعد عديد من الانتصارات، لتبدأ مرحلة جديدة من القلق والاضطرابات.
لكن سقوط الباستيل كان على أية حال بداية لمرحلة جديدة في تاريخ العالم، حيث اضطرت بلدان أوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا أن تطبق مبادئ الثورة الفرنسية فيما بعد، وقامت دول دستورية تضم مؤسسات مجتمع مدني وإدارة موحدة الأنظمة والقوانين والمعايير، وأطلقت هوامش الحرية والديمقراطية وقامت الأحزاب السياسية على نطاق الأمة ممثلة بطبقات وفئات وليس بمرجعيات متخلفة، ونشأت النقابات العمالية واستكملت الدولة الحديثة أطرها.
إن الثورة الفرنسية هي مأثرة الشعب الفرنسي التي قدمها لشعوب العالم، والتي أصبحت الدول بعد قيامها دولاً مركزية موحدة ذات معايير حديثة، وغدت معياراً للدولة الحديثة الديمقراطية التي تحافظ على الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
تحولت الخلافات بين أهل الثورة إلى اختلافات ثم إلى تناقضات صارت دموية فيما بعد، وأُعدم قادة ومثقفون وسياسيون من زعمائها وصح عليها المثل: الثورة كالقطة تأكل أبناءها»، ثم اضطرب النظام السياسي نفسه.
فتحول من جمهوري إلى إمبراطوري أيام نابليون الأول، الذي بدأ تنفيذ سياسة التوسع والهيمنة وشنّ حروباً على بلدان أوروبا وصولاً إلى روسيا، ثم ما لبث أن انكفأ وانهزم وأعلنت الملكية من جديد في فرنسا، ولكن مبادئ الثورة الفرنسية بقيت تفعل فعلها في بلدان أوروبا والعالم حتى أيامنا هذه.
يبقى القول ان الدولة الفرنسية تناست مبادئ الثورة مع بدء عصر الاستعمار والكولونيالية، وتجاهلت أن هذه المبادئ هي ملك للشعوب كلها وليس للشعب الفرنسي وحده، وكانت الأنظمة السياسية الفرنسية تغرق بين تطبيق المبادئ في الداخل والتنكر لها في الخارج، وبقي الأمر كذلك طوال القرنين الأخيرين من العصور الحديثة.
جريدة البيان