حديث الأسد إلى الصحافة الفرنسية
لوموند ديبلوماتيك
مستعدون لحل كل المشاكل العالقة مع لبنان
الرئيس الأسد: 2009 فرصةً لاطلاق اصلاحاتٍ سياسيةٍ جادّة
استقبلنا على عتبة الباب، عند مدخل منزلٍ من طابقٍ واحد يُشرف من قاسيون على دمشق. لا بروتوكول ولا اجراءات أمنية، لا أحد يفتّشنا أو يتحقّق من آلات التسجيل التي بحوزتنا. «هنا البيت حيث أقرأ وأعمل. توجد غرفة الاستقبال هذه وقاعة محاضرات ومطبخ. وبالطبع الانترنت والتلفاز. زوجتي أسماء تأتي أيضاً كثيراً الى هنا.
وهنا أكون منتجاً، فيما تختلف الحال في القصر الرئاسي». طوال ساعتين يتطرّق الى كافّة المواضيع، ولا يتجاهل اي مسألة. كما طوى التفاهم الذي حصل بين الحكومة اللبنانية والمعارضة في شهر مايو 2008 صفحةً تاريخيّة.
«كان موقف سوريا قد فُهمَ خطأً، وتمّ تشويه وجهة نظرنا. لكن الاتّفاق حول لبنان قد أعاد الناس الى الواقع. فيجب القبول بأنّنا طرفٌ في الحلّ في لبنان وأيضاً في العراق وفلسطين. اذ هناك حاجة الينا لمحاربة الارهاب كما للتوصّل الى السلام. ولا يمكن عزلنا ولا حلّ المشاكل في المنطقة من خلال التلاعب بتعابيرٍ مثل «الخير» و«الشرّ»، و«الأسود» و«الأبيض». يجب التفاوض حتّى لو كنّا لا نتّفق على كل النقاط..».
في الوقت الذي يُعلَن فيه عن تشكيلٍ قريبٍ للحكومة اللبنانية، كيف ينظُر الأسد الى العلاقات مع بيروت؟
«نحن مستعدّون لايجاد حلولٍ لكّل المشاكل العالقة. فقد تبادلنا رسائل منذ 2005 حول ترسيم الحدود. كما أبلغتُ الرئيس أميل لحود في حينه وكذلك رئيس الحكومة أنّنا مستعدّون لفتح سفارةٍ لنا في بيروت. لكن من أجل ذلك، يُفترَض أن تقوم علاقات جيّدة فيما بيننا، وهذا لا يحصل منذ انتخابات 2005». و أعلن مصدرٌ مقرّبٌ من الرئاسة أنّه فور تشكيل حكومة الوحدة الوطنية سيقوم وزير الخارجية السوري، وليد المعلّم بزيارةٍ الى بيرت لمناقشة المسائل العالقة، ولا سيّما مع رئيس الحكومة، فؤاد السنيورة.
اتحاد المتوسط
في 13 يوليو، سيشارك الرئيس بشّار الأسد في احتفال اطلاق «الاتحاد من أجل المتوسط» في باريس، لكن ذلك لا يمنعه من ابداء بعض الشكوك حول المشروع.
فعندما تمّ اطلاق المسار الأوروبي-المتوسطي في برشلونه عام 1995، اعتقد بعض الرسميين الأوروبيين، كما يقول، «أنّ تنمية العلاقات الاقتصادية بين المشاركين سيساهم في السلام. هذا حقيقيّ اذا كان هناك أيّ آليةٍ للسلام». وهذا ما كان حاصلاً عام 1995 وليس موجوداً اليوم. «اذا لم تطلقوا اليوم حواراً سياسياً، أي اذا لم تتطرّقوا الى المشاكل الحقيقية ولم تتقدّموا نحو السلام، فلن يكون هناك مجال لأيّ مبادرة، سواء أسمّيتموها متوسّطية أو أطلقتم عليها أي اسمٍ آخر». ومع أنّه راضٍ عن ان الاعلان النهائي لقمّة «الاتحاد من أجل المتوسط» سيتضمّن فقرةً حول «الحوار السياسي»، فها هو يحذّر من فشلٍ جديد: «اذ حينه ستزول الثقة لوقتٍ طويل، وستتّجه مجتمعاتنا نحو التيارات المُحاف.ظة والتطرف».
المستقبل.. مخيف
ويشكّل هذا الأمر هاجساً كبيراً له، عاد اليه تكراراً خلال المقابلة. «الارهاب تهديدٌ للبشريّة جمعاء. فـى«القاعدة» ليست تنظيماً، بل حالة نفسية لا يمكن لأيّ حدود الوقوف في وجهها. ومنذ العام 2004، وبعد حرب العراق، شهدنا في سوريا نموّاً لخلايا «القاعدة» دون ارتباطٍ فعليّ مع المنظمة، لكنها تتغذّى من المطبوعات والكتب، وخصوصاً من كل ما يُنشَر على شبكة الانترنت. أخاف على مستقبل المنطقة. علينا تغيير المعين الذي يغذّي الارهاب. وهذا يتطلّب تنمية اقتصادية وثقافية وتربوية وسياحية – وأيضاً تبادل المعلومات بين الدول حول المجموعات الارهابية. لا يمكن للجيوش وحدها حلّ المشكلة، وهذا ما يدركه الأميركيون في أفغانستان».
وماذا يطمح لبلاده في السنوات الخمس المقبلة؟ «أن يكون مجتمعنا أكثر انفتاحاً وأن يكون الجيل الجديد حديثاً كما كان عليه الحال في الستينات. وأن يكون علمانياً وسط محيطٍ اقليميّ أكثر علمانيةً». اعترافٌ يُفاجئ بصراحته ويعبّر عن الأزمة العميقة التي تعيشها المجتمعات العربية…
تمايز عن طهران
كما يُساعد في فهم السبب الذي يبدو السلام فيه أكثر ضرورةً من أيّ وقت بنظر الرئيس السوري. فمنذ العام 2003، كان يُكثر من التصريحات حول رغبته في استئناف المفاوضات مع اسرائيل. وبعد حرب لبنان عام 2006، تميّز موقفه بشكلٍ واضحٍ عن موقف الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد. «أنا لا أقول انّه يجب شطب اسرائيل من الخارطة. نحن نريد السلام، السلام مع اسرائيل» (دير شبيغل، 24 سبتمبر 2006). لكن جوابي آرييل شارون ومن بعده أيهود أولمرت قد جاءا بالرفض القاطع: «لا يمكن الوثوق بهذا النظام»، هذا ما كان يُردّد، خصوصاً في واشنطن. لكن تل أبيب ودمشق أعلنتا في مايو 2008 عن اطلاق مفاوضات غير مباشرة بينهما برعاية السيد رجب طيّب أردوغان، رئيس الوزراء التركي.
سبب المنعطف
فمن أين أتى هذا المنعطف؟ «علّمت حرب لبنان 2006 الجميع بأنّه لا يُمكن حلّ المشاكل بالحرب. اسرائيل أكبر قوّة عسكرية في المنطقة وحزب الله أصغر من أيّ جيش. وماذا حقّقت اسرائيل؟ لا شيء». يذكّر الرئيس بأنه بعد هذه الحرب، قامت عدة بعثات أميركية قريبة من المواقف الاسرائيلية بزيارة دمشق. وفي ديسمبر 2006، دعت لجنة بايكر-هاملتون الى حوارٍ بين واشنطن ودمشق، وفي ابريل 2007، التقت السيدة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، الرئيس الأسد. وها هو يضيف: «لكن العقبة الكبيرة أمام السلام تتمثّل في الادارة الأميركية. انّها المرة الأولى التي توصي فيها ادارة أميركية اسرائيل بعدم السير نحو السلام».
الموعد ليس قريباً
يُدرك الرئيس الأسد أن موعد السلام ليس في القريب العاجل. ويذكّ.ر بأنّ الرأي العام الاسرائيلي، وفق استقصاءات الرأي، يعارض الانسحاب الكامل من الجولان. «بعد ثمانية أعوام من الشلل (عُلّقت المفاوضات عام 2000)، وبعد الحرب على لبنان وبعد الهجمات على سوريا، تبخّرت الثقة. ما نفعله في تركيا هو وضع النوايا الاسرائيلية على المحكّ. فنحن لا نثق بهم، ولا بدّ أن الأمر متبادل». بيد أن قصف اسرائيل لموقعٍ سوري – لاستخدام نوويّ بحسب تل أبيب – مطلع شهر سبتمبر 2007، لم يؤدّ. الى قطع الاتصالات بين الطرفين، وهنا يبدو الرئيس السوري مرتاحاَ: فقد قام فريق من الوكالة الدولية للطاقة الذريّة بزيارة الموقع المعنيّ، وهو مقتنع أنّه لن يجد أيّ دليل على نشاطٍ نوويّ سوريّ غير مشروع.
كيف السبيل لاعادة اطلاق مفاوضات مباشرة وجديّة بين اسرائيل وسوريا؟ «نريد التأكّد بأن الاسرائيليين جاهزون للانسحاب من كلّ الجولان، نريد أيضاً تحديد قواعد مشتركة للمفاوضات، أي قرارَي مجلس الأمن الدولي 242 و338، اضافةً الى الملفّات المطلوب التباحث حولها: الحدود، الأمن، المياه والعلاقات الثنائية».
الحاجة الى وسيط
ويدرك الرئيس السوريّ أن التفاوض بحاجةٍ الى تدخّل وسيطٍ صاحب نفوذ، الولايات المتحدة، ما يفتر.ض وصول رئيسٍ جديدٍ الى الحكم هناك مطلع العام 2009. لكن في الانتظار، يجب السير قدماً. فخلال المفاوضات بين حافظ الأسد وايهود باراك (الذي كان رئيساً للوزراء في حينه) عامَي 1999 و2000، تمّ تحقيق اختراقات عديدة حول الملفات الشائكة. «وكنت قد قلت انّ 80 في المائة من المشاكل كانت قد حُلَّت في حينه. أمّا اذا عُدنا الى نقطة الصفر، كما تريده اسرائيل اليوم، فسنضيّع مزيداً من الوقت. نحن نرغب أن تشجّع فرنسا وكذلك الاتحاد الأوروبي اسرائيل على قبول نتائج مفاوضات 1999-2000». وها هو يعبّر تكراراً عن أمله في أن تلعب فرنسا ويلعب الاتحاد الأوروبي دوراً مكمّلاً للولايات المتحدة. في حين يذكّر أنّه، باستثناء الارادة السورية في استرجاع كامل أراضي الجولان، يمكن دائماً التوصل الى تسويات. هكذا، حول قضية الأمن، طالبت اسرائيل بابقاء محطّة للانذار المبكر داخل الأراضي السورية، وهو مطلبٌ ترفضه سوريا كونها لا توافق على وجودٍ عسكريّ اسرائيلي فوق أراضيها. في النهاية توصّل الطرفان الى اتفاق: سيتسلّم عسكريّون أميركيون محطّة الانذار المبكر.
العلاقة مع إيران
يأمل العديد من المسؤولين الأميركيين وكذلك الفرنسيين والأوروبيين بأن تدفع المفاوضات السورية -الاسرائيلية دمشق الى قطع علاقاتها مع طهران. وهنا يجيب الرئيس بتأنٍّ، ويقول ضاحكاً: «كنّا معزولين من قبل الولايات المتحدة والأوروبيين، فدعمنا الايرانيون، فهل يجب أن أقول لهم: لا أريد دعمكم، أودّ البقاء معزولاً!». ثمّ يضيف بصورةٍ أكثر جديّةً: «لا حاجة لأن تكون جميع المواقف متطابقة من أجل اقامة علاقات. نحن نلتقي دورياً ونتناقش. ولا يسعى الايرانيون الى تعديل مواقفنا، فهم يحترموننا. نحن نتخذ قراراتنا بأنفسنا، كما في زمن الاتحاد السوفيتي». ويشدّد بالقول: «اذا كنتم حريصين على الاستقرار والسلام في المنطقة، فيجب اقامة علاقات جيّدة مع ايران».
الاستقرار الاقليمي والسلام ليسا هدفين بحدّ ذاتهما لكنّهما يخلقان، برأي الرئيس الأسد، اطاراً يسمح له بالتطرّق الى المشاكل الحقيقية. «أولويّتنا هو الفقر. فالفقراء لا تهمّهم تصريحاتك اليومية ومعرفة موقفك من هذا الشأن أو ذاك. هم يريدون اطعام أولادهم، يريدون المدارس والنظام الصحّي. لذا نحن بحاجة الى اصلاحات اقتصادية. من بعدها ستأتي الاصلاحات السياسية. يمكن للاثنتين أن تسيرا معاً، لكن الأولى يجب أن تكون أسرع».
الإصلاح
ارتفع معدّل النموّ في سوريا من 1 في المائة تقريباً عندما أصبح رئيساً الى 6،6 في المائة عام 2007. لكن هذا لا يكفي لاستيعاب مئات آلاف الشاب الوافدين سنوياً الى سوق العمل. ويؤكّد الرئيس أن الاصلاحات الليبرالية قيد الانجاز، وأن الانفتاح المصرفي كان مفيداً وأنّ الاستثمارات الخليجيّة لم تكن يوماً بهذا الحجم، كما يأمل باستثمارات فرنسيّة من لافارج وتوتال، وفي القطاع الكهربائي، الخ.
وماذا عن الاصلاح السياسي؟ يوضح الرئيس الأسد أنّنا واجهنا في الواقع تهديدَين: التطرّف الذي غذّته حرب العراق ومحاولة الزعزعة التي تلت اغتيال رفيق الحريري عام 2005. في تلك الفترة كنّا نعدّ قانوناً جديداً للأحزاب السياسية، لكنّنا اضطررنا لتأجيله. ومع رحيل الادارة الأميركية، «سيكون عام 2009 فرصةً لاطلاق اصلاحاتٍ سياسيةٍ جادّة، شرط ألاّ تقع أحداثٌ كبيرة في المنطقة، وأن يتوقف الكلام عن الحرب وأن يتراجع التطرف».
المعتقلون السياسيون
وماذا عن السجناء السياسيين؟ يضيف الرئيس: «تمّ اطلاق سراح المئات منهم قبل وبعد وصولي الى الرئاسة. ولدينا أكثر من ألف شخص معتقلين بتهمة الارهاب، فهل تريدوننا أن نطلق سراحهم؟». عندها بدأ حوار حول ميشال كيلو، المثقّف المعتقل في مايو 2006 والمحكوم بالسجن لمدة ثلاثة أعوام بتهمة «اضعاف الشعور الوطني». لم يدعُ يوماً الى استخدام العنف. يقول الرئيس: «لكنّه وقّع اعلاناً مشتركاً مع وليد جنبلاط (الزعيم الدرزي اللبناني) في الوقت الذي كان هذا الأخير يدعو الولايات المتحدة علناً، قبل عامين، الى اجتياح سوريا والتخلّص من النظام. فوفق قوانيننا، لقد تحوّل الى عدوّ واذا اجتمعت به ستذهب الى السجن. وكي يُطلَق سراح ميشال كيلو، المطلوب هو عفوٌ رئاسيّ، أنا مستعدٌّ لذلك ولكنّني أريده أن يعترف بخطئه، لأنّه كان مخطئاً. وهو يرفض ذلك. اذاً سيبقى في السجن». رأي الرئيس. وفي اشارةٍ الى الآمال التي عُقدَت على انتخابه عام 2000 وما سُمّي في حينه «ربيع دمشق» – وكان نوعاً من الانفراج السياسي ـ ها هو يتحدّث عن أوهام: «الأمر يشابه الشبّان الذين يودّون الزواج، ويعتقدون الزواج رائعاً. فتنتابهم مشاعرٌ قوية. ثم تأتي صدمة الحقيقة. اذ لا يمكننا تغيير الأمور في أسابيع» ويضيف: «عندما تلعب الشطرنج، لا يمكنك تغيير قواعد اللعبة، عليك احترامها». فهل لهذا السبب هو يؤكّد اليوم: «سنحتاج الى جيلٍ كاملٍ. للقيام باصلاحٍ حقيقيّ؟». من الواضح أنّه يتمرّس في مصاعب السلطة.
بعد استدعائه الى دمشق من قبل والده اثر وفاة شقيقه الأكبر باسل في حادث سير عام 1994، سيُمضي السيد بشّار الأسد الذي كان يتخصص في طبّ العيون في لندن، ستّ سنوات في ظلّ حافظ الأسد، دون أن يتولّى أيّ وظيفة رسمية. «لم يفعل الرئيس أيّ شيء من أجلي. لم يعيّني نائباً للرئيس ولا وزيراً أو رئيساً للحزب. أرادني أن أتدرّب بنفسي. لم أفكّر يوماً أن أكون رئيساً لكني كنت واثقاً أنّني سأشارك في الحياة العامة. ففي سوريا، يفعل الأبناء ما كان يفعله آباؤهم».
وعند وفاة والده، انتخب لخلافته. وقد جاء هذا الانتخاب برأيه لسببين. «لقد صوّت الناس لمصلحتي لأني نجل من حمل الاستقرار الى سوريا، وفي مجتمعنا لا يمكن للابن الاّ أن يكون على صورة والده. من جهة أخرى، كان يعرف البعض أنّ لي أفكاراً تحديثيّة، فقد كنت أدير الجمعيّة السوريّة للمعلوماتية، وأدخلت الانترنت والصحون اللاقطة للساتل، الخ. آخرون أيضاً صوّتوا لي دون أن يحبّوني، لأنّهم فضّلوني على الحرس القديم في الحزب».
كيف يرى مستقبل بلاده؟ يجيب بواقعية: «أنا لا أقود المركب وحدي؛ فهناك عدّة قادة له: أوروبيين، أميركيين، اذاً…».
المدير العام المساعد لـ «لوموند ديبلوماتيك»