تمرّد تحت المراقبة: الجريدة الكوبية “غرانما” تبدأ بنشر الرسائل الناقدة للنظام
نجم والي
بغض النظر عن كونها أهم الصحف التي تصدر في كوبا، إلا أن “غرانما” كانت خلال عمرها الطويل، البالغ 44 عاماً، مثيرة للاهتمام مثلما كانت البرافدا في الاتحاد السوفيتي. ومع انها قليلة عدد الصفحات، (ثماني صفحات فقط). “غرانما”، هي أكثر من صحيفة، ليس لأنها الصوت الرئيسي الناطق باسم الحزب الشيوعي الكوبي، بل لأنها حملت اسم المركب الذي أبحر به فيديل كاسترو ورفاقه ذات مرة إلى الجزيرة لكي يسيطروا عليها. المركب تحول إلى ما يشبه المتحف، يرسو على شواطئ الجزيرة دليلاً على قيادة الكوماندانتة لشراع الجزيرة صامداً منذ خمسين عاماً.
على الصفحة الأولى لصحيفة “غرانما” هناك دائماً مانشيتات لمواضيع يُراد منها إثارة الانتباه عن الناس في كوبا: “اختتام أعمال المؤتمر الخامس للجنة المركزية للحزب الشيوعي”، إلى جانب شعارات تحمل رسائل أخلاقية زينت الجزء الأعلى من الصحيفة: “الإنسان ينمو مع العمل الذي ينشأ من يديه”. طبعاً يجب ألا ننسى بأن أكثر كتاب الجريدة شهرة هو الآن قعيد الفراش منذ وقت ليس قصيراً: الكوماندانته فيديل كاسترو، الذي يخص الجريدة بعمود أسبوعي حمل عنوان “أفكار الرفيق فيديل”، والذي موضوعه الرئيسي انحطاط الثقافة الغربية وعدوانيتها. في أحد الأعمدة تلك أعلن القائد الأقدم لإستقالته أيضاً. كل ذلك كان طبيعياً، لكن الجديد الذي تحمله الجريدة هذه المرة هو أنها بدأت منذ ثلاثة شهور تقريباً بقيادة حملة للنقد “البناء” مرة واحدة في الأسبوع تحت باب جديد “متمرد” أسمه: رسائل القراء.
بترتيب ثابت، وكل يوم جمعة سُمح للكوبيين أخيراً بالتفريغ عن غضبهم وعدم ارتياحهم من الواقع الموجود عندهم. أحد القراء (ج.ل. كوستا أوكستا) يشير بتعبير غاضب مثلاً، إلى أنه لا يفهم كيف أن محلات بيع لا تتوفر فيها الأكياس البلاستيكية ستستطيع مواصلة البيع بشكل جيد! قارئ آخر (خ.م. بوردون) ينفعل، بسبب عدم وجود عملة صغيرة (فكة) في الباصات، في المحلات وفي المطاعم، إذ يبدو أن العملات المعدنية الصغيرة تنتهي إلى جيوب الموظفين الصغار المرتشين. وهذا إذا ما دلّ على شيء، حسب رأي القارئ الغيور، فإنما “يدل على استغلال الجماهير وابتزازها، وعلى سلوك ضعيف للنفس، سلوك مرتش وغير شرعي”. قراء آخرون يذهبون بنقدهم قائلين، بأن في كوبا يكسب الطبيب بشكل واضح أكثر مما يكسب أي عامل (الفارق دولار تقريباً في الشهر!)، أو أن ضعف العملة يختفي، لأن البيزو المستخدم في العملة الصعبة هو 24 ضعف البيزو العادي، بأن الإنتاج المنخفض له علاقة بالرواتب الحكومية، “الراتب القليل يقود حتماً إلى أن يصبح الناس غير متحمسين للعمل”..
المنبر، رسائل القراء، تحول بهذا الشكل إلى صمام رقيق لكي يفرغ القراء غضبهم فيه، نموذج للتفهم الذي بدأ أصحاب السلطة يلوحون به. إنه بكلمة أخرى نوع، ولو بسيط، من الاستجابة لنسيم التغير الذي بدأ يُسمح حفيفه في كوبا في الشهور الأخيرة منذ أن تسلم الأخ الأصغر لكاسترو السلطة، راؤول كاسترو، أو على الأقل منذ أن بدأ يقود الشيوعيين إلى الواجهة. بالذات مع هذا التاريخ أصبح مسموحاً بيع التلفون الجوال والكومبيوتر، رغم أن الأسعار المرتفعة للأجهزة الحديثة ستمنع العديد من الناس اقتناءها، وبالتالي ستصبح في متناول أيدي قليلة في كوبا، في أيدي الأقلية التي تستطيع شراءها. فضلاً عن ذلك انطلقت الأصوات بمطالبة أعضاء الحزب الحاكم “الرفاق” بتحمل مسؤوليتهم بشكل جدي، ومراجعة العديد من القيم والمبادئ التي تعرضت للصدأ طوال عمر تاريخ الثورة الكوبية. لكن رغم ذلك من الخطأ الحديث في هذا السياق عن سياسة انفتاح أو شفافية ديموقراطية في كوبا كما حدث في زمن البيرسترويكا في الاتحاد السوفيتي السابق، أو في البلدان الاشتراكية السابقة قبل سقوط جدار برلين. فمن الصعب على أحد في كوبا زعزعت عرش أولئك الجالسين على كراسي الحكم منذ عقود، أولئك الموظفين الحزبيين الذين يساندون بعضهم البعض عن طريق جهاز بيروقراطي حزبي “مرعب”. أقل من ذلك بكثير تستطيع أن تقوم به رسائل القراء تلك في “غرانما”.
كل شيء يشير إلى أن القضية هي مجرد قضية شكلية ودعائية، تريد الإيحاء بتبني الحكومة والجهات الرسمية بما فيها جهاز الحزب الشيوعي للنقد “البناء”. وهذا ما تقوله كل التعليقات التي تقوم بها الجريدة على الرسائل. فمثلاً عندما يبث أحد القراء الشكوى التالية باتت واضحة بين الناس: “شخص أعمى فقط يستطيع ألا يرى بأن منذ قدوم الدولار للجزيرة أن الفوارق الواضحة وبأن الذين يتمتعون بارتفاع مستوى المعيشة هذا، هم لم يستحقوا ذلك بل انهم لم يخدموا مجتمعنا”، (كما كتب في 23 أيار القارئ آ. بيريز بيريز)، المرء يصطدم بعفوية صلدة، ورغبة قليلة بالعمل”، تعلق الصحيفة على ذلك، كيف أنها ترى “بحزن”، كيف يرى “الثوري الشاب”، واقع الثورة الذي تشكل عندنا يومياً!
من لا يشعر بأنه ثوري، من يشك بمبادئ “الثورة” الاشتراكية، عليه أن يبحث عن طرق خاصة به للتعبير. مواطنون تختلف طريقتهم في التفكير عن تفكير الرفاق في الحزب، لا يجدون فرصة بالتعبير عن آرائهم في وسائل الإعلام الكوبية الرسمية طبعاً. ذلك ما جعل المواطنة الكوبية يواني سانشيس، 33 عاماً، تواظب على نشر انطباعاتها وملاحظاتها باللغة الإسبانية وبالإنكليزية والفرنسية في شبكات غير محدودة في الانترنيت، على ويب سايت .ٌَُّىكفْمَمه/ٍُك.فقِّكملَّمل.ٌٌٌّّّ : تُقرأ تلك الصفحة وبسبب الرقابة فقط من قبل قراء قليلين، على عكس ما حدث خارج الجزيرة، إذ حوّل “البلوغ” يواني سانشيس إلى نجمة عالمية، لدرجة أنها حصلت في العام الحالي على جائزة الصحافة المشهورة أورتيغا وكاسيت الإسبانية، لكنها رغم ذلك لم تستطع حضور حفل تسلم الجائزة. إذ، لم تسمح لها السلطات الكوبية بالسفر إلى مدريد. مجلة التايمز عدتها واحدة من المائة شخصية المؤثرة في العالم. في مقالاتها الأولى تعجبت الفائزة من الباصات ذات الطابقين التي تحمل السواح الذين يأتون لزيارة هافانا في الأعوام الأخيرة، والتي تثبت لها دائماً، كيف أن إلى جانب ارتفاع الأجور سترتفع أسعار المواد الغذائية وإيجارات البيوت.
مقالات مثل هذه يُعلق عليها من قبل المئات إلى الآلاف. “لا يستطيع المرء تغيير أو إصلاح نظام مريض بأجمعه”، كما قالت يواني لجريدة البايس الإسبانية. جريدة “غرانما” لم تذكرها حتى الآن بكلمة واحدة، حتى عندما تسلمت الجائزة، فكيف ستقوم بنشر شكوى مثل هذه في بريد قرائها.
المستقبل