صفحات سورية

نكتة امريكية!

null
الياس خوري
سجلوا هذا التاريخ في مفكراتكم الشخصية. يوم الثلثاء الأول من تموز(يوليو) 2008، اصدر الرئيس الامريكي جورج بوش امرا رئاسيا رسميا برفع اسم الرئيس الافريقي الجنوبي السابق نلسون مانديللا واسماء زعماء حزب المؤتمر الوطني الافريقي الجنوبي الحاكم من قائمة الارهاب!
مبروك لمانديللا، الآن صار في وسع الزعيم الافريقي الاسطوري، الذي امضي نصف عمره في سجون التمييز العنصري، الذي صنعته واحدة من ابشع التجارب الكولونيالية في تاريخ العالم المعاصر، ان يتنفس الصعداء، كما تقول العرب، وان يشعر بالراحة، لأن السيد بوش، بطل سجن ابو غريب، ومؤسس سجن غوانتامانو اعطاه شهادة في انه انسان وليس مجرد ارهابي يجوز قتله وسجنه واستباحة بلاده.
شكرا ايها البوش الرائع، فمانديللا صار عجوزا، ويستحق عطفك وتسامحك وغفرانك، وهو اليوم يشعر بسعادة غامرة، لأن سيد السادة البيض، وامبراطور العالم عفا عن سيئاته، وغفر له، واخرجه من لائحة محاكم التفتيش الأمريكية التي تمتلك وحدها الحق المطلق في تصنيف الخلق، واعطائهم شهادات في انتمائهم الي النوع الانساني.
اليوم صار في استطاعة مانديللا ان ينام، فالرجل التسعيني، الذي صار نموذجا للبطولة والنبل الأخلاقي، كان مصابا بالأرق. اذ كيف يستطيع المرء ان ينام، حين يكون مصنفا في خانة الارهابيين الاشرار من سيدة العالم، ومغضوبا عليه من سيد السيدة بالذات، جورج دبليو بوش، الذي يكلمه الله ويأمره بقتل الاشرار وغزو بلادهم.
علم 1994 سقط نظام التمييز العنصري في جنوبي افريقيا، وانتخب نلسون مانديللا رئيسا للبلاد، وسط فرح عمّ العالم بأسره. غير ان السيد الأمريكي كان يمتلك رأياً آخر.
نظام التمييز العنصري، الذي لا يماثله شيء في عالمنا المعاصر، سوي نظام الاحتلال الاسرائيلي ودولته العنصرية، سقط منذ اربعة عشر عاما. المستعمرون البيض الذين اذاقوا سكان البلاد الأصليين الهوان، اقتنعوا او وجدوا انفسهم مضطرين الي الاقتناع بأن نظامهم كان وحشيا ولا انسانيا، وان عدوهم السجين ومناضلي حزبه كانوا مقاتلين من اجل الحرية ولم يكونوا ارهابيين، فتفاوضوا مع القائد السجين، ووافقوا علي انهاء نظام حكمهم العنصري.
قبل ان ينتصر مانديللا سياسيا، انتصر اخلاقيا. قدم هذا المناضل الافريقي العظيم نموذجا اخلاقيا بديلا للنظام العنصري اللاخلاقي، فحقق حزب المؤتمر انتصاره ليس عبر الكفاح المسلح والنضال الجماهيري فقط، بل اساسا عبر التفوق الأخلاقي. فمعركة الحرية والمساواة والعدالة في العالم ليست مجرد معركة سياسية وعسكرية، انها اولا معركة اخلاقية. انتصر حزب المؤتمر اخلاقيا وثقافيا، لأنه لم يكن ردة فعل عنصرية علي العنصرية البيضاء، بل كان مشروعا انسانيا يدعو الي العدالة والمساواة، رافضا التمييز العنصري الذي صار شكلا جديدا للعبودية والاستعباد.
لكن سيدة العالم وحاملة لواء الحرية، كان لها رأي آخر. وهنا يجب ان يعترف الاسرائيليون بالتفوق اللغوي الامريكي علي الأقل. اذ بينما لم يجد الاسرائيليون سوي كلمة باهتة ومسطحة لوصف اعدائهم هي كلمة المخربين، استنبطت الآلة الأمريكية كلمة اكثر حيوية هي كلمة الارهاب والارهابيين. الفرق ليس لغويا فقط، انه فرق ابداعي، فان يصف الاسرائيليون كمال عدوان بالمخرب، ليس سوي دليل علي العجز والتفاهة والاعتداد المرضي بالنفس. فالمخرب لا يخيف، لأن اسرائيل لا تخاف ضحاياها، او هكذا اوحت لنفسها! اما كلمة الارهابي فانها تغذي مخزون الخوف، من اجل ان تدفع المجتمع الي الانخراط في كذبة الدفاع عن الديموقراطية، ولو ادي ذلك الي وسم قامة تاريخية من حجم نلسون مانديللا بالارهاب!
لكن التفوق الامريكي علي الاسرائيليين، لم يستطع ان يتحول تفوقا سياسيا الا لأن الولايات المتحدة هي اكبر قوة عسكرية في العالم. لكن للقوة حدودا، وكان يكفي اجتماع القوة الي الغباء الاستثنائي لجورج بوش كي تنكشف حدود القوة، ويتهاوي الخطاب الامريكي امام صور العراة في ابوغريب وامام وحشية القمع المجاني والانتقامي في غوانتانامو.
ومع ذلك، اعلنت السيدة كونداليسا رايس اول امس انها فخورة بالاجتياح الامريكي للعراق، وان الوضع في الشرق الاوسط قد تحسن منذ وصول جورج بوش الي البيت الأبيض.
السيدة رايس حرة في ان تفتخر بما تشاء، وفي ان تواصل الولاء حتي النهاية التي باتت قريبة، اما ان يكون الشرق الاوسط قد تحسن، فتلك حكاية اخري تدعو الي الشفقة، لأن قياس التحسن في عرف السيدة رايس هو قياس كمي مرتبط بأعداد القتلي والمهجرين العراقيين، الذي فاق كل التوقعات المتشائمة، كما انه مرتبط بمنطقة صارت علي حافة البركان، وباستمرار الاستيطان الاسرائيلي وقمع الفلسطينيين واذلالهم.
دروس الاخلاق تأتينا من هؤلاء ايها الناس. السيد بوش لم يرفع اسم مروان البرغوثي عن قائمة الارهاب، ولن يرفعه، ولا نريد ان يرفعه. البرغوثي وسعادات ورفاقهما هم من يمتلكون التفوق الاخلاقي ولا حاجة لهم بمجرم حرب كي يعرفوا انهم سجناء من اجل الحرية والعدالة، وان سجانهم قاتل وسفاح، ولا يمتلك الحق في ان يكون في مجالس المدافعين عن القيم الانسانية.
قرار بوش ليس سوي مزاح سمج يليق برجل وصل بالمصادفة التزويرية الي البيت الأبيض، ولوث سمعة بلاده في الوحل والدم، وقاده الهوس الي تخيل نفسه ناطقا باسم الله.
لكن هذا القرار يشير الي الدرك الذي وصلت اليه الكلمات، والي الانهيار الاخلاقي الذي يهدد القيم الانسانية.
انها نكتة سمجة تكشف الجريمة التي تختبئ خلفها.
القدس العربي
08/07/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى