الاتحاد من أجل المتوسط والبحث عن دور جديد لأوروبا
ماجد كيّالي
منذ مطلع التسعينيات، وتبدل العلاقات الدولية مع انتهاء الاتحاد السوفياتي، وانهيار عالم الحرب الباردة، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي الجديد، بدأت أوروبا تهيّئ ذاتها للعب دور أكبر في المجال الدولي، يتناسب مع قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والمالية. لكن أوروبا هذه استهلكت معظم جهودها في هضم أو إدماج أوروبا الشرقية وتعزيز الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك فإن الدول الأوروبية حاولت أن تستثمر أيضاً في عملية السلام التي انطلقت من مؤتمر مدريد 1991، حيث منحت دعمها لعملية التنمية والتعاون الاقتصادي، بين العرب واسرائيل، وفي التشجيع على الاصلاح الاقتصادي والسياسي في المنطقة، عبر التعاون الثنائي مع الدول العربية، وفي اطار الشراكة الأورومتوسطية (الأوروميد 1995)، كما في اطار المفاوضات متعددة الطرف، ومؤتمرات القمة الشرق أوسطية، وفي مجال مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، وكلها انطلقت بعيد بدء عملية السلام بين العرب واسرائيل من مؤتمر مدريد (أواخر 1991)، في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.
أما في عهد إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، فبدا وكأن ثمة افتراقا بين السياسة الأميركية والأوروبية، حيث عارضت غالبية الدول الأوروبية سياسة هذه الإدارة، وظلت تميل لحل الصراع العربي ـ الاسرائيلي لتسيير المشروعات الاقتصادية والسياسية، وتحقيق الاستقرار والازدهار في المنطقة، على خلاف الإدارة الأميركية التي استهترت بهذه الأولوية. كذلك، فإن دول الاتحاد الأوروبي فضلت دوماً نوعاً من شراكة مع حكومات ومجتمعات المنطقة لإدخال اصلاحات سياسية تدريجية فيها، وهو ما تمثل بقرارات قمة الدول الثماني في جورجيا بالولايات المتحدة 2004، بشأن إقامة “شرق أوسط كبير” أو موسع. في حين ان مشروع إدارة بوش هذا كان يتأسس على فرض الديمقراطية بالقوة والاكراه، وبالتدخل في مجتمعات هذه الدول، بمعزل عن التعاون مع حكوماتها.
هكذا، فإن جهود أوروبا في عهد إدارة بوش، وعلى خلاف إدارة كلينتون، واجهت صداً، وعراقيل، من قبل الطرفين: الاسرائيلي والأميركي، ولذلك فهي بدت مجرد جهود قاصرة ومحدودة التأثير، في مجال حل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وفي مجال ترتيب الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة العربية.
فقد ناهضت اسرائيل أي دور سياسي لأوروبا، وإن ظلت ترحب بدورها الاقتصادي أو المالي الداعم لعملية السلام بدعوى انحياز أوروبا للعرب، واتهامها بنزعة اللاسامية (بحكم رفضها سياسات اسرائيل الاحتلالية والعدوانية).
أما الولايات المتحدة، في ظل هيمنة “المحافظين الجدد” على سياستها الخارجية، فباتت تعتقد ان بإمكانها، بقوتها العسكرية والمالية والتكنولوجية والاقتصادية، إدارة العالم على هواها، بحسب أولوياتها ومصالحها وقيمها، من دون شركاء آخرين، لتكريس هيمنتها كقطب أوحد على العالم، خصوصاً ان سياستها التقليدية ترتكز على احتكار الهيمنة على هذه المنطقة، وعدم السماح لقوة دولية أخرى منافستها فيها. وكان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي (السابق) اطلق على أوروبا وصف “القارة القديمة” أو “القارة العجوز” لمعارضتها السياسات الأميركية الأحادية في العالم. وصنف المحافظون الجدد، وضمنهم ريتشارد بيرل، فرنسا وألمانيا في قائمة الأعداء. أما روبرت كاغان (من منظري المحافظين الجدد) فاعتبر أن طابع أوروبا المسالم دلالة على هرمها وتعبها وكسلها، تأكيداً منه ان ثمة فارقا بين أوروبا “الكانطية” هذه التي تعتمد المهادنة والتفاهم والتعاون الدولي، والولايات المتحدة “الهوبزية” التي تتبنى القوة لفرض ارادتها وسياساتها باعتبارها تمثل الخير للعالم.
بديهي ان التمايزات بين الجانبين الأوروبي والأميركي هي بمثابة تحصيل حاصل لمستوى التطور التاريخي، الثقافي والسياسي والاقتصادي، لكل منهما، كما للتنافس بينهما على المصالح، وعلى مسارات “العولمة”، فضلاً عن ان علاقة أوروبا التاريخية بالعرب تتيح لها ادراكاً أصوب لطبيعتهم وتفهماً أفضل لحساسيتهم. ولا شك أن تجاور أوروبا مع المنطقة، وتأثرها بمشكلاتها الأمنية والسياسية والاجتماعية والبيئية عبر موجات الحروب والإرهاب والهجرات يفرض عليها أن تكون أكثر حرصاً علي اختيار الصيغ التي تدعم الاستقرار فيها.
لكن على رغم كل ما تقدم فإنه لا ينبغي المبالغة بهذه الخلافات أو التعارضات، وإن كان ينبغي العمل على حسن استثمارها. ففي حقيقة الأمر فإن العرب يواجهون اليوم نوعاً من التوافق الدولي (الأوروبي ـ الأميركي)، بشأن التدخل بشؤونهم لاصلاح أوضاعهم، وهذا التوافق حصل بدفع من حدث 11 أيلول 2001، وازدياد مخاطر العمليات الإرهابية في العالم، وبسبب ازدياد موجات الهجرة لأوروبا، ولعل هذا ما يفسر الحديث عن شراكة دولية (تحديداً بين أوروبا والولايات المتحدة) مكرسة لاصلاح الشرق الأوسط.
السؤال الآن، ليس اذا كانت الولايات المتحدة ستسمح بهذا المسار أم لا (على أهمية ذلك)، وإنما السؤال هنا كما في كل مرة، يتعلق بهذا الغياب، وهذه العطالة، بشأن مشاريع التعاون والتكامل والتوحد على الصعيد العربي. فمن الواضح ان عدم قدرة العرب على التكامل أو الاندماج البيئي، للاستجابة لحاجات تطورهم الداخلي، وللتكيف مع مسارات العولمة، ستحلها عملية الاندماج مع الآخرين. ولعل من مفارقات القدر ان أوروبا التي ساهمت بتجزئة العرب، ستقوم ربما بالتكفير عن ذنبها، عبر اعادة صوغ “وحدتهم”!.
المستقبل