رياض نجيب الريس: مشاكس… مع وقف التنفيذ!
حسين بن حمزة
في الطابق الرابع من بناية «الأونيون» المطلة على جنينة الصنائع، يجلس رياض نجيب الريس كطائر مقصوص الجناحين على مكتبه في دار النشر التي تحمل اسمه. فهو منذ مدة بلا أي منبر صحافي يكتب فيه، وبلا مشروع صحافي خاص يُديره بنفسه بعد توقف آخر مشاريعه، مجلة «النقاد» عام 2003: «أنا رهين المحبسين» يقول ضاحكاً من دون أن ينجح في إخفاء الأسى الذي في ملامحه.
الصحافي المشاكس الذي كتب في صحف ومجلات أصدرها بنفسه، وفي صحف ومجلات عربية عدّة، كُتب عليه أن يُغمد قلمه اللاذع ويكتفي بكونه ناشراً فقط. «أنا منبوذ من كل الصحافة العربية اليوم. بعد تجربتي في صحف عدّة، كان آخرها «النهار» و«السفير»، صار عليّ حظر. يقولون إن اسمي يسبّب الصداع. التصقت بي صفة الكاتب المشاكس. إنهم يرفضون أن أكتب قبل أن يعرفوا ماذا سأكتب». يعيد الريس السبب إلى الارتباطات السياسية لمعظم الصحف العربية: «في السابق كانت الجهة الداعمة أو الممولة تقول افعلوا ما يحلو لكم، لكن لا تهاجموني. اليوم تفرض الجهات نفسها لائحتها السوداء، وتطلب استبعاد أسماء معينة. المناخ الإعلامي العربي تغيّر كثيراً. هناك اليوم خنوع صحافي. أسهل شيء صار التضحية بالكتّاب، في سبيل ضمان الدعم المالي». نقول له إنّ ثمة كلاماً كثيراً عن تلقّيه هو شخصياً دعماً من جهات خليجية. فيسارع إلى التوضيح: «أنا أول من ذهب إلى الخليج العربي. كانت أرضاً بكراً. أنا لا أدّعي العفة. كانت لدي صداقات في عمان والكويت والبحرين. لكني لم أمنع أحداً من الكتابة في المنابر التي كنت مسؤولاً عنها، وكانت تلك المنابر أحياناً ممنوعة من دخول بعض البلدان الداعمة».
رياض نجيب الريس خُلق ليعمل في الصحافة. كتب الرجل الشعر. أصدر ديوانين. كتب نقداً أدبياً. كان عضواً في تحرير مجلة «شعر». معظم أصدقائه كانوا شعراء ونقاداً. ولكن كل ذلك لم يحجب شغفه الأساسي. حتى حين أصدر مجلة «الناقد»، فعل ذلك كمن يصدر جريدة مخبأة في مجلة. جريدة بترخيص مجلة. «أنا صَحْفنتُ الثقافة. الثقافة لم تكن مثلي الأعلى يوماً. لم أكن سهيل إدريس أو طه حسين. الفرق بيني وبين أصحاب المجلات الأدبية أنّهم أنصاف آلهة، في حين أني رجل عادي. أقبل وأرفض وليس لدي من مقدس يسبق النشر. كانت فكرتي تتمثل في تقريب المادة الثقافية إلى قارئ الصحيفة اليومية. في «النقاد»، جربت أن أجعل المجلة أكثر صحافة من الجريدة نفسها. عملت منها مجلة «أرتيستات ثقافة» شبيهة بالمجلات الفنية التي تكتب عن المغنين والراقصات».
يوقِّع الريس باسمه الثلاثي كأنّما يصنع حياة متخيلة لوالده نجيب الريس صاحب جريدة «القبس» السورية الشهيرة، يوم كانت الصحافة في سوريا مستقلة. كان نجيب الريس صحافياً ومناضلاً. وبسبب ذلك سُجن وأُغلقت «القبس» أكثر من مرة. في سجن «أرواد» كتب والده النشيد الشهير الذي ذاع على الألسنة، كما لو أنه نشيد عربي شامل: «يا ظلام السجن خيِّم/ إننا نهوى الظلاما/ ليس بعد اليوم إلاّ/ فجر مجد يتسامى». سمّاه والده رياض تيمناً برئيس حكومة الاستقلال الأولى في لبنان رياض الصلح. أرسله إلى لبنان ليدرس في مدرسة برمّانا العالية، لأنه لم يقبل على نفسه، هو المناضل ضد الانتداب الفرنسي لبلده، أن يدرس ابنه في مدرسة فرنسية.
سيرة «القبس» وإرث الأب أشبه بتراجيديا شكسبيرية في حياة رياض الريس. عندما توفي والده سنة 1952 كان هو في الرابعة عشرة من عمره. أدارت والدته الجريدة بمساعدة مسؤولي التحرير فيها. وحين أُغلقت نهائياً إثر تأميم الصحافة السورية أيام الوحدة مع مصر، كان رياض طالباً في كامبريدج. في المرتين لم يكن مهيّأً لأن يتسلم الدفّة. في الأولى كان صغيراً، وفي الثانية كان ممنوعاً عليه ذلك.
على الحائط علّق نسخة من لافتة تشير إلى شارع باسم والده في دمشق: «لا أزال أحمل عقدة الأب وعقدة «القبس». الناس كلهم ينتظرون مني أن أعيد إصدارها». في عام 2000، جرّب أن يطرق أبواب دمشق، عارضاً على المسؤولين فكرة إصدار «القبس» من دمشق وبيروت. «جريدة واحدة لشعبين». يقول ضاحكاً إنه رأى في ذلك أفضل ترجمة لعبارة «شعب واحد في بلدين». رُفض المشروع، ودُفنت فكرة إحياء جريدة الأب إلى الأبد: «لدي ألم خاص بالنسبة إلى دمشق. وهو أني حُرمت من إمكان العمل الصحافي فيها. إضافة إلى أنّي لا أستطيع أن أكون ناشراً فيها أيضاً. أنا أعيش حصاراً فعلياً. أنا محظور من الكتابة في بيروت اليوم، وفي الوقت نفسه، لا أستطيع أن أعمل في دمشق».
لبيروت مكانة خاصة في حياة الريس. لقد عاش فيها أكثر من أي مدينة أخرى. معظم صداقاته نشأت وتطورت هنا. يتذكر صخب الستينيات. مقاهي الحمرا ورأس بيروت. يتذكر يوسف الخال والجائزة التي منحها باسمه. جبرا إبراهيم جبرا. توفيق صايغ الذي عمل معه في مجلة «حوار». كامل مروة مؤسس «الحياة» الذي وفّر له فرصة العمل مراسلاً صحافياً في فيتنام عام 1966، وهي التجربة التي أكملها مع غسان تويني في «النهار».
في الحرب الأهلية، ذهب رياض إلى لندن. وفي عام 1977، أصدر جريدة «المنار». وكانت أول جريدة عربية تصدر في أوروبا. ثم أسس «شركة رياض الريس للكتب والنشر» سنة 1986. وما إن هدأت الأوضاع، حتّى نقل عمله إلى بيروت، المدينة التي راهن عليها دوماً. وبعد عشرين سنة على عودته، يخامره شعور بالندم: «فشلت في تحقيق مشروعي الصحافي. فشلت في أن يكون لي دور ككاتب مؤثر في الصحافة اللبنانية. نجحت جزئياً كناشر. لكن هذا لا يرضيني. أنا صحافي. النشر هو وسيلة لتأمين العيش. هذا ندم مهني. ندمي الشخصي أكثر مرارة بكثير. لقد عدت إلى بيروت بحنين عاشق لامرأة تركها ربع قرن، ظانّاً أن الزمن لم يغيّرها. رغم الصدمة، حاولت أن أغفر لها. ثم اكتشفت أن التغيّر أكبر من لهفتي وحنيني».
اليوم، يشعر الريس بغربة متزايدة. رغم حبه لبيروت. يفكر أحياناً لو أنّه صرف كل هذا الجهد والمال والمشاريع في دمشق، لكانت أرضها ــــ ربّما ــــ أكثر خصوبة واعترافاً ووفاءً. قضى الرجل معظم حياته في لبنان. لم يعد سورياً. لكنه ــــ في المقابل ـــ لم يصبح لبنانياً.
الاخبار