تَغيُّر العالم وثبوت المبادئ
حسام عيتاني
يحتقر أصحاب الايديولوجيات الخلاصية تبديل القناعات. عندهم ان اليقين الذي بلغوه لا يدع مجالا للشك ولا لإعمال العقل خارج دائرة بناء اليوتوبيات وتمهيد الطرق المفضية اليها. غير ان التاريخ البشري يمكن النظر اليه كمتوالية لاخفاقات اليوتوبيا وانقلاب كل مشروع من مشاريعها جحيما ارضيا.
لا يكفي هذا لاقناع الايديولوجي الحالي بمدى شبهه بالايديولوجي السابق. واذا كان اختلاف النماذج يحول دون بناء قوانين اجتماعية علمية، بمعنى صحة تطبيقها في كل زمان ومكان ومجتمع، فهذا، بدوره، يبدو اقرب برهان على استحالة استنباط قوانين »علمية« للوصول الى اليوتوبيا مرورا بالايديولوجيا.
كل تارك لولائه العقيدي، في نظر أترابه، »متساقط« او متخاذل او يعاني تشوها بورجوازيا او إلحاديا او دينيا في الوعي. نبذ التارك ايمانه وولائه اسهل من اعادة النظر في الحقائق اليقينية. هكذا تعلم التجربة التي لا تحتكرها عقيدة واحدة.
النبذ يصبح تشهيرا وقتلا في حالات احتدام الصراع الذي تخوضه الفئة المؤدلجة ضد خصومها. ويصبح التارك هدفا يحل اضطهاده وتعريضه لكافة صنوف النفي من الجماعة غير القادرة على تحمل ترف النقاشات والتشكيك في المسلمات فيما الدماء تسفك وتبرز حاجة الفئة المؤدلجة الى عناصر اللُحمة والانضباط الداخلي. يصح هذا الوصف على الايديولوجيات عموما ويصح خصوصا على تلك التي تحمل منطلقاتها برما بالاختلاف وتبخيسا »لحقائق« الآخرين وبالشك اذا لم تكن نهايته توكيدا على اليقين، وفق المنهج الديكارتي او الغزالي.
في عالمنا العربي يتعرض كتاب وسياسيون لحملات تضعهم في خانة العمالة والخيانة لارتكابهم خطيئة تغيير الموقف من »مع« الى »ضد«. ليس المقصود هنا، طبعا، الدفاع عن سياسيين يفقهون وحدهم اسباب التغييرات التي يدخلونها على مواقفهم في منأى عن المساءلة العامة والنقاش الصريح للكيفية التي بنيت عليها المواقف السابقة والدوافع التي حتمت تغييرها، بل المعني بهذا الكلام التشديد على حق السياسي والكاتب الذي يؤدي دورا يفترض ان يكون مهما في الحياة العامة لمجتمعه، في اعادة النظر في آرائه ومواقفه السابقة وتقديم نقد لها. بكلمات اخرى، ان تغيير القناعات ليس جريمة تستدعي استنفارا قبليا للرد على من جنح خارج سرب المسلمين بما تراه الجماعة وتؤمن به، او هكذا على الاقل ما يجب ان تكون الحال عليه في العلاقة بين الفرد السياسي او المثقف، والجماعة في الالفية الثالثة.
ما يساند هذا الكلام ويمنحه قدرا من الصواب هو وتيرة التغيرات التي تشهدها المجتمعات العربية وطبيعة الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تعتمل في داخل كل منها، من جهة، والتحولات في طبيعة الصراعات التي ترى كتل رئيسة من المواطنين العرب موزعة على العديد من الدول انها معنية بها (الصراع العربي الاسرائيلي، احتلال العراق…).
محال امام هذا الكم الهائل من التبدلات في البنى الاجتماعية والعوامل المؤثرة في الثقافة والاقتصاد على المستويات المحلية والعالمية، الركون الى نمط واحد من التفكير والتحليل ومحضه ثقة عمياء في القدرة على الوصول الى يقين مطلق. بطبيعة الحال يتعين، في المقابل، الحذر حيال الوقوع امام نسبوية كاملة تمحو الفوارق بين القضايا والخيارات وتحيل الحياة البشرية الى ركام من المادة والزمن يخلو من المعنى.
السؤال المطروح في هذا السياق: هل يمكن فهم الصراع العربي ـ الاسرائيلي اليوم (على سبيل المثال) بالوسائل ذاتها والادوات المعرفية نفسها التي استخدمها العرب في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن العشرين عند مقاربتهم لاتساع الاستيطان اليهودي ومن ثم قيام دولة اسرائيل؟ الاجابة العربية المتوقعة والمعممة هي »نعم، طالما ان الصراع هذا يقوم على قسمة واضحة بين المعتدي والمعتدى عليه«. مقاربة اقل تأثرا بالعواطف وباشكال التكفير النمطية تفترض ان العالم والعرب واسرائيل والفلسطينيين اليوم، هي كيانات تكاد لا تشبه في شيء ما كانت عليه قبل ستين او سبعين عاما. عليه، فإن السياقات التي وضعت الكيانات هذه في حال تصادم بين بعضها قد تغيرت تماما كما تغير كل واحد من الكيانات المذكورة. لذا، تبدو محاولة تجميد الصورة وتبسيطها، عملا يفتقر ليس الى كفاءة التكيف والتطور الداخلي والارتقاء الى مستوى تطور الصراع، بل يفتقر الى النزاهة الأخلاقية والسياسية بإغفاله الاسباب العميقة التي تكرس حالة الفوات العربي العام في عالم لا يعنيه منح علامات استلحاق للتلامذة الراسبين.
وما الافراط في انكار نواقص الذات والتركيز على مثالب الآخر ورفض الحق في تبني مواقف قابلة للتطور ومفتوحة على التغير المرتبط بتغير الواقع، سوى دليل آخر على طفولية وانانية لا تبارحان السياسة والثقافة والاعلام في العالم العربي. وإذا كان الكون قابلا للتطور والتغير، فإن ذلك لا يعني، وفق السائد لدينا، ان تكون المبادئ المستلة من ايديولوجيات اسيئت ترجمتها وفهمها (بما فيها الايديولوجيا الدينية)، قابلة للتغير والتبدل.
السفير