وصول الإسلاميين للسلطة ليس نهاية التاريخ
جورج كتن
خاص – صفحات سورية –
2006 / 4 / 15
وليد مبيض – جورج كتن
تمر قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية بمرحلة جديدة انتقلت فيها من دورها في المعارضة الذي مارسته بوسائل عنيفة غالباً, إلى دور المشاركة في المجالس المنتخبة في الأردن والكويت والبحرين واليمن ولبنان…وفي مصر حصل الإخوان المسلمون على خمس مقاعد المجلس, وفي فلسطين نالت حماس الأغلبية في التشريعي وشكلت الحكومة الجديدة وحدها, وفي العراق حصلت الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية على ثلثي مقاعد البرلمان, وسبق ذلك استخدام القوة العسكرية لمنع جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية من الوصول للسلطة بعد أن حصدت أوائل التسعينيات ثلاثة أرباع أصوات الناخبين.
رغم أن الإسلام السياسي يجمع تلاوين متعددة متعارضة, إلا أن عوامل وأسباب مشتركة أدت لانتشاره, فهو يعمل في مجتمعات متخلفة لم تخرج قطاعات واسعة منها بعد من مفاهيم القرون الوسطى, وفي أفضل تقدير من مفاهيم العقود الأخيرة للخلافة العثمانية, فالغالبية تأخذ بقشور الحضارة الحديثة وتستهلك منتجاتها, ولكنها ترفض مفاهيمها السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية المعاصرة المتعارضة مع موروثاتها القديمة, وهي تفضل العودة لسير “السلف الصالح” التي أفضل من يروج لها هو الإسلام السياسي, الخارج من صفوفها والمعزز لرفضها للحداثة.
من حق أي تيار سياسي أن يبحث عن الانتشار والتأييد في الأوساط الشعبية, إلا أنه في بلد متخلف تقوم القوى العصرية بالمهمة الأصعب, الترويج للأفكار الحديثة بمخاطبة عقول المواطنين ليقتنعوا بها من أجل نهضة تجد مثالها في البلدان المتقدمة, أما إقرار الناس على مفاهيمهم القديمة على أنها صالحة لكل زمان ومكان ومخاطبة عواطفهم الدينية فهو السعي الأسهل والأسرع للشعبية الذي يمارسه الإسلام السياسي على حساب النهوض بالمجتمع للحاق بالمسيرة الإنسانية.
مأزق القوى العلمانية القومية واليسارية والليبرالية دخولها سباقاً خاسراً سلفاً مع الإسلام السياسي، فهي لم تستطع الوصول للسلطة في بعض البلدان إلا بالوسائل الانقلابية، واحتفظت بها لفترة طويلة باعتماد حكم استبدادي يمارس التجهيل السياسي والثقافي ويحتكر الثروة ويغذي الفساد ويولد المزيد من التخلف, أما الأحزاب المعارضة فلا يميزها الناس كثيراً عن الأنظمة لتشاركها معها في نفس الأرضية الفكرية.
كما يستفيد التيار الإسلامي من مسألة الصراع مع إسرائيل، ففي الوقت الذي توصلت فيه معظم التيارات العلمانية, بعد تجربة نصف قرن تخللتها حروب مكلفة, لسياسة واقعية تقبل بالسلام مع إسرائيل مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967, فإن التيار الإسلامي بغالبيته, يزاود باستمرار المقاومة, مهدداً بتكرار التجربة السابقة من الصراع الدامي الذي لن تكون نتائجه أفضل, إذ سيقود لكوارث جديدة.
رغم ذلك تجتذب “المقاومة” تأييداً عاطفياً يرفض الاعتراف بالوقائع المريرة, وللاستفادة من وهج حركات المقاومة طالب الإخوان المصريون من ناحيتهم باستفتاء لإعادة النظر في المعاهدات المصرية الإسرائيلية, مما يهدد فيما لو وصلوا للسلطة بإعادة مصر للصراع المسلح في ظروف عالمية ومحلية أسوأ بكثير مما في المرحلة التي سبقت المعاهدات, التي استعادت مصر من خلالها كافة أراضيها.
الأنظمة المستبدة تصدت للتيار الإسلامي أمنياً ولكنها زاودت عليه في أسلمة أوجه مختلفة من الحياة الاجتماعية, وتركت له عشرات آلاف المساجد ومئات المعاهد التي سخرها لتخريج كوادره ولتعميم مفاهيمه, كما قوته أحياناً لمواجهة المعارضات العلمانية, فأسلمة المجتمع تعطي الأنظمة بعض الوقت ولكنها بالمقابل تمكن التيار الإسلامي من المزيد من الانتشار في الأوساط الشعبية.
الأنظمة المستبدة أصبحت خياراتها محدودة بعد المتغيرات الإقليمية والعالمية, فهي مضطرة للانفتاح النسبي الديمقراطي، بعد أن فقدت ذرائعها – المعركة الوطنية ضد الإمبريالية والصهيونية- بريقها لتبرير بقائها في الحكم, فهي تسعى الآن لتبرير استمرارها بخطر مجيء الإسلاميين للسلطة من خلال الديمقراطية, وهي بعد أن عطلت فعاليات المجتمع المتنورة ومؤسساته الحديثة, لم تترك للناس سوى الاختيار بين نظام مستبد بمسحة حداثية مزيفة قاد المجتمع إلى كوارث، وتيار أصولي يعمل لإعادة الأوضاع المتخلفة إلى الوراء أكثر.
قبل التيار الإسلامي المعتدل بالانتخابات للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها, وتخلى عن شعاره القديم الدولة الدينية التي تغلف الاستبداد البشري بالمقدس الديني, ونادى بالدولة المدنية بمرجعية إسلامية, وهي حسب النموذج الإيراني تقييد سيادة الشعب, المفترض أنها حرة في التشريع لنفسها, بالنصوص الدينية التي يفسرها رجال دين غير منتخبين. لكن التيار لم يقبل بمعظم القيم الديمقراطية حسب مرجعية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود والاتفاقات الدولية الملحقة به, مما يجعله مستفيداً من الانتخابات للوصول للسلطة, ليحول الديمقراطية بعد ذلك إلى واجهة تخفي هيمنة القلة على الحكم. ف”الديمقراطية الإسلامية” الإيرانية في التطبيق العملي أقصت جميع القوى العلمانية، ولم تتحمل حتى جناحها الإسلامي الإصلاحي.
يمكن إيراد بعض البنود من برنامج الإسلاميين في السلطة:
– أسلمة كافة القوانين, وإنشاء نظام عقوبات إسلامي للجلد وبتر الأعضاء وقطع الأعناق..
– اقتصاد إسلامي يعمم مؤسسة الزكاة ويمنع نظام الفوائد باعتباره ربا محرم…, يذكر بشركات توظيف الأموال الإسلامية التي جمعت الأموال من ضحايا التدين الزائد، ثم هربت بها.
– نظام تعليم إسلامي يوسع أنشاء الكتاتيب ويركز على حفظ النصوص الدينية على حساب العلوم الحديثة.
– إحياء مؤسسة الحسبة كنظام اجتماعي أخلاقي متشدد, وتشريع قوانين تفصل الجنسين في دور العلم ووسائل النقل والمطاعم والأسواق.. ومراقبة ومكافحة الفن بكافة أشكاله من غناء ومسرح ورسم ونحت ومسلسلات…
– شرطة دينية تتربص بالمخالفات وتمنع الحفلات وبيع الخمور ومهرجانات ملكات الجمال وعروض الأزياء وتغلق مرافق الفنادق الترفيهية والأسواق أثناء أداء الصلاة, وتلاحق السافرات وتمنع حلاقة الذقون…
– ملاحقة المرأة لتخصيصها بأعمال المنزل وإنجاب الأطفال…والتضييق على الأقليات الدينية والسعي لإعادتها لنظام الذمة والجزية وإخراج أفرادها من الجيش “حتى لا ينضموا في الحروب للجيوش المقابلة المسيحية“!!!
– منع الكتب والكتابات المتعارضة مع تفسيراتهم للنصوص, وتقييد الإبداع والبحث العلمي ورفض أوجه من التكنولوجيا الحديثة, والعودة للتداوي بالإعشاب والحجامة……
إلا أن ما يعرقل هذا البرنامج تنامي قوى الحداثة بعد تخلصها من مفاهيمها القديمة، وتخليها عن التمسك بالأنظمة الاستبدادية كضمانة لعدم مجيء الإسلاميين للسلطة، فالتخلص منها هو الطريق الوحيد لاستئناف التقدم, حتى لو أدى لمشاركة الإسلاميين في السلطة أو استفرادهم بها, فالأسلم هو القبول بهم كقوة مشاركة, مع نقد برامجهم ورفض ما يتعارض منها مع الديمقراطية والحداثة, والبحث عن ضمانات لعدم انقلابهم على الديمقراطية مستقبلاً. أما الناخبون الذين أعطوا أصواتهم للإسلاميين فسيتعلمون من تجربتهم مدى الفائدة من استمرار إيلائهم ثقتهم.
الإسلاميون في السلطة سيضطرون للتعامل مع الوقائع إذ لا يمكنهم الاستمرار في تطبيق برامجهم الخيالية المتخلفة, وبالإضافة للضغوط الداخلية الرافضة لهم فأن العالم, الذي أصبح أكثر ترابطاً، سيتدخل لمنع استفراد قوى متسلطة ومتخلفة بإدارة أية دولة, كما حصل عندما تصدت الأمم المتحدة وأميركا لحكم الطالبان البربري القادم من القرون الوسطى باسم الإسلام.
إن تصوير التدخل الغربي في دول المنطقة على أنه حرب حضارات تهدف للقضاء على الإسلام, هو مصادرة لحقيقة السياسات الغربية الهادفة للتصدي للإرهاب الأصولي كجناح متطرف أضرت أعماله التخريبية بجميع دول العالم. أما عن مدى تعاون العالم مع الإسلام السياسي المعتدل في السلطة فيتوقف على تصدي الأخير الجدي للجماعات الإرهابية, أو التغاضي عن مواجهتها باعتبارها حليفاً خفياً يتبرأ منه علناً, فلا يمكن إنكار أن الإسلام السياسي هو الحاضنة التي خرجت معظم الجماعات المتشددة من صفوفها.
لقد ثبت من تجارب دول عديدة أنه لا يمكن الاحتماء بدولة الاستبداد ضد الإسلاميين، وأن الانتقال من الدولة الأمنية إلى الدولة المدنية نصف الدينية المقيدة بالمرجعية الإسلامية, ضريبة لا يمكن التهرب منها في الطريق إلى نظم ديمقراطية حقيقية. يمكن تخفيضها بالسعي لمنع الإسلاميين من الاستفراد بالحكم وجعلهم أحد الإطراف المشاركة حسب الظروف الخاصة بكل بلد, وبالمساعدة في دفعهم للتطور والقبول بالعلمانية كما حدث في تركيا, حيث أدت تجربة مشاركتهم في السلطة منذ حوالي العقدين لانشقاقات نتج عنها: تيار متشدد أقلي متمسك بالدولة الدينية, إسلام سياسي محدود يتبنى الدولة المدنية بمرجعية دينية, وإسلام علماني – حزب العدالة والتنمية – يحكم الآن بأغلبية مريحة.
أثبتت التجربة التركية أن تطور الإسلام السياسي في السلطة أو خارجها ليلائم العصر, أمر لا يمكن استبع