حماس في فخ السلطة
جورج كتن
خاص – صفحات سورية –
2006 / 4 / 29
استفادت “حماس” من انقسامات “فتح” وغياب قائدها الذي كانت تتوحد حوله، للفوز بأغلبية في المجلس التشريعي الفلسطيني مكنتها من تشكيل الحكومة الجديدة, علماً بأن غالبية الناخبين صوتت لرفض السلطة القائمة المتهمة بالفساد المالي والعاجزة عن التوصل لحل نهائي لأن إسرائيل لم تعطها شيئاً حتى الآن، كما صوتت لإسلامية “حماس” وليس لعملها المسلح, فقد أظهرت استطلاعات رأي حديثة أن الغالبية لا زالت مع السلام والمفاوضات ورفض العسكرة.
هذه الانتخابات تعني على صعيد التغيير في المنطقة أن تأجيل الديمقراطية بحجة الوحدة الوطنية في مواجهة القوى الخارجية المعادية, ذريعة واهية ظلت الأنظمة “الوطنية” الاستبدادية تستخدمها لعقود لإعادة إنتاج هيمنتها الشاملة على السلطة والثروات في بلدانها, فقد قللت نخب سياسية متمسكة بالأفكار القديمة من أهمية الانتخابات الرئاسية الفلسطينية وادعت أنها أتت لصالح رئيس تتبناه أميركا وإسرائيل نتيجة إجرائها “تحت الاحتلال”!! كما شككت بجميع دورات الانتخابات العراقية التي شاركت فيها الملايين, على أنها أتت “بالعملاء” إلى السلطة, طالما العراق “تحت الاحتلال“!!
هذه النخب الحارسة للثوابت التي لم تهجر بعد أوهامها حول أن القوى الغربية تدعي العمل لنشر الديمقراطية لتخفي أطماعها في المنطقة, والتي ترنو لنموذج “مقاوم” تريد تعميمه يتمثل في منظمة القاعدة الزرقاوية والبقايا المسلحة للنظام الدموي العراقي البائد, فوجئت بأن “حماس” عادت عن مقاطعتها لجميع أشكال الانتخابات في “ظل الاحتلال” وشغلت المقاعد البلدية والتشريعية والوزارية, في سياسة مشاركة بالعملية الديمقراطية السلمية المعاكسة كلياً للسياسة التي تفضلها النخب والتي تنبع من فوهات البنادق.
“حماس” منذ انبثاقها من جماعة الإخوان المسلمين قاطعت كل انتخابات لرفضها اتفاق أوسلو وإفرازاته, وإصرارها على العمل المسلح كطريق وحيد لتحرير فلسطين التي اعتبرتها وقفاً إسلامياً, يعد التخلي عن أي جزء منه تفريطاً بالدين. لكن التطرف الديني لم يكن يوماً عائقاً أمام أطراف إسلامية لممارسة سياسات براغماتية حتى لو تناقضت مع الأيديولوجيا التي يمكن إعادة تأويلها لتتلاءم مع مصالح التنظيم. و”حماس” لا تفتقد قيادات ماهرة تحاول تفسير أن لا تناقض بين رفض “أوسلو”, وبين قبول المشاركة في مؤسساته التي بنيت على أسس: الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف وقبول الاتفاقيات المعقودة.
التحول في “حماس” ليس مستحيلاً, فالمسلحون يراجعون في السلطة مواقفهم الجذرية السابقة للتعامل مع الوقائع، إلا أن “حماس” لم تحسم أمرها بعد بشكل نهائي وهي تمارس سياسة مزدوجة للاحتفاظ بنفس الوقت بمقاعد السلطة, وبالسلاح خارج إطار الأجهزة الشرعية. لا نظن أنها ستوفق بين الاثنين أو ستنجح في تأخير الاختيار لمدة طويلة, فإما ترك السلطة, أو التكيف مع متطلباتها والاعتراف بمرجعياتها وقبول مهماتها خاصة جمع الأسلحة والتفاوض مع إسرائيل من أجل حل نهائي للصراع.
“حماس” إذا تغيرت وقبلت بهذه الشروط، فإن ذلك سيكون مفاجأة أخرى للنخب التي راهنت على مواجهة “الديمقراطية” ب”المقاومة المسلحة”. إذ يمكن للتنظيمات المسلحة أن تستفيد من رصيدها لتصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع, إلا أنها في السلطة لا يمكنها الاستمرار في نهجها “المقاوم“.
“حزب الله” كحالة مشابهة من بعض الوجوه, بعد مشاركته في المجلس المنتخب والحكومة اللبنانية, تعرض لضغوط محرجة محلية ودولية للتخلي عن ميليشياته والانضمام للجيش النظامي وإلغاء شبه الدولة التي أقامها في الجنوب، فالازدواج بين المشاركة في السلطة المركزية وبناء سلطة خاصة لا يمكنه الاستمرار طويلاً رغم التهديد مؤخراً “بقطع الأيدي والأعناق”, الدال على مأزق الحزب أمام الاختيار الصعب.
إن تمسك “حماس” ببرنامجها السياسي واستمرار رفضها القبول بشروط بقائها في السلطة, مأزق كبير لن تستطيع الخروج منه بسهولة. أما الهرب إلى الأمام نحو برنامجها الاجتماعي فلن يأتي بنتائج أفضل رغم ارتداء وزراء حماس لربطات عنق غربية !!, فمطالبة نواب من حماس بإصدار قرار يفرض الحجاب على المرأة الفلسطينية ودعوة وزير الثقافة لمنع الرقص الشرقي وغيرها… هي بداية للتضييق على الحريات الشخصية بحجة أسلمة المجتمع. بينما المواطنون ينتظرون حريات أكثر وتحسيناً لأوضاعهم المعيشية وليس تدهوراً لها خاصة في ضوء الفشل في تأمين مصادر لدفع الرواتب.
“حماس” في فخ السلطة, مع صناديق مالية فارغة وبرنامج اجتماعي يصطدم بالحريات الشخصية للمواطنين, وصراع مع الرئاسة الفلسطينية التي تملك صلاحيات دستورية واسعة لا تفيد في مواجهتها تصريحات مشعل “التخوينية”, وانفلات أمني للفصائل المسلحة المتنازعة، ساهمت “حماس” في خلقه بحماية الظاهرة الميليشياوية الفوضوية, التي عانى منها العمل الفلسطيني منذ نشأته, والمؤدية لمزيد من تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين, الذين سيقيمون حماس الآن من خلال أعمالها لمصلحتهم وليس برامجها الخيالية خارج السلطة.
“حماس” في فخ السلطة, معزولة إقليمياً وخاصة من الدول ذات التأثير في الساحة الفلسطينية, مصر والأردن, ومقاطعة دولياً لسباحتها ضد التيار ببرنامج سياسي يناقض كل مسيرة المنطقة ويقدم الذرائع للحكومة الإسرائيلية للتنصل من عملية السلام والاستمرار في قضم الأرض بحلها الأحادي الجانب بدعم دولي، خسره الجانب الفلسطيني لرفض الدول المهتمة بالشأن الفلسطيني التعامل مع حكومة لا تعترف بإسرائيل ولا تنبذ العنف ولا تقبل بالاتفاقات الدولية، فاحترام نتائج الانتخابات شيء, والتعامل مع الحكومة الجديدة حسب برنامجها البعيد عن الواقعية شيء آخر, علما بأن خسارة الدعم الدولي لن يعوضه إدخال الوضع الفلسطيني في التحالف الإيراني مع أطراف مأزومة في المنطقة, والذي يكاد لا يختلف كثيراً عن التورط الفلسطيني في دعم احتلال صدام للكويت.
يخشى أن يؤدي تشبث “حماس” بالأيديولوجيا والحل العسكري, إلى كوارث جديدة للشعب الفلسطيني وخسائر إنسانية ومادية, من دون الوصول لحلول تعيد الحقوق والسلام المفقود, فالطريق مسدود أمامها إن لم تنتقل إلى سياسة واقعية.
إن احترام رأي الأغلبية الذي أتى بحماس إلى السلطة في انتخابات ديمقراطية لا يعني التسليم ببرنامجها, فالسعي لنقد برنامج الأغلبية ولإقناع الناخبين بأن أصواتهم ذهبت في الاتجاه الخطأ، هو جزء من العملية الديمقراط