في ضروب الشعبوية العربية وبعض خصائصها
ياسين الحاج صالح
بعد الشعبوية السياسية التي صعدت في المشرق العربي في الخمسينات والستينات من القرن الفائت، والشعبوية الثقافية التي صعدت في عقدي القرن الأخيرين، ربما كان مذهب «الممانعة» صيغة ثالثة للشعبوية تمزج السياسي بالثقافي (أو القومي بالإسلامي).
لكن ما هي الشعبوية؟ قد يمكن تمييز سمتين جوهريتين للشعبوية العربية. تقضي الأولى أن الشعب دائما على حق، فهو مستودع الحقيقة (أو الحكمة أو المعرفة). ومن المفهوم أن استقلال المعرفة، والمثقف، غير ممكنين في إطار الشعبوية التي تعلي، بالأحرى، قيمة «الالتصاق بالشعب» والإصغاء إلى «نبضه». والأحكام الشعبوية التي تنال من المثقفين شائعة في الثقافة العربية كما في غيرها. وتتمثل السمة الثانية في رفض الوساطة السياسة بين الزعيم أو الحزب الشعبوي وبين «الشعب». يفضل الشعبويون «ديموقراطية مباشرة» أو «ديموقراطية شعبية» من وراء ظهر المؤسسات السياسية والطبقات الاجتماعية والتكوينات الأهلية. لذلك تقترن الشعبوية أيضا بإنكار استقلال السياسة والدولة. والتنديد بـ»انفصال الدولة عن المجتمع» والمطالبة بأن تكون «مرتبطة» به واسمان للشعبوية عندنا وعند غيرنا. واقتران الشعبوية بالتسلطية وحكم الزعيم واحتقار القوانين والمؤسسات وكره المثقفين مطرد عندنا وعند غيرنا أيضا.
الشعبوية، تاليا، معرفة مباشرة وسلطة مباشرة. وهذا هو ما يخرج الإسلاميين منها في رأينا. ذلك أن المشترك بينهم، سواء في التنويعة الإخوانية أو عند التيار السلفي الجهادي أو حتى عند الإسلام الرسمي، أن «الحقيقة» مستودعة في الشريعة، وهي سابقة على «الشعب» ومتعالية عليه. أما من الوجهة السياسية فلدى الإسلاميين تصور للحكم كتكنولوجيا سياسية، أو كتطبيق عملي لنظرية جاهزة معصومة أو تكاد، لا يحيل إلى الديموقراطية التمثيلية ولا إلى الديموقراطية المباشرة.
والواقع أن الشعبوي، مثقفا أو سياسيا، ذو تكوين حديث؛ وهو «علماني» مبدئيا. «الإسلام» عند الشعبوي هو «ثقافة الشعب» أو «الهوية» أو «الأصل»، وهو معني به بهذه الصفة، وليس بصفته عقيدة سياسية أو حركة نضالية أو إيمانا دينيا. فالشعبوية تستحضر الإسلام الشعبي، الضعيف التشكل الإيديولوجي، وليس الإسلام الحركي أو السياسي. وشرط الشعبوية في كل مكان هو انحسار تنظيمات العالم التقليدي وثقافته الشعبية وصعود تنظيمات الحداثة، وما يثيره ذلك من حنين رومانسي إلى عالم مضى، يفترض أنه أبسط وأنقى من هذا العالم «المغترب» الذي نعيش فيه اليوم. «الشعب» يعاد تركيبه من هذا الحنين، كهوية أي كتجانس ووحدة تامة، ترتد عندنا إلى «الإسلام». هذه الصيغة الثقافية للشعبوية صعدت عربيا في الثمانينات، وتحدثت كثيرا عن الإسلام والهوية والأصالة وما إليها. وليس لإسلام الشعبويين هذا أي علاقة بإسلام الإسلاميين ذي التكوين الإيديولوجي القوي. على أن الشعبوية الثقافية ليست ثقافية حصرا ولا شأن لها بالسياسة. فقد كان في فكرة الديموقراطية على نحو ما طرحت في الفترة نفسها عنصر شعبوي يأخذ على الدولة «انفصالها عن المجتمع»، ويرد الديموقراطية إلى الاتصال بينهما. رغم ذلك فإن الديموقراطية هذه استمرار أكثر مما هي انقطاع للشعبوية السياسية. ليس فقط لأن معظم ديموقراطيي اليوم (الربع الأخير من القرن الماضي) هم من اشتراكيي الأمس، ولا لأنهم يسعون للديموقراطية من أجل تحقيق الأهداف ذاتها التي أخفقت اشتراكية الشعبوية السياسية في تحقيقها، وإنما كذلك لأن مقاربة توزيعية تجمع بين الاثنين كما سنرى.
في ستينات القرن العشرين كانت عرفت بعض الدول العربية الأكثر حداثة وانفصالا عن الموروث شعبوية سياسية، مثل عليها الحكم الناصري في مصر والبعثي في سورية والعراق وحكم جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ومن وراء تقديس الشعب والتطلع إلى صلة مباشرة به دون وسائط ثمة إرادة التفاف على المراتب الاجتماعية الموروثة والمؤسسات التقليدية. لقد حازت الشعبوية السياسية صفة «تقدمية» لهذا السبب بالذات. فقد أزاحت طبقة الأعيان الحاكمة، وأدمجت في «الشعب» قطاعات من السكان كانت مهمشة أو محرومة، ووطنت البدو، وأكملت بسط سلطة الدولة (المخفر والمدرسة و»قيد النفوس»…) إلى كامل المجال الترابي لبلدانها. إلا أن «ثوريتها»، وإن لم تمض إلى حد تحطيم «آلة الدولة»، لم تقم لها اعتبارا، وبعد أن كانت قوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية أدوات استكمال تصفية «النظام القديم»، لعب استمرارها ضد تشكّل أي نظام جديد مستقر، على نحو ما كان ولا يزال الحال في سورية. وسرعان ما حل «ابن الشعب» محل الشعب على حساب الدولة. ولعله بفعل إضعاف الدولة لم تلبث الشعبوية المشرقية أن ولدت نقيضها، أعني انبعاث المجتمع الأهلي وتشكيلاته العضوية. وإن كانت استفادت من ضعف التقاليد السياسية والمنظمات الوسيطة، وهشاشة الدولة ذاتها، فإن دوام حكمها اقتضى إضعافا دائما للدولة والأطر الوسيطة الحديثة. وما بقي من الشعبوية في سورية مثلا هو إرادة توهين أية مؤسسات وسيطة حديثة (الأحزاب، النقابات، المنظمات الطوعية المستقلة…)، وهو عداء غريزي لفكرة القانون العام، وهو تطوير مفهوم لا سياسي لـ»الوحدة الوطنية» يضمر أن السكان موحدون بقدر ما لا يكونون أحرارا، وأن حريتهم خطر مرجح على وحدتهم. وإن كان الجمع بين الوحدة الوطنية واللاحرية ممكنا، فإنه لا يتحقق إلا على مستوى العشائر والروابط الأهلية، بما في ذلك استتباع منظمات «حديثة» عبر نزع صفتها الطوعية والمستقلة بحيث ترتد إلى ما يشبه العشائر والطوائف.
على أن الإجراء الشعبوي بامتياز هو الاستفتاءات وما يلازمها من مظاهر كرنفالية و»مسيرات شعبية». فهذا هو الطقس الذي يفضله الحكام الشعبويون وتتجه نحو الغرائز الشعبوية حتى في الدول الديموقراطية (كان يفضله الجنرال ديغول مثلا). بالمقابل تنفر الشعبويات دوما من الانتخابات الحرة، التعددية والمستقلة. وما عدا بعض الصيغ الإجرائية والاحتفالية المرتبطة بها (الاستفتاءات، الزعامة، المسيرات…)، زالت الشعبوية السياسية منذ سبعينات القرن الماضي.
وقد تكون الشعبوية الثقافية ردا على تحول الشعبوية السياسية إلى تسلطية، أو على التضخم الجهازي والسلطوي للدولة. ومن وراء العودة إلى «هويتنا» و»ثقافة الشعب» و»الأصالة» ثمة إرادة «استعادة الدولة إلى المجتمع» والتفاف على الدولة «المتغولة» فعلا. وهذا مصدر انحياز الشعبوية الثقافية للديموقراطية ومصدر تناقض ديموقراطيتها في الوقت نفسه. وهي ربما أخذت تتلاشى في السنوات الأخيرة بسبب هذا التناقض ذاته. فإذ تجعل من الديموقراطية توزيعا عادلا للسلطة، أو ضربا من «الاشتراكية السياسية»، فإن من المحتمل أن تؤول إلى نقل منطق المجتمع الأهلي التعددي إلى مستوى الدولة ووظيفتها التوحيدية. الدولة هذه، ونتكلم على سورية، آلت إلى التسلطية والانتظام الأهلي للمجتمع ينتعش في ظلها، لكن ضربا من التوزيع السياسي للسلطة العامة لا يصلح لقلب هذا المسار، بل ربما كان استمرارا وترسيخا له. وعليه فالمطلوب، بالأحرى، إنتاج المزيد من السلطة (وليس توزيع ما هو متاح منها) كأساس لاستقلال الدولة عن المجتمع الأهلي كما عن النخب التسلطية المغلقة (أو الأهلية الجديدة). ونخمّن أن إنتاج المزيد من السلطة يقتضي الانتهاء من التسلطية لا المزيد منها. أما العداء الشعبوي للدولة فيتعارض مع الديموقراطية قدر ما تتعارض معها الديموقراطية الشعبية وتناسخاتها التسلطية.
وأما «الممانعة»، أحدث طور للشعبوية العربية، فللكلام عليها مقام آخر.
حاص – صفحات سورية –