السلام السوري – الإسرائيلي لا يغيّر توازن القوى اللبناني
طلال عتريسي
الانطلاقة القوية والعلنية للمفاوضات السورية الاسرائيلية كانت مفاجئة. أن ما اشيع عن اتصالات سابقة لم يبذل أي من الطرفين جهداً لتأكيدها او لنفي حصولها، في حين ان الاعلان عن هذه المفاوضات ترافق مع تصريح اسرائيلي بالاستعداد للانسحاب من الجولان، ومع تصريحات رسمية سورية تؤكد التفاوض ولا تنفيه عبر القناة التركية التي مهدت قبل أشهر لهذا اللقاء.
أربك هذا التقدم في المفاوضات وجديتها، حسابات البعض في لبنان والمنطقة. لكنه برر للرئيس الفرنسي فتح قنوات الاتصال المباشر مع القيادة السورية وكسر اقفال العزلة التي فرضت عليها في السنوات الماضية. إلا أن حدثاً بهذه الاهمية يثير اسئلة كثيرة عن التغيير الذي قد يحصل اذا نجحت تلك المفاوضات أو اذا تعثرت ولم تصل الى غاياتها المفترضة.
ولعّل اللبنانيين هم أكثر من يخشى ويترقب. فـ””حزب الله”” وحركة المقاومة التي يرفع رايتها ضد الاحتلال الاسرائيلي – ومعه المعارضة الى حد بعيد- لن يسره رؤية حليفه السوري وهو ينتقل الى موقع آخر ويخرج من الصراع. في حين تخشى قوى الموالاة التأثير الايجابي للمفاوضات على موقع سوريا ودورها الاقليمي بحيث يعاد الاعتبار الى هذا الدور والاعتراف به، بعد فك العزلة الدولية عن النظام السوري التي بذلت الموالاة جهودا مضنية لجعلها أولوية قصوى على حساب أي بند آخر في جدول الاعمال اللبناني طوال السنوات الثلاث الماضية.
وقد بدأت الاشارات الدالة الى هذا التغير- والمخيبة لآمال قوى الموالاة- من فرنسا نفسها حليفهم القوي ضد سوريا نفسها. لكن في مقابل هذه الخشية من عودة الروح الى الدور السوري والى موقع سوريا الاقليمي ثمة من يرى في هذا التغير ما يمكن ان نسمية فرصة ل”نزع الذرائع” من يد المقاومة التي يتمسك بها “حزب الله”. فإذا توصلت سوريا على سبيل الافتراض الى تسوية او سلام مع اسرائيل فهذا يعني انتفاء او ضعف مبررات المقاومة، ضد الخطر الاسرائيلي، وكذلك ضعف خط الممانعة –الذي ينتمي اليه “حزب الله” -. ما يعني ان الدعوات المستمرة منذ سنوات – وغير المجدية- لنزع سلاح المقاومة أو لانتفاء الحاجة اليه –ستصبح أكثر واقعية ومقبولية في الداخل اللبناني وفي الواقع الاقليمي.
اذ ترى وجهة النظر هذه في نجاح المفاوضات الاسرائيلية – السورية فرصة تاريخية مؤاتية تنهي الصراع في المنطقة وتخرج لبنان منه وتزيح عن كاهله عبء المقاومة، وثقل المسار السوري الذي التصق به سنوات طويلة…
في أي اتجاه ستسير هذه المفاوضات ؟ وما هي التوقعات او السيناريوات المحتملة لنهاياتها؟ وما الذي تغير بين اطراف الصراع حتى نشهد مثل هذا التحول الذي أثار وبقوة اسئلة كانت هامدة حول أدوار اللاعبين المحليين والاقليميين وحول استراتيجياتهم المستقبلية في مواجهة تسوية ناجحة أو تسوية تراوح مكانها كما كانت عليه سابقاً؟
يشير الكثير من التحليلات الاسرائيلية الى ان رئيس الحكومة ايهود أولمرت يريد التفاوض والاستمرار فيه في مواجهة الضغوط لاقالته بعد اتهامه بالفساد وتلقي الرشاوى من احد المتمولين اليهود.لأن تحقيق اختراق على الجبهة السورية يعد انجازاً استراتيجياً يثبت الحاجة الى أولمرت وضرورة بقائه. خاصة ان كل الرهانات الاسرائيلية على التفاوض مع سوريا ليس لها سوى هدف واحد: قطع علاقتها مع ايران ومع حركات المقاومة. أي ان ما حاولت الولايات المتحدة وفرنسا وحلفاؤهما في لبنان والمنطقة بلوغه عبر السنوات الثلاث الماضية من خلال الضغوط والعزل ومحاولات اسقاط النظام وصولاً الى حرب تموز 2006، تحول بعد الفشل والعجز عن تحقيق الاهداف، الى استراتيجية أخرى هي استراتيجية التفاوض التي لا تعني سوى الاعتراف –المشروط- بالدور والمكانة. والشرط هو تخلي سوريا عن حلفائها، فتطمئن اسرائيل… وتتمكن من اعادة الجولان. لكن سوريا حصلت على الاعتراف قبل التخلي عن حلفائها. ولم يكن في الامر أي مصادفة على الاطلاق. تزامن الاعلان عن استئناف التفاوض السوري- الاسرائيلي وتقدمه مع اعلان اتفاق الدوحة الذي نسب الى سوريا دعمه وتشجيع التوصل اليه. فحصدت دمشق وبسرعة تراجعاً فرنسياً تحول الى اشادة بدورها في تحقيق الاستقرار في لبنان، وفي الشرق الاوسط (التفاوض مع اسرائيل).
لم يتغير الكثير على الجانب السوري. فالتفاوض والسلام هو استراتيجية سورية معلنة. وهي ليست المرة الاولى التي يشاع فيها أمر مماثل. والرغبة السورية في استعادة الجولان هي رغبة أكيدة تعزز وضع النظام ولا تضعفه. وعلى الرغم من تشكيك رئيس جهاز “الموساد” في نية سوريا إذ يتهمها بأنها لا تفكر سوى في استعادة السيطرة على لبنان، فإن باقي الاجهزة والهيئات الأخرى العسكرية والسياسية والمدنية تؤيد بقوة التوصل الى سلام مع سوريا. لذا إن السؤال الجدي هو هل ستقبل سوريا مقايضة الجولان بتحالفاتها الاستراتيجية في لبنان والمنطقة؟
ربما يصعب القبول بسهولة ولأكثر من سبب بهذه الفرضية التي تبني اسرائيل ودول اقليمية اخرى كل توقعاتها في تغيير المشهد الاستراتيجي الاقليمي عليها. (والمشهد الاستراتيجي المقصود هو “استعادة سوريا” وقطع صلتها بإيران واضعاف نفوذ الاخيرة وعزلها عن لبنان وفلسطين، وتفكيك ما يعرف “بجبهة الممانعة”). فعلى المستوى الاسرائيلي من غير المعلوم اذا كان اولمرت سيبقى في منصبه أم لا. ما يعني ان من سيأتي بعده سيكون امام معادلة جديدة ومشوار جديد من التفاوض قد لا يسير بالوتيرة نفسها من السرعة التي سار بها التفاوض السابق مع سوريا.
وعلى المستوى الاميركي تبدو المعضلة اكثر تعقيداً. فلم تصدر الادارة اشارات الثقة بهذا التفاوض. ولا هي اوقفت الضغوط على دمشق. بل حاولت لجم الاندفاعة الفرنسية نحو سوريا. والأخطر من ذلك ان ادارة بوش لا تزال حتى اللحظة ترى في البرنامج النووي الايراني أولوية ينبغي التصدي لها قبل حسم أي قضية أخرى، وربما قبل نهاية ولاية الرئيس جورج بوش. أما على المستوى السوري فلا يمكن ان تكون دمشق على استعداد بمثل تلك البساطة للتضحية بحلفائها –لو شاءت ذلك- على الاقل قبل ان تتضح صورة المشهد الاستراتيجي الجديد في الشرق الاوسط.
إذ هل يعقل في اطار هذا المشهد ان تذهب سوريا الى التفاوض وصولاً الى السلام النهائي مع اسرائيل من دون ان تأخذ في الاعتبار طبول الحرب التي تقرعها الأخيرة ضد ايران؟ وهل ستقدم اسرائيل بمثل تلك البساطة الجولان هدية الى سوريا قبل ان تحسم الولايات المتحدة خيار الحرب ضد ايران؟ وهل سيبقى على سبيل المثال مطلوباً أو مبرراً ابتعاد سوريا عن ايران اذا شنت واشنطن الحرب ضد طهران؟ وهل في مقابل ذلك سيبقى الالتزام نفسه ضرورياً اذا ذهبت الولايات المتحدة الى التفاهم مع ايران؟
أي ان المشهد الاقليمي على الرغم من كل ما يقوله البعض عن اتجاهه المفاجئ نحوالانفراج لا يزال يتسم بنسبة عالية من الخيارات أو السيناريوات المفتوحة– التي تميل في معظمها في غير مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها – وهذا لن يسمح لسوريا بالتضحية بخياراتها الاستراتيجية (العلاقة مع ايران ومع حركات المقاومة) التي تمسكت بها في السنوات السابقة. ناهيك عن المعومات التي تشير الى تناقض اساسي حول اولويات جدول اعمال التفاوض. ففي الوقت الذي تريد اسرائيل ان يكون التباحث بشأن الانسحاب من الجولان آخر بنود التفاهم بعد الاتفاق على البنود الامنية وإقفال المكاتب الفلسطينية في دمشق،وتبادل التمثيل الديبلوماسي وتطبيع العلاقات… تريد سوريا الانسحاب التام والشامل من الجولان أولاً مع رفض تام لفكرة فض العلاقة مع ايران ومع “حزب الله” والمنظمات الفلسطينية، باعتبار ان ذلك يمس سيادتها…
الحليف الايراني لسوريا لا يبدو متفاجئاً من هذا الاعلان عن تقدم المفاوضات. وهو لا يشعر بالقلق مما يجري بين الطرفين. والسبب يعود إما الى اطمئنان طهران الى ثبات العلاقة التي لن تتبدل حتى على افتراض استرجاع سوريا هضبة الجولان. وإما الى اعتقادها بأن مثل هذا التفاوض يساهم في اشاعة مناخ التهدئة في المنطقة الذي يسمح لطهران باستكمال برنامجها النووي ويبعد شبح التهديد بالحرب الذي تلوح به واشنطن ضد النظام الايراني. أو لأن القيادة الايرانية تدرك ان هذه المفاوضات لن تؤدي الى أي اتفاق، وبالتالي لا فائدة من الصراخ والاتهامات وتعكير العلاقة مع الحليف. وقد كان لافتاً ان يذهب وزير الدفاع السوري الى طهران، لتأكيد التعاون الدفاعي بين البلدين في الوقت نفسه الذي اعلن فيه عن التقدم في المفاوضات السورية – الاسرائيلية.
كيف سيتعامل اللبنانيون مع هذا الوضع الملبد الذي يفتقد الى الحسم الاستراتيجي؟ وما هي الرهانات “الصائبة” التي يمكنهم الركون اليها في ظل هذا الوضع المشرع على أكثر من احتمال وسيناريو؟
سيخطئ من يعتبر ان ما يحصل هو فرصة اقليمية مناسبة للتخلص من قضيتين اساسيتين أثارتا الجدل والانقسام في لبنان في السنوات القليلة الماضية، أي استمرار حالة العداء مع اسرائيل، واستمرار سلاح “حزب الله” (الذي يفترض انه سيفقد مبرره وتضعف حجته بعد سلام حليفه السوري مع اسرائيل). لأن ما يجري حول لبنان لا يشجع على هذا الاعتقاد. فلا التفاوض السوري-الاسرائيلي يعني ان التسوية باتت قاب قوسين او ادنى. ومن المحتمل ان يطاح كل شيء اذا غادر أولمرت رئاسة الحكومة. ومن المحتمل ايضاً ان يستمر التفاوض من دون أي تفاهم الى ما بعد انتخابات الرئاسة الاميركية.
أما افتراض الضربة الاميركية لإيران وبعيداً من احتمالاتها الصعبة ومن الاعتراف الاسرائيلي بالعجز عن التورط فيها، فإن حصولها لن يغير شيئاً بل ربما زاد الامور تعقيداً في لبنان. وربما كانت نتائجها في غير مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها. والمؤشرات على التراجع الاميركي تجاه ايران كثيرة. وعلى الفشل في الشرق الاوسط اكثر وضوحاً. لا بل إن احتمال التفاهم الاميركي – الايراني حول برنامجها النووي وقضايا اخرى هو احتمال جدي كما يشير الكثير من الأدلة، وهو سيوفر لايران اذا حصل اعترافاً رسمياً بدورها وبنفوذها على المستوى الاقليمي. وهو ما حاولت واشنطن وقوى اقليمية أخرى، عبثاً، رفضه وتطويقه.
ما يعني ان الرهان على أي تغيير محتمل لتوازن القوى الداخلية في لبنان ربطاً بالتفاوض السوري الاسرائيلي ونتائجه ليس رهاناً واقعياً وسيعيد لبنان، مجدداً، ومرة أخرى من دون أي طائل، الى دائرة التوتر الشديد التي التفت حول عنقه في السنوات الثلاث الماضية. كما أن التمسك برهانات ما بعد اغتيال الرئيس الحريري لجهة اولوية التحريض ضد سوريا وضد سلاح المقاومة لم يعد له ما يبرره او ما يمده باسباب الحياة مهما كانت نتائج التفاوض السوري-الاسرائيلي. بل يبدو ان رياح التحولات الاقليمية التي زادت الحوافز الغربية (والاميركية) لاسترضاء ايران، وأعادت الاعتبار الى دور سوريا، وقبلت بفرض اتفاق الدوحة”بالقوة”… يفترض ان تعيد الاعتبار الى المصالحة والتفاهمات الداخلية حيث تكون “الاستراتيجية الوطنية الدفاعية” مخرجاً أوحلاً ليس للمتشبثين بالمقاومة وسلاحها، بل لاولئك الذين بذلوا جهوداً جبارة، وغير مثمرة، كادت تفجر لبنان من الداخل، وفشلوا في نزع هذا السلاح.
طلال عتريسي
(استاذ جامعيالثلثاء المقبل:مساهمة الباحثة الفرنسيةاليزابيت بيكارالمحور من اعداد ميشال أبو نجم)
النهار