الاعتراف المتبادل بين السلطة والمعارضة
موفق نيربية
حينما يجري الحديث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية أو اتّحاد وطني في أيّ بلد من بلاد العالم، يعنون وحدة السلطة والمعارضة. ويكون الهدف عندئذ تجاوز مرحلة خطيرة مثل الحرب أو الانقسام الخطير أو مجرد عجز عن الخروج من أزمة بشكل منفرد. قد تكون أيضا في مرحلة تحول سياسي أو اقتصادي أو وطني بشكل عام، ولا بد من اتخاذ القرارات بأكبر تأييد ممكن من الشعب.
فوحدة السلطة والمعارضة، في أي دولة حديثة «مظهر من مظاهر الوحدة الوطنية»، كما يقول الباحث السوري جاد الكريم الجباعي، وهو متميز بقدرات «المحترف» في البحث، وبحرارة «الهاوي» الملتزم. وهو يقول إن «أي بلد تمسك بمقاليده سلطة لا تعترف بالمعارضة، أو تنظر إليها على أنها (العدو)، بلد يفتقر إلى الوحدة الوطنية، مهما تغنى بها المتغنون والمغنون».
من جهة أخرى، فإن أي بلد لا «تعترف» معارضته بالسلطة، ولو اعترافا بالأمر الواقع، تهتز وحدته الوطنية، أو تزداد حالتها سوءا. مثل هذا الاعتراف لا يتعارض مع اعتراض المعارضين على شرعية السلطة حسب المعايير الحديثة، أو على كونها لم تأتِ من خلال صناديق الاقتراع الحرة، أو على قمعهم وتخوينهم وزجهم في السجون ومنعهم من حق التعبير بالأشكال المشروعة جميعها عن رأيهم وسياستهم.
في سورية هنالك أنباء جديدة، يرى بعضهم أنها لم تتأكد بعد، حول «اعتدال» في السياسة الخارجية، قد يساهم في تخفيف حدة الأخطار الخارجية التي حاقت بالبلاد في الأعوام الأخيرة. لكن البعض نفسه الذي مازال يشكك في هذا الاتجاه، يشير إلى استمرار السلطة في سياساتها الأمنية، بل إلى تفاقمها أيضاً، ليستنتج استنتاجاته ويدعم شكوكه.
يمكن القول بجزم إن ذلك صحيح ما لم تدعم مظاهر الاعتدال الخارجي مظاهر اعتدال داخلي. وفي ذلك تخطئ السلطة في سورية طوال تاريخها الطويل، وسوف تكون مخطئة جداً ما لم تعْدِل عن معاييرها القديمة الموروثة من منطق الحرب الباردة، وتأخذ تطورات العالم والمنهج بعين الاعتبار.
فلم يعد ممكناً ارتداء رداء للمناسبات العامة وحقل السياسة الخارجية وحدها، والحفاظ على البنية والعقلية المتأخرتين في السياسة الداخلية. ومهما جاءت مواقف القوى الدولية ضيقة ومناورة وحريصة على مصالحها المباشرة أحيانا، فإن مصداقية أي طرف هي في أوضاعه الداخلية. في التجارة المباشرة، أو في مداولات الصفقات، لا يمكن الوصول إلى شيء من دون هذه المصداقية. في بيع عابر خاطف على الرصيف قد يكون هذا ممكناً، وليس في مصرف أو مجلس إدارة أو لدى كاتب بالعدل.
من الناحية الأخرى، لا تستطيع المعارضة إدارة ظهرها لما يحدث، والركون إلى حالة الانتظار، التي «سكنت» إليها في السابق. لا لوم عليها في حالتها البائسة المحرومة من حقوق التعبير والرأي والاجتماع، إلا أن ذلك لا يكفي للموافقة على عادات الانتظار هذه، التي لا تزعج السلطة رغم التطرف في القول «الساكن» أحيانا.
ورغم ما يُلاحظ دائماً على السلطة من نفورٍ من اعتدال المعارضين حين يعتدلون، كما فعلت في السنوات السبع الماضية مراراً، وكما لاتزال تفعل منذ انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق في 1/12/2007، وفي اعتقال قيادي معارض كردي معتدل في الأيام الأخيرة، فإن الاعتدال يبقى منجاة الوحدة الوطنية، فلا شيء يشحذ فؤوس التطرف مثل التطرف.
يتجلى هذا الاعتدال في التركيز على كون المعارضة الديمقراطية لا تزاحم السلطة على سلطتها، بل تطلب تعديل سياساتها، بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة، لخلق الأجواء الوطنية للحوار الشامل للخروج بحالة البلاد من حالتها إلى شاطئ العصر، والوصول بشكل سلمي ومتدرج وآمن إلى الدولة الوطنية التي تكون الديمقراطية مضمونها وجوهرها، وتحقق مصلحة شرائح المجتمع جميعها، خصوصاً تلك التي تئن الآن تحت مطارق الحاجة، وسوف تصرخ في مرحلة ما، لا محالة.
لكن المطلوب يُطلب من السلطة أولاً، على الرغم مما نقوله هنا للمعارضة التي تكاد تختنق بلا هواء، ولا تجد مجالاً للقول أحياناً، إلا شهادة الإيمان والتمسك بالحق الصريح. آن للسلطة أن تبادر إلى «الاعتدال» في سياستها، وتدرك أنها لن تربح شيئا من «الخارج» ما لم يكن مؤسساً على «الداخل». وهذا الداخل لا يُؤمن بالقمع والإقصاء والاحتكار، بل بالاعتراف بحق المعارضة السياسية في الوجود والتعبير، وبحق الاختلاف والقوة التي تتأتى عنه، وبضرورة التأسيس للحوار الشامل الذي ينطلق من هذا الاختلاف لصياغة مشتركات ممكنة. إنه «الاعتراف المتبادل بالجميع من الجميع».
مثل هذه الأجواء مطلوبة من السلطة أولاً وثانياً، ومن المعارضة ثالثاً.
* كاتب سوري
الجريدة