مفاتيح لفهم السياسة السورية
د. محمد عجلاني
من الصعب جدا في بعض الاحيان فهم بعض الألغاز والحركات والاشارات التي ترسلها الديبلوماسية السورية الخارجية في اطار علاقاتها مع الاطراف الخارجية.
كوشنير مدح مؤخرا وقبل اشهر بأنه لم يعد يفهم التصرفات السورية وماذا تريد، سورية بالضبط؟ وقبله منذ سنوات صرح أمين الجميل رئيس لبنان السابق بانه عاجز عن فهم هذه السياسة. والسياسة السورية الخارجية في واقع الامر تقوم على عدة محاور اسس ومرتكزات هي: 1ـ شعرة معاوية وعدم القطيعة مع الاطراف التي دخلت معها في نزاع او خصام، وتتبع سياسة عدم التطرف في المواقف والتصعيد مع هذا الطرف او ذاك، فلا تحرق سفارة الدولة المتخاصمة معها، او ترسل اليها باشارات عنيفة او تهديدات، ربما تترك او تغض النظر عن اطراف حليفة لها لانتقاد سياستها ومهاجمتها.
لكنها تبقى حذرة في التعامل معها وتترك قنوات مفتوحة مع هذا البلد او ذاك، حتى ولو اختلفت مع رأس النظام، كما حدث مع فرنسا شيراك، حيث بقيت بعض المحاور والقنوات مفتوحة مع جهات ومؤسسات اخرى ضمن دولة شيراك.
2ـ عامل الوقت: تقيم السياسة الخارجية السورية للوقت اهتماما ورصدا كبيرا وتلعب على هذا العامل في خلافها مع هذا الزعيم او ذاك، تختلف مع شيراك وتحني رأسها للريح بانتظار ساركوزي لتعيد رفع رأسها من جديد، كذلك الامر مع بوش، بانتظار خليفته الذي سيكون على الأرجح اوباما.
بانتظار الوقت تحني السياسة السورية رأسها وتناور في الافنية الخفية لتعود من جديد علاقتها مع رأس النظام الجديد اقوى واكثر فاعلية مما كانت عليه مع النظام السابق.
3ـ لا تدفع الفواتير سلفا: كل شيء له ثمنه في اطار التعامل مع سورية، ولا شيء يدفع سلفاً للخصم، كما فعل السادات مع الامريكيين، عندما رحل الخبراء السوفييتي من اراضيه بدون اي مقابل.
لا توجد لدى السياسة السورية امور مجانية، وكل شيء قابل للتفاوض والمساومة، عودة العلاقات مع باريس لها ثمن، واعادة هيكلية وطبيعة العلاقات مع واشنطن لها ثمن، والتحالف مع ايران له ثمن داخلي ومحلي وخارجي، وهي تقايض الثمن ولكنها تقايضه وفق مفهومها ومنطقها وتحدد سقفه حسب عملية الشد والجذب مع الطرف الآخر.
4ـ تحسب الخطوات ولا تحرق المراحل: السياسة الخارجية السورية ليست مشهورة او مغامرة، خطواتها مدروسة على مستوى كل مرحلة، كل مرحلة تليها مرحلة اخرى، وبين المرحلتين دراسة وتقييم لكل مرحلة وبكل نتائجها وأبعادها وهذا فيه من التروي والتمهل، لأنها اي سورية لا ترغب بأن تظهر امام واقع جديد ومعطيات جديدة لا تتحكم بمفاصلها ومساراتها.
فهي لا ترغب ابدا باتخاذ قــــرارات سريعة ومثيرة، وهي تكره الأضواء، وتفضل الطبخات الديبلوماسية الهادئة التي تطبخ على نار هادئة، لا ترغب بالصدام المباشر مع الآخرين، وتفضل ان تمارس وسائل ضغطها بدون ان تثير التحركات الاعلامية او الدخول عبر اطراف آخرين.
5ـ السرية وكرهها للأضواء: منذ ان استلم الرئيس حافظ الأسد الحكم في سورية آمن بالعمل الديبلوماسي السري، وادخل قنوات سرية ديبلوماسية في تعامله مع الاطراف الاخرى، وان كان له سفير في دولة ما، فهو يعتمد ايضا على تقارير مبعوثين خاصين له، ويقرأ تقاريرهم بشكل جيد ويقارنها مع تقارير المبعوثين الرسميين، لأن المبعوث الرسمي عند الرئيس الراحل اذا كان دقيقا في تقاريره فسيصبح بذلك غير رسمي واكثر قربا من صانعي القرار ومن القصر الجمهوري بالذات. وربما يفي الامر كذلك مع خليفته.
6ـ المحافظة على الغموض: تبقي السياسة السورية الامور احيانا غامضة وبدون اي حسم، وهذا الغموض تجيره لصالحها، وتستخدمه في الوقت المناسب لبعثرة خصمها وعدم جعله يدرك مغزى وابعاد خطواتها اللاحقة، انه نوع من سياسة ارباك الخصم، في انتظار ان تعرف ثمن المواقف التي سيدفعها الخصم في حال ازالة الغموض الذي يحيط بسياستها.
انها سياسة فعلا في غاية الدقة، واذا لم نكن خبيراً ومحللاً بارعاً فنقع احيانا في مطبات، لأن لهذه السياسة محتوى ومعنى وأبعادا لكن في آخر الأمر ينقصها ديبلوماسيون أكفاء يتحدثون اللغات الاجنبية بطلاقة لتطبيق وتنفيذ مثل هذه الديبلوماسية، بدون لغة الخشب والتشدد الايديولوجي لأنها في طبيعتها مرنة وليست بحاجة لأن تظهر خشبية متشددة.
رئيس مركز دراسات الحياة السياسية السورية في باريس
القدس العربي