الحلقة التاسعة
نيغاتيف – من ذاكرة المعتقلات السياسيات
روزا ياسين حسن
المختبر البشري:
حين تغيب الإيديولوجيات
نقل عدد كبير من المعتقلات الشيوعيات من فرع الأمن1 إلى سجن النساء فيما ظلت الباقيات في الفرع. ثم نقلت خمس منهن فقط، وذلك في صيف 1988، إلى فرع الأمن2 العسكري وهنّ: آسيا.ص، فاطمة.خ(102)، هتاف.ق، ليلى.ع، ومنيرة.ص. ظلت المعتقلات الخمس أكثر من سنة ونصف في فرع الأمن2، ثم نقلن إلى سجن النساء ليبقين حتى إطلاق سراح الجميع في سنة 1991.
فيما كانت المعتقلات الإسلاميات هناك قبلهن بسنوات.
الأزمة الأولى كانت في أماكن النوم!
ففي المهجعين الثالث والرابع كانت الغالبية العظمى من الإسلاميات وبعض المعتقلات بتهمة التجسس وحزب بعث العراق. كان على القادمات الجدد أن ينمن على حساب الفراغات بين فرشات الإسلاميات مما أدى إلى الكثير من الخلافات والمشاحنات.
تكبر المشاكل الصغيرة مع الزمن، ويتملك السجينة، كما يتملك السجين، شعور مهيمن أن جزءاً من روحها تآكلت. الأزمة الثانية بدأت حين قدمت الدفعة الجديدة من المعتقلات. فقد قدمن وقدم معهن قرار منع الزيارات على السياسيات فحسب فيما كانت السجينات الأخريات (القضائيات: قتل ودعارة وحشيش و…) يتمتعن بالزيارة الأسبوعية باستمرار في كل يوم أربعاء.
عن ذاك المختبر البشري، الذي راح يتوضح في سجن النساء وينيخ بثقله على الجو، كتبت ناهد. ب(103):
(نيّف وثلاثون امرأة جيء بنا كي نعيش حياة مشتركة بشكل قسري. جيء بنا من مختلف أرجاء البلاد، يجمعنا العمل أو محاولة العمل في السياسة من الموقع اليساري المعارض(104). جيء بنا وكل منا تحمل اختلافاتها عن الأخرى، اختلافات في العمر والتجربة.. اختلافات في النشأة والتربية والعادات اليومية.. اختلافات في الأمزجة والميول الشخصية. وهنا ابتدأ، ما سميته يوماً، المختبر البشري المركز، والذي لا يتاح إلا في مثل هذه الأماكن. مختبر تخضع فيه شخصياتنا إلى أقسى تجارب اجتماعية يمكن أن يخوضها البشر وأقسى وأهم تجربة من هذه التجارب، هي تجربة المواجهة مع الأنا واكتشافها، والشعور بالدهشة من مواصفاتها سواء الإيجابية أم السلبية. كذلك كانت تجربة المواجهة مع التاريخ الذي انقطع في لحظة الاعتقال، في عملية مراجعة أدّعي أنها لا تتم في عالم الحرية، بالتركيز والقوة التي تتم هنا).
دون تاريخ.
1983-1987
في الاعتقال الأول بقيت هند.ق، بعد شهور المنفردة التسعة، لمدة شهرين في مهجع الإسلاميات بفرع الأمن1. المعتقلات الإسلاميات في المهجع كنّ سبعاً وهي الثامنة. منهن: رجاء.أ (أم زهير)، أم خالد، أم صلاح، والأهم شفاء.ع(105)، استطاعت أن تبني وهند علاقة وطيدة على الرغم من كل المسافات بينهما. كانت الليالي تمضي وهما تحاولان تذكر بيوت الشعر وإكمالها، تذكر الأغنيات ومحاولات لاختلاق الجديد منها. شفاء صبية. لم تكن قد تجاوزت العشرين حين اعتقلت كرهينة عن زوجها، وكان صديقاً لأخيها. كانت تدرس الأدب العربي في الجامعة، وزواجها، الذي لم يستمر سوى سنة واحدة، انتهى باعتقالها وهرب زوجها إلى بلد مجاور.
هناك في عتمة السجون تعلمت هند ألا مكان للإيديولوجيات أو للآراء المسبقة، كلها تتراجع لصالح الحياة وحقيقة الإنسان. يبقى الوضع أن المعتقلة مضطرة لمعايشة أناس في الحيز الضيق نفسه من المكان شاءت ذلك أم أبت. إنسان لإنسان لا غير.. معتقلة لمعتقلة لا غير.
في الاعتقال الثاني سنة 1984 نقلت هند.ق، بعد شهرين في فرع الأمن1، إلى مهجع المعتقلات الإسلاميات في سجن النساء المدني.. كانت كالداخل إلى حقل ألغام. راحت الإسلاميات، حالما لمحنها والجة إلى باحة السجن الداخلية، يهمسن للشرطي القادم بها ألا يضعها في مهجعهن، إذا كان عليه أن يضعها في مهجع ما فليضعها إما في مهجع القتل أو الحشيش أو الدعارة، ذلك أن لفظة شيوعية بالنسبة إليهن كانت تعني شيئاً واحداً: الكفر والإلحاد.
لكن السجان، لسبب ما بالتأكيد، وضع هند في مهجع الإسلاميات، وأغلق عليها الباب. هناك ظلت هند حوالي ثلاث سنوات. ربما يستطيع المرء أن يداري حقيقته الداخلية شهراً أو شهرين، لكن من الصعب أن يداريها لسنوات. هناك في السجن يتعرى الإنسان، تنكشف كل دواخله، كل ما حاول الهروب منه من مشاكل داخلية تظهر إلى السطح، تتعرى، وتفضحه أمام الآخرين.
مهجع الإسلاميات كان يضم أربع عشرة معتقلة وهي الخامسة عشرة، مختلفات في الأعمار والطبقات، مختلفات في الأمزجة والتصرفات، والعلاقة بينها وبين الأخريات مرّت بمخاضات طويلة وعسيرة حتى استقامت في النهاية علاقات ودية مع معظمهن.
معتقلتان، لم تتجاوزا العشرين من عمرهما، أصبحتا صديقتين لهند وراحتا تفشيان أسرارهما أمامها. تلك الإسلامية، وكانت في الصف الثاني الثانوي حين اعتقلت، أضحت صديقة هند العزيزة، وكانت الأخيرة حاضرة في ذاك اليوم الذي شكّل منعطفاً في علاقتهما: جلب أهل الصبية، في أول زيارة لهم، مسجلة كانت سعيدة بها للغاية، وأدارت قفلها لتستمع إلى أغنية ما وهي تدخل المهجع عائدة من الزيارة. كانت تتمايل تحت عصف أحد الألحان حين خطفت إحدى الحاجات المسجلة من يدها ورمتها على الأرض لتتحطم إلى قطع:
ـ هذه أداة للفسق.. كان لازم اكسرها.
أجابت الحاجة على بكاء الصبية الهيستيري وعلى اعتراضات بعض الإسلاميات في المهجع.
أما الصغيرة سمية(106) فقد صاروا مع الوقت يطلقون عليها: بنت هند.
حين كان أهل هند يزورونها كانوا يأخذون الصغيرة في مشوار قصير حول مبنى السجن، ذلك أن الصغيرة ونساء عائلتها لم يكن يأتيهن زيارات البتة. لكن المفاجئ أن سمية كانت تخاف حدّ الرعب من العالم الخارجي، تبقى طيلة فترة رحلتها منكمشة تراقب الخارج بتوجس وريبة، ولا يعود وجهها الصغير إلى أمانه حتى تدخل باب السجن من جديد. جلبوا للصغيرة المحرومة من الزيارات(107) ألعاباً وكتباً وكاسيتات للأطفال وأرجوحة نصبت في منتصف المهجع. وأخيراً كانت الفرحة الكبرى حين أهديت دراجة هوائية لتلعب بها في باحة السجن أثناء فتح أبواب المهاجع.
…
وقت قدمت الدفعة الأولى من معتقلات سنة 1987 في فرع الأمن1 أصبح عدد الشيوعيات في سجن النساء خمس معتقلات وهن: فاطمة.ع(108)، أم كرم (زهرة.ك)(109)، شفق.ع(110)، وحسيبة.ع. بداية، تم وضعهن في مهجع القتل، وهناك بقيت حسيبة كالأخريات شهوراً طويلة. كانت المعتقلات الإسلاميات يأتين من مهجعهن المجاور إلى مهجع القتل لزيارتها.. نشأت علاقات طيبة بين تلك الشيوعية والإسلاميات. أما الصديقة المقربة لها فقد كانت طبيبة أخوانية تكتب الشعر اسمها: غزوة.ك(111).
عزيزة.ج(112) كانت تقود صلاة الجماعة في المهجع إلا أن علاقة ما استطاعت أن تخطّ طريقها بينها وبين حسيبة على الرغم من استحالة الأمر. لكنه حدث. حين كانتا تغسلان الثياب سوية تسألها حسيبة:
ـ سبّعت الغسيل؟!
كناية عن فضّ الغسيل بالماء سبع مرات، والأمر مأخوذ عن حديث للرسول محمد.
ابتسامة عزيزة كانت الرد الوحيد على ممازحة حسيبة. اشتركت المعتقلتان في الكثير من أشياء الحياة وتفاصيل الاعتقال اليومية. ذلك أن المعتقل يجعل داخل الإنسان هو الأهم، المزاج الشخصي هو الحاكم، ومعدن الإنسان في تفاصيل عيشه اليومي وليس الإيديولوجيات. بعد ذلك تم نقل جميع المعتقلات السياسيات بكافة أطيافهن إلى سجن النساء المدني الآخر. هناك أخذت الإسلاميات المهجع رقم 3و4، فيما أقامت الشيوعيات في المهجع رقم 6. أما المهجع 7 فقد كان للشيوعيات والقضائيات معاً، هذا ما جعل العلاقة بين السجينات تعود إلى سابق عهدها فاترة نوعاً ما. لكن ذلك لم يمنع الطبيبة الشيوعية: تماضر.ع(113) من أن تكون طبيبة الإسلاميات والشيوعيات والقضائيات بآن. حين كانت في فرع الأمن1، أو حين نقلت إلى سجن النساء، لم تمنعها تهمة المعتقلة المريضة، أياً كانت، من السهر بجانبها لساعات طوال.
في سجن النساء كتبت هند.ق نصاً كتبت فيه عن بداية العلاقة بينها وبين المعتقلات الإساميات:
(كدوي فتح باب زنزانتي: تعي فوراً..
ووجهاً لوجه صرت أمام رئيس فرع الأمن2 العسكري:
ـ شو يا هند، إلك عنا ستة شهور ما خدنا منك لا حق ولا باطل. مفكرة إذا ما حكيتي شي راح نطلعك، والله لخلي السجن يأكل من لحمك شقف.. إنت واحده مناضله، ناضجة ومثقفه، بس ناقصك شغله واحده، ناقصك ثقافة البطرونات (البترونات) والشراميط! راح ابعتك عاسجن القضائيات بسجن النساء مشان تكملي ثقافتك، شو رأيك؟ والله لارميكي رمية الكلاب، وتختخ عظامك، وخليكي مزتوته ليطلعو رفقاتك الشباب بالسجن بتتطلعي معهم. روحي تثقفي بسجن النساء وناضلي بين البروليتاريا تبعكم، دعارة وحشيش وقتل و و… والله لخلي الجن الأزرق ما يعرف وينك… انقلعي…خذوها. عدت لزنزانتي أضحك في عبي. أخيراً انتهيت من التحقيق والتعذيب، وأصوات التعذيب أيضاً. لم أفكر بكلماته أبداً: سجن النساء!!.. مستحيل. بادره لم تحصل سابقاً. هناك بعض السياسيات الإسلاميات أما نحن لا. اعتبرت كلامه نوع من التهديد، كلام بكلام. صار ذهني كالزمبرك، أكيد سيخلي سبيلي.. إفراج، ليش لأ، ما علي شي. أخذت نفساً عميقاً، حاولت الاستلقاء، ما كاد جسدي يلامس الأرض حتى اقتحم السجان مملكتي:
ـ ضبّي غراضك ويلا قومي.
كلبشوني، ووضعوا الطميشة على عيني، أدخلوني القفص وساقوني لسجن النساء.
كم تشوقت إلى عالم الأحياء فوق: الشمس، السماء، الشجر، وجوه المارة، الأطفال بلباسهم المدرسي. لم يستوقفني أي من هذه الأشياء في طريقي. تزاحمت الأسئلة، وسؤال وحيد أرعبني وسيطر عليّ: سألتقي أولئك النسوة؟! نسوة الكتب والكتاب؟ لا لا لا أصدق. عالم الكتب شيء والواقع شيء آخر. اقشعر بدني، خوف، ذعر، توتر، لا أصدق وجهاً لوجه مع عالم النسوة هذا؟ وفي مكان واحد وزمن واحد، في دوامتي هذه!! جاءني صوته:
ـ وصلنا يلا انزلي.
ماذا؟ وصلنا! بهذه السرعة، ثوان، مستحيل،عاد الصوت أقوى:
ـ شو ما سمعت، انزلي بقا.
و.. نزلت. استقبلني الشرطي منفوخاً أمامهم يسبق كلامه جسده:
ـ خرجك، شو محسبي البلد سايبه.
ختم صك عبوديتي، وأسلمني لدهاليز سجن النساء.
كم من أبواب الحديد والشبك!! لا أعرف كيف صرت في باحة السجن، تراجعت مذعورة والتصق ظهري ببابه. تراكضت النسوة، وكبلهاء وقفت دون حراك، ضممت كيس أغراضي وعصرته بيدي، كأنني أحمي نفسي من شيء ما. أصواتهم تلتصق بي: سياسيه!! شكلا سياسيه… شوفي ثيابها والله سياسيه. معهم حق، كيف لا.. وصلت في شهر آب وكنت ألبس بنطال جوخ وفيلد شتوي، ولوني أصفر باهت، وشعر منفوش، وكيس صغير فيه ممتلكاتي: كأس وصحن ودخان ومنشفة.
تكومت النسوة فوقي، واختلطت الأيدي والوجوه والأصوات:
ـ تهمتي حشيش..
ـ أنا سرقة.. وهي دعارة..
ـ أما أنا قتل..
ـ لا تخافي نحن ما منخوف..
ـ هي كرسي اقعدي ارتاحي..
ـ بدك قهوة ولاّ شاي؟.. بدك كاسة مي؟
ـ قديش إلك بالسجن؟..
ـ ما حدا معك..؟!!!
هطلت أسئلتهم كالرصاص وأنا المذعورة، أتقلقز على أقدامي، أخافهم، لا أريد لمسهم ولا كلامهم ولا حتى ضيافتهم. حاولت الابتعاد عنهم، أردت أن أصرخ: حلّوا عني. عربش الكلام بحنجرتي واختنقت، فعصرت كيسي بكل ما تبقى لي من قوة وهرسته، تمسكت به كغريق يتعلق بقشه، ونسوة الكتب حولي يروحون ويأتون. ضجيج، صخب، وكلامهم يرتطم على رأسي على جسدي، ولم يعدني لرشدي إلا صوت جهوري ووقح: كش برّه وبعيد، ناقصنا كافره، حطها بالغرفة الثانية.
فجأة حلّ خوفي وتوتري بين هؤلاء النسوة نسوة الكتب، وقع الكيس من يدي، لألتفت باتجاه الصوت اللعين، وفهمت كل شيء. كان الصوت من غرف الإسلاميات السياسيات. مقفلة كانت غرفهم حيث لا اختلاط بالتنفس. نصف النهار للسياسيات، والنصف الأخر للقضائيات. لكنهم يرون كل شيء من شبك أبواب الحديد. أذعن الشرطي وذهب للغرفة الثانية، سبقه صوت آخر ربما أقوى وربما أوقح:
ـ لا.. حطها مع القضائيات، مكانا مو عنا.
ونساء الكتب مازالوا يحومون حولي، أسمع همس كلماتهم:
ـ يا حرام لحالها لو معا حدى، بكره بجننوها، يا حرام.
جسدي يترنح، أذناي تلتقط أنصاف الكلام، وعيني تراقب المشهد، والشرطي لا حول له ولا قوة أمام سلاطين المال والدين، ونسوة الكتب حولي، ونسوة السياسة في أوكارها تملي على الشرطي مهمته. وأنا.. أين أنا من هذا؟ وأي عالم من القذارة هذا؟؟! عند المساء، وبعد أن فرضت فرضاً في إحدى غرف الإسلاميات، تكور جسدي المتعب الحزين في فراشي، وكيسي المقهور يلازمني كصديق يواسيني، يؤازرني، ويحميني. وفي عتمة الليل، هرب النوم مني، فأخذت أعد الثواني، منتظرة بفارغ الصبر خيوط الفجر لأهرول عند نسوة الكتب، نعم نسوة الكتب التصق بهم، وأعتذر، أجل.. أعتذر منهم.
وربما…
ربما… أبكي على صدر إحداهن)
سجن النساء 17/8/1984
في فرع الأمن1، وفي نهايات الثمانينيات، اعتقلت اللبنانيات العرفاتيات مع الشيوعيات والكتائبيات ومتهمات بعث العراق واللواتي اتهمن بالدعارة السياسية. كانت هناك أختان، تبلغ إحداهما السابعة عشرة والثانية السادسة عشرة، اسمهما بديعة وماري. فتاة لم تبلغ السادسة عشرة بعد متهمة بأنها عملت مع القوات اللبنانية. السجن السياسي كان تعبيراً حقيقياً عن فسيفساء المجتمع بكل طوائفه وأديانه، بكل اتجاهاته السياسية والفكرية والاجتماعية، السجن، ويا للسخرية، كان نواة حقيقية لمجتمع مدني حلم.
أم محمود العرفاتية سيدة في نهاية الأربعينيات، ممتلئة ذات وجه جميل، تدأب على فتح قبّة ثوبها الطويل لتكشف عن صدرها العارم الأبيض. الوقت يمضي بسرعة فيما تتحدث أم محمود، وهي دائماً تتحدث، عن تفاصيل علاقتها بزوجها، وترمي النكات الجنسية المثيرة بين الحين والآخر. الطعام والجنس هما كل ما يشغل أم محمود في مكان تنتفي فيه متعة الطعام وغواية الجنس!
أما المكان المفضل إليها فكان على السقيفة فوق المزدوجات، حيث تطلّ على الكوريدور وتراقب السجانة والمعتقلين الغادين والرائحين.
أما أميمة فقد كانت فنانة فلسطينية أردنية من الضفة الغربية، اتهمت بالعمالة المزدوجة، واعتقلت في سجون إسرائيل لمدة ستة أشهر. حين جاءت إلى البلد اعتقلت بتهمة التجسس لشهور أيضاً. أحبت شاباً درزياً من عرب الـ 48، وهي تدرس في جامعة نابلس، وحين اعتقلت في إسرائيل أخذوها إلى مكتب الضابط هناك، أعطوها إبراً أدّت إلى تنويمها فترة طويلة، ظلت أميمة شهوراً بعدها تتعالج من فقدان الذاكرة، وقد أدت تلك الإبر إلى مسح كامل في ذاكرتها. لا أحد يذكر أميمة إلا وهي متربعة على أرض الزنزانة تغني بصوت عال أهزوجة فلسطينية:
خوش بوش.. خوش بوش..
أنا وشامير بنفس الحوش.
رسمت في عيد رأس السنة بابا نويل وهو يحمل كيساً كبيراً من البرغل. كما رسمت الصبايا من فوق، وهي تراهنّ من السقيفة، يتكئن على حائط المزدوجة الداخلي مصطفات بجانب بعضهن يعملن بسنانير الصوف، تبدو رؤوسهن من فوق، أياديهن المنهمكة، والخيوط التي تتحول إلى ثياب ملونة.
أما العجوز اللبنانية السبعينية، المتهمة بانتمائها إلى حزب بعث العراق، فقد كانت تقعد في زاوية الزنزانة بجانب الباب لأن الربو يمنعها من التنفس جيداً.
كانت بثينة.ت والصبايا الأخريات يغنين لها أغنية فيروز:
بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي.
لجلطة التي تعرضت لها قبلاً منعتها من النطق جيداً، لذا فلم يكن يسمع منها إلا أصوات مبهمة عالية. أما مشهدها، والصبايا يحملنها إلى السقيفة بعد أن أنهين حمامها، فقد كان مألوفاً على مدى شهور اعتقلت فيها تلك العجوز في فرع الأمن1.
…
في أواخر الثمانينيات قدمت إلى فرع الأمن امرأة قصيرة بدينة، ترتدي بنطالاً ضيقاً وبلوزة قصيرة، كان اسمها عهد.ع. وعهد من مدينة شمالية تنتمي إلى بيئة شعبية وأسرة محافظة فقيرة. والدها كان يكتب الحجابات، وقد أجبرت هناك على لبس ملاية اللف السوداء. الجو المغلق الخانق جعل عهداً تترك أولادها الأربعة وتهرب مع ابن جيرانها إلى لبنان، لأنها أرادت، كما عبرت أمام المعتقلات مراراً، أن ترتدي بنطلون الجينز وبلوزة بنصف كم لا غير. هناك تركها الشاب وهرب لتصبح وحدها تماماً في بلد لا تعرف فيه أحداً. قررت، في لحظة ما، أن تذهب إلى الجنوب وتقوم بعملية انتحارية هناك! على الطريق أمسك بها بعض الشباب من معسكر العرفاتيين لتقعد في خدمتهم شهوراً طويلة. ومن ثم قاموا بتسليمها إلى أفراد من جيش بلدها لتصل أخيراً إلى فرع الأمن.
حين أدخلت عهد إلى المزدوجات كان ينبغي عليها أن تمارس طقساً تقوم به كل معتقلة جديدة: أن تستحم أولاً، ومن ثم ترتدي ثياباً نظيفة تعطيها إياها المعتقلات الأقدم هناك. كانت عهد تعاني من الجرب المنتشر في كامل جسمها. سألنها إن كان هناك قمل في شعرها فأجابت:
ـ لا يخلو الأمر.
وضعن على شعرها شامبو ضد القمل. بعد الحمام صار القمل ينزل من شعرها، وهن يمشطنها، كالمطر الأبيض على أرض المزدوجات. سألنها أيضاً إن كان ثمة أمراض أخرى تعاني منها غير القمل والجرب فأجابت:
ـ لا يخلو الأمر؟
ـ…؟
ـ ينزل لي أحياناً من تحت شلخات شلخات..
إحدى الممرضات الشيوعيات، وهي ملك.خ، راحت تدقق في إجابات عهد، تلاحقها بالأسئلة والاستفسارات عن وضعها وأعراض مرضها.. أخيراً قفلت ملك عائدة، كان وجهها أصفر شاحباً وهي تخبر الأخريات ألا يقربن عهد أبداً فقد كانت مصابة بالزهري. تلك الليلة حجزت البنات عهداً في حجرة من حجرات المزدوجات الأربع حتى الصباح. وفي الصباح طلبن من مدير السجن حلّ الأمر بسرعة وإلا سينتقل الزهري إلى جميع البنات في الزنزانة.
وضعت عهد في زنزانة منفردة لمدة أربعة أشهر ريثما تمت معالجتها تماماً، ومن ثم أعيدت إلى المزدوجات من جديد.
بإذن من الكاتبة روزا ياسين حسن، خصيصا لصفحات سورية