العلاقات اللبنانية – السورية .. إلى أين ؟
عبدالله تركماني
لا نستطيع مقاربة العلاقات اللبنانية – السورية بمعزل عن تاريخها المعقد، إذ لم تكن يوما مستقرة على أسس ثابتة بالرغم من آلاف التصريحات، والخطب، والبيانات المشتركة. إنّ هذه العلاقات تحتاج إلى بحث دقيق يؤسس لرؤيا مستقبلية، يستند إليها الطرفان في صياغة التفاصيل بين دولتين مستقلتين.
إنّ زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان هذه المرة إلى دمشق تختلف عن زيارات الرؤساء السابقين جميعا، من حيث الظروف والمعاني والمسؤوليات والتجارب. فمن الجانب اللبناني تبدأ التحديات بمدى قدرة الرئيس الجديد على مقاربة العلاقة المباشرة بينه وبين القيادة السورية على أسس جديدة، أما السلطة السورية فإن التحدي المطروح عليها هو أن تثبت أنها لم تعد تعمل على مصادرة القرار السياسي اللبناني بعد انسحاب قواتها منه.
وفي هذا السياق، يجدر باللبنانيين والسوريين أن ينتبهوا إلى أنّ التحولات الجارية في العالم، والتقلبات الخطيرة في الشرق الأوسط، تحتمان الحفاظ على الشخصية الوطنية لكل دولة عربية منعا من الانهيار والتفكك. ولا شك أنه لأمر محزن وبالغ الدلالة أن تفشل القوى القومية والوطنية والديمقراطية في لبنان وسورية، بعد ثلاثين عاما من الوجود السوري الرسمي في لبنان، في تطوير العلاقات بين البلدين إلى مستوى سوق مشتركة، وعلاقة قومية استراتيجية متكافئة، ونواة صلبة لاتحاد عربي ديمقراطي متطور.
وفي الواقع، إنّ الموقف من لبنان، ومن تطورات أوضاعه، عنوان حساس ومهم لدى كل نظام سوري، وإنّ التغيير الجوهري في مضمون الموقف، يتطلب إعمال الذهن في طبيعة التحولات البنيوية، التي يجب أن تطال بنية النظامين اللبناني والسوري.
إنّ العلاقات اللبنانية – السورية ذات خصوصية، ويفترض أن تكون مميزة فعلا، نظرا إلى ثقل التاريخ والجغرافيا والتداخل السكاني والمصاهرة والمصالح الاقتصادية المتبادلة. ذلك أنّ جسور التواصل والتفاهم تأثرت بعوامل القرابة العائلية والعناصر الثقافية العريقة التاريخية، فضلا عن قاعدة الجوار الجغرافي، التي يجب أن تمنع القطيعة أو دخول دوامة الخلاف الدائم.
ومن أجل ذلك، فإنّ الملفات المطروحة تتمثل – أساسا – في تصويب العلاقات بين البلدين، من خلال تبادل التمثيل الديبلوماسي كما هو الحال بين كافة الدول العربية الشقيقة، أملا بأن تؤدي هذه الخطوة لتعزيز الروابط على أكثر من صعيد، في إطار ما يوصف بالعلاقات الودية بين دولتين تتمتعان بالسيادة الحقيقية، وتطويرها لاحقا لما يخدم مصالح وطموحات الشعبين الشقيقين، اللذين يفتخران بانتمائهما معا للتاريخ المشترك والمعاناة الصادقة التي جمعتهما في تجارب صعبة كثيرة.
ولكن ينبغي الاعتراف بصعوبة حل كل القضايا الخلافية بل والمستعصية كلها، بحيث قد تكون وسيلة للتباعد من جديد، إلا إذا تم التعاطي معها بالنوايا الصادقة والثقة المتبادلة والرغبة الأكيدة بتأسيس علاقات مميزة. فمثلا لماذا لا يتم الفصل بين المحكمة الدولية والعلاقة بين الشعبين الشقيقين وترك المحكمة تأخذ مجراها الطبيعي ليتبين مَنْ وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري والجرائم الأخرى في حق اللبنانيين ؟ وهل الغموض يساعد في الهروب من المحكمة ؟
إنّ خفض التوقعات لا ينفي أنّ زيارة الرئيس اللبناني تكتسب أهمية في ذاتها، خصوصا أنها الأولى بعد توتر شديد أحدثه التمديد السوري القسري للرئيس السابق إميل لحود في سبتمبر/أيلول 2004، ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب سورية قسريا من لبنان في أبريل/نيسان 2005، وقبل كل ذلك الوصاية السورية على لبنان طوال ثلاثين سنة.
ويبدو أنّ القيادة السورية ستعطي على دفعات، كما هي عادتها، ومرحلة بعد أخرى وبالقطارة، وتحت الضغط الشديد للمجتمع الدولي، أو في مجال المساومة معه. إذ يبدو أنها تفضل أن ” تبيع ” ورقة التعامل الديبلوماسي مع لبنان، وكل الخطوات الأخرى، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا في ظل رئيس أمريكي جديد، تعتقد بإمكانية أن يعقد معها اتفاقا ملائما لها على الصعيد اللبناني خصوصا، حتى وإن عنى ذلك عدم عودتها إلى لبنان، ولكن يمكنها مقايضة ترك لبنان وشأنه وإقامة علاقات ديبلوماسية معه بجملة أمور، قد يكون من بينها موضوع المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
إنّ التجارب أثبتت أنّ بناء العلاقات بين الدول، بما فيها الدول العربية، على أساس إيديولوجي، أو على أساس ماضوي – تاريخي، هو بناء معرّض للتداعي، خصوصا عندما يفتقر إلى التوازن والمساواة وتكامل المصالح، وإلى قيم الحرية والديموقراطية واحترام القانون والسيادة والاستقلال، فيجنح عندئذ إلى نوع من المصادرة والوصاية، اللذين يؤديان إلى خلل كبير في العلاقات ويؤسسان لحالة من التنافر لا ينتج عنها سوى أضرار متبادلة.
إنّ الحل يبدأ من نقطتين كبيرتين تتفرع عنهما مئات التفاصيل: أولهما، إرادة السلطة السورية في أن تنظر إلى لبنان على أنه وطن مستقل ودولة مستقلة. وثانيهما، إرادة اللبنانيين في بناء دولة حديثة وقادرة، كي يتمكنوا من بناء علاقات ندية مع سورية ومع غيرها، على أساس المصالح المشتركة، والتي هي أهم معيار في العلاقات العربية والدولية.
ولا شك أنّ المواطنين اللبنانيين والسوريين سيسعدون كثيرا لرسوخ علاقات خالية من أية شوائب، لاقتناعهم الصائب بأنّ ذلك سينعكس عليهم رخاء واستقرارا وازدهارا، وسيضع البلدين مجددا ضمن مصاف الدول التي تفخر بوجود علاقات حسن الجوار في ما بينهما، مثلما هو الحال في كثير من مناطق العالم الأخرى.
*كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
الوقت البحرينية