اللقاء ـ المفتاح في دمشق و»الجريمة الكاملة« في طرابلس
طلال سلمان
هي »جريمة كاملة« تلك التي أهدرت فيها، صبيحة أمس، دماء طرابلس الفيحاء، والجنود الذين وهبوا أعمارهم للوطن، والفقراء والساعين إلى الرزق الحلال، فهزت لبنان كله ومعه سوريا التي كانت تستعد لاستقبال »العهد الجديد« الذي يصلها باسم »الوحدة الوطنية« ليبدأ منها وبمساعدتها مسيرة توطيد السلام الأهلي في لبنان.
هي »جريمة كاملة« في توقيتها، في مسرحها، في الضحايا الذين استهدفتهم بدم بارد، فضلاً عن أهدافها السياسية العديدة والخطيرة.
أما التوقيت فقد اختير، قبل الزيارة الرئاسية ومعها، متزامناً مع الذكرى الثانية لليوم الأخير من الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام ,,.٢٠٠٦ وربما كان من حسن الفطن أن نرى في هذه »الجريمة الكاملة« امتداداً لتلك الحرب، وكأنها فصل إضافي من عمليات القتل الهمجية التي استهدفت فيها إسرائيل المواطنين العزل، نساءً وشيوخاً وأطفالاً، بينما كان المجاهدون من رجال المقاومة، ومن خلفهم الجيش، يواصلون تدمير دباباتها والرد على صواريخها التي استهدفت مدننا بالصواريخ التي طالت، لأول مرة، عمق الكيان الإسرائيلي، وبينما كان وزير دفاعها يعطي الأوامر من منظار مغلق!
وأما المكان فعاصمة الشمال، طرابلس الشام، ذات التاريخ النضالي الوطني العريق، يجيئها أبناء جوارها جميعاً فيتخذون منها الحاضنة ومصدر الرزق، وهي »أم الفقير«، والمحطة التي منها ينطلقون إلى ما بعدها ثم يعودون إليها ليحملوا منها إلى عائلاتهم التي تنتظرهم الهدايا الرخيصة التي تستولد السعادة في قلوب الأطفال.
… وهي طرابلس، المثخنة بالجراح منذ ربع قرن أو يزيد، والتي لم تجد من يؤاسيها أو يعالج جراحها، في حين انها وجدت من يرى في الجراح استثماراً مجزياً فأعمل السكين فيها ليعمق الشرخ بين أهلها وأهلها، في داخلها أو في المحيط من حولها.
أما الضحايا، أمس، فهم بأغلبيتهم الساحقة من أبناء الأرياف، وبالذات منها عكار، ممن وجدوا في الجيش ـ فضلاً عن الجانب المعنوي ـ ملاذاً من البطالة والعوز، بعد بوار الزراعة وانعدام الصناعة والمشاريع المنتجة والمساعدة على التنمية، بفضل الإهمال الرسمي الدائم »للأطراف«، فانتسبوا إليه يعطونه شبابهم وعرق الجبين ويعطيهم الشعور بالأمان لعائلاتهم الفقيرة، إضافة إلى اعتزازهم بأنهم يخدمون الوطن الذي لم تعترف بهم دولته أبداً.
أما الأهداف السياسية لهذه »الجريمة الكاملة« فأولها وأخطرها هو التشويش على زيارة الرئيس ميشال سليمان للقاء الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق… وهي الزيارة ـ الحدث التي توقع منها اللبنانيون، والسوريون، أن تكون إعلاناً بانتهاء فترة الاضطراب الخطير في العلاقة الأخوية بين البلدين الشقيقين التي وصفت ذات يوم بأنها »تجسيد لإرادة الشعب الواحد في دولتين«…
لقد أمل اللبنانيون، ونحسب أن ذلك أمل السوريين أيضاً، من هذه الزيارة التي ستعتبر »تاريخية«، أن تكون المخرج الشرعي من ليل الأزمة التي عصفت بالعلاقات الأخوية وانحدرت بها حتى حدود »القطيعة« عبر حملات الكراهية التي كادت تنشئ »عنصرية قاتلة«… وخصوصاً أن مصالح »الدول« وأغراض السياسيين والمنتفعين بالخصومة، وأخطاء الإدارة اليومية، قد تسببت في استيلاد جو »حرب مفتوحة« بين البلدين الشقيقين والمتداخلة حدودهما والمصالح والأنساب إلى حد الطموح المشروع لبناء علاقة صحية بينهما تجعلهما »النموذج« الناجح لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الدول العربية جميعاً.
مؤسف أن هذه »الجريمة الكاملة« لن يكون سهلاً كشف »أبطالها« المخططين منهم والمنفذين، وإن كان سهلاً توصيفهم بأنهم أعداء »الوحدة الوطنية«، أعداء »السلام الأهلي«، وفي الوقت ذاته أعداء التقارب واستعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا، وخصوصاً أنها عنصر مؤثر وقوة دعم مهمة للعهد الجديد في جهده من أجل توطيد المصالحة الوطنية في الداخل.
وليس من باب الرجم بالغيب القول إن منفذي هذه »الجريمة الكاملة« قد اختاروا الجيش هدفاً بقصد مقصود… فهذا الجيش الوطني قد نجح، بحكمة قيادته والتفاف الشعب حوله ووعي المقاومة لأهمية دوره، ومع هذا جميعاً الدعم السوري المعلن، في حماية الوحدة الوطنية، وبين ركائزها حماية وحدته، ثم في حماية الركائز الأساسية لوحدة البلاد عبر الحرص على علاقته المميزة بالجيش السوري، وحمايتها من التشويش اليومي عليها.
بل إن قيادة هذا الجيش، وقد كان على رأسها العماد سليمان، رئيس الجمهورية الآن، لم تتردد في الاعلان رسمياً عن الدعم الذي تلقته من سوريا، والذي ساعدها في القضاء على الفتنة المدبرة التي كانت تستهدف وحدة الجيش أولاً، وهيبته، ودوره الجامع، عبر الحرب الإرهابية التي شنتها انطلاقاً من مخيم نهر البارد، والتي استهدفت الإخوة الفلسطينيين داخل المخيم بقدر استهدافها المواطنين في منطقة الشمال عموماً، بل ووحدة لبنان جميعاً بتحطيم الرموز الجامعة ومحاولة إيقاظ الفتنة النائمة.
ومع أن الحقيقة حول ذلك التنظيم المسمى »فتح الإسلام« لم تكشف بكاملها بعد، إلا أن »حربه« كانت واضحة الأهداف وواضحة الارتباط بتنظيمات أصولية، قد تكون متعددة اجتمعت على ضرب نقطة تقاطع خطيرة بين اللبنانيين (جيشاً وشعباً) والفلسطينيين والسوريين بإثارة الشبهات والريب وتحريك المواجع، لطمس أبعاد الجريمة التي ارتكبت ضد هؤلاء جميعاً.
من هنا تتخذ الزيارة الرئاسية إلى دمشق أبعاداً إضافية، ويصبح من مهامها الملحة أن تسرِّع في إنهاء فترة البرودة في العلاقات، وأن تسرع في الخطوات العملية الآيلة إلى تصحيح التشوهات ووجوه الخلل ومعالجة أسباب الحساسيات المرضية التي كادت تقطع الطريق ـ شريان الحياة بين بيروت ودمشق.
وتقضي الأمانة بأن نصارح القيادة السورية بأن اللبنانيين يتوقعون منها التجاوب مع الرغبة اللبنانية ليس فقط في تصحيح الخلل في العلاقات، بل كذلك المساهمة في معالجة بعض الجراح الغائرة التي تركتها التجربة التي كان مقدراً لها أن تكون رائدة فقصرت، وحرفتها الأغراض أحياناً وسوء التقدير أحياناً ولوثة الدم أحياناً، عن أهدافها الأصلية فانتهت بها إلى ما هو مخالف إلى حد النقيض لما كان يرتجى منها.
إنها ساعة لتصحيح الأخطاء تمهيداً لتجاوزها، بعيداً عن الحساسيات وبعيداً عن التأثر بالمهاترات السياسية، مزايدة ومناقصة.
إن الخطر الذي يتهدد لبنان مرشح لأن يصيب سوريا أيضاً، وبديهي أن ثمة مصلحة مشتركة في مواجهته بالجهود وقد توحدت.
ونفترض أن السوريين ليسوا أقل تشوقاً من اللبنانيين من رؤية هذه العلاقة بين الشقيقين التوأمين قد توطدت وترسخت ـ حتى لو قامت فيها السفارات ـ فالمهم أن تعود أخيراً إلى… طبيعتها!
السفير