الإسلاميون والقوميون في مواجهة الليبرالية
محمد المزوغي
لماذا يرفضها الاسلاميون؟ ولماذا ينتقدها الاشتراكيون؟ أين يلتقي معارضو الليبرالية من الإسلاميين واليساريين؟ يبدو من الواضح أنّ اليساريين، على الأقل الحاليين، لا يُعارضون المكاسب المدنية والسياسية الراسخة في المنظومة الليبرالية (السيادة الشعبية، العلمانية، الحرية الفردية)، هم ينتقدون الليبرالية للتناقض بين الشعارات المرفوعة، وبين تحقيقها في الواقع؛ يُحاسبونها على فترة تاريخها العبودي، وعلى حاضرها الاستعماري. الإسلاميون يرفضون الليبرالية لأنها، كما يدّعون، مناهضة للدين، ولا يَهمّ إن كان الليبراليون الأوائل لم يدينوا العبودية، والمحدثون منهم لم يدينوا الاستعمار ولا الإبادات التي اقترفها. هذا في نظر الإسلاميين لا أهمّية له وهو أمر ثانويّ، المهمّ هو الدين، لأنّ صلاحية حركة ما أو تنظيم سياسي أو تشريع مدنيّ تُقاس بمدى قربها أو بعدها من الدين كمرجع ثابت، والباقي هو من سَقطِ الأشياء.
في حقيقة الأمر يميل الإسلاميون المحدثون أكثر إلى البراغماتية، وينتهزون الفرص أينما سنحت لتحقيق أهدافهم ولو جزئيا، حتى على حساب الانسجام مع المبادئ. فهم لا يخشون الليبرالية إذا كانت منحصرة في مكانها، ومُنزوية في جغرافيّتها الأصلية. هم يحبّذونها ويرحّبون بها، فقط في الغرب، ومن دون مبادئ الليبرالية هم لا يُفضّلون إلاّ مبدأ فصل الدين عن الدولة، وضمان حقوق الأقليات الدينية. فعلا، العلمانية الغربية ـ إحدى المكوّنات الجوهرية للنظام الليبرالي ـ تُوفّر لهم حرية التديّن وتضمن لهم حقوقهم المنصوص عليها في الدساتير الغربية التي افتكّها الليبراليون، من السلط الدينية، منذ مطلع القرن المنصرم. وما كثرة تحركات الإسلاميّين في الغرب، والتمكين لهم في الأرض حتى عادوا لتصدير قوّتهم إلى البلدان العربية، إلاّ من جراء تمتّعهم بتلك القوانين التي سنّتها الدولة الحديثة والتي هي نابعة من صلب مبادئ الليبرالية. الإسلاميون، بمعنى ما، ينعمون بما لا يَنعمون به في العديد من بلدان العالم العربي. لكنهم واقعيا يرفضون الليبرالية جملة وتفصيلا في الداخل : مرفوضة حرية الرأي إن كانت تمسّ معتقداتهم، مرفوضة المساواة في الحقوق والواجبات بين الجنسين؛ مرفوضة علمانية الدولة؛ مرفوضة القوانين المدنية إن خالفت مبادئ الشريعة الإسلامية.
ماذا يفعل الإسلاميون “المعتدلون” (ومعهم القوميون العرب، أو فصيلة منهم)، لتسويغ مشروعية دمج الدين في الدولة؟ إنهم يستخدمون نفس الاستراتيجية التي استخدمها بعض الكتاب الكاثوليك في بداية القرن الماضي، أعني الاختراق والاحتواء. فكما أنّ مُصلحي الكنيسة وبعض المثقفين المسيحيين يُذيبون المبادئ المكوّنة لليبرالية في دينهم زاعمين أنّ الديمقراطية والحرية والفردانية لا تتعارض مع عقيدتهم بل هي في الحقيقة من جوهرها. كذلك يفعل الآن الإسلاميون والقوميون المتضامنون معهم. لا نعجب إذن عندما يطلع علينا من حين لآخر مفكّر قوميّ أو إسلاميّ “منفتح” لكي يُعلن بأن “جوهر الديمقراطية لا يتعارض مع جوهر الإسلام”. كما جاء في نص للدكتور علي خليفة الكواري، نُشر منذ بضعة أشهر في مجلة المستقبل العربي(1) . حسب رأيه «أغلب ما يُطرح باعتباره تناقضات بين الإسلام والديمقراطية ليس مصدره جوهر الإسلام ولا جوهر الديمقراطية »(2). ما مصدره إذن؟ يرى الكاتب أنّ مصدره «إمّا قراءة ليبرالية إقصائية تنظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجرد آلية للعقيدة الليبرالية ومتطابقة معها في القيم والمرجعية، وإما قراءة دينية متشدّدة تخلط بين ما هو من الدين الإسلامي بالضرورة، وهو الوحي، وفقه المسلمين وممارستهم التي تعبّر عن فكر إنساني يجب فهمه في إطار ظروفه وسياق عصره ومستوى المعرفة الإنسانية في ذلك العصر»(3). إذن نحن هنا أمام جبهتين متقابلتين، أعني جبهة الليبراليين وجبهة الإسلاميين المتشدّدين، اللتين رغم تعارضهما تتّفقان في نقطة موحدة، وهي أنّ الديمقراطية تتناقض مع الإسلام. الحلّ بالنسبة للكواري يكمن في تفادي التحيّز لواحد من هذين القطبين المتنافرين، يعني اختيار التعامل المسؤول «تجاه ما هو من الدين بالضرورة، وفي ضوء المصالح العامة للمجتمعات العربية»، ومن جهة أخرى عدم التغاضي عن «مقومات نظام الحكم الديمقراطي التي لا تقوم للديمقراطية قائمة إذا انتُقص واحد منها»(4). أما أبرز مقومات الديمقراطية فهي معروفة عند كل من اطلع على المراجع السياسية الحديثة، والكاتب يُعدّد منها العناصر الرئيسية التالية : السيادة الشعبية التامّة، أي لا سيادة لفرد أو قلّة على الشعب، والشعب هو مصدر السلطات، ومبدأ المواطنة الكاملة المتساوية دون تمييز، والاحتكام إلى شرعية دستور ديمقراطي.
الكواري يستبعد بشدّة أيّ محاولة للاستئثار بالحكم من طرف شخص أو أقلية أو رجال دين، على حساب الشعب الذي يبقى دائما مصدر السلطات والسيادة. إذن، عن دولة دينية ثيوقراطية، على شكل ولاية الفقيه، لا يمكن أن نتحدّث إطلاقا. وهذا شيء جميل ومسرّ ولا سبيل للاختلاف فيه معه. لكنّ الكواري يفتح ثغرة في النسق الديمقراطي لكي يُعيد للدين سلطته مرة أخرى، وبصيغة تبدو للوهلة الأولى لطيفة لكنها في حقيقة الأمر أشدّ نكالا. فلنسمع لأقواله : المقدمة معقولة جدّا: «إنّ الشعب في أية دولة ديمقراطية معاصرة يمارس سلطاته، ومنها التشريع، وفق شرعية دستور ديمقراطي وفي ضوء ما يضعه الدستور من قيود». هذا الكلام، أكرّر مرة أخرى، معقول ولا غبار عليه، وهو من جوهر النظام الليبرالي، بل من جوهر الديمقراطية. المُعضلة هي هذه: « وقد رأيتُ أن تقييد المشرّع، في دولة معظم سكانها مسلمون، بمبادئ الشريعة الإسلامية (ومن ثم إحالة أوجه الاختلاف حول دستورية القوانين ـ في ضوء اعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع ـ إلى محكمة دستورية أسوة بكافة القوانين) يمثل مقاربة لا تتعارض مع الديمقراطية الدستورية ـ التي تقبل تقييد سلطة المشرع ديمقراطيا ـ وتزيل في الوقت نفسه شبهة التناقض المزعوم بين الإسلام والديمقراطية بسبب الربط الخاطئ بين النص على كون مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع وقيام حكومة دينية».
هذا من جهة الالتباسات النظرية، أما عمليا فإن هذه المقاربة حسب رأي الكواري « تفتح آفاقا للتوافق بين التيارات الإسلامية والتيارات الوطنية على نظم حكم ديمقراطية بديلة لنظم حكم الفرد أو القلّة في الأقطار العربية »(5). ثم في مَوضع آخر يوضح رأيه بأكثر تعمق، موردا مثالا عينيا لدولة عربية: « ومثال ذلك حالة الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة التي يقف التعارض المزعوم بين سلطة الشعب في التشريع والالتزام بما هو من الدين الإسلامي بالضرورة، حيث يُمكن النصّ في الدستور الديمقراطي على أن تكون “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع” وأن يُحال الاختلاف حول دستورية القوانين، وفق هذا النص، على المحكمة الدستورية مثلما هو النص الراهن في المادة (2) من دستور جمهورية مصر العربية لعام 1972. وهذه المقاربة تمنع قيام أيّ شكل من إشكال الحكومة الدينية، وفي الوقت نفسه تقيد المشرع دستورياً بمبادئ الشريعة الإسلامية (6)».
أرى أن هذه المقاربة تشكو خلالا نظريا فادحا، إضافة إلى تناقضات عملية في غاية الخطورة. أنا أعلم أن من حين لآخر تقع ردّة فعل من طرف مفكرين تنويريين ويساريين على منطلقاتهم ومبادئهم وينحنون حتى إلى مواقف دينية متطرفة وأكثر مغالاة من المتدينين أنفسهم. والمثال الأجلى على ذلك هو تلك الثلة من اليمينين المحافظين الجُدد الأمريكان الذين أتى معظمهم من أقصى اليسار التروتسكي.
الانضمام إلى نهج الإسلاميين والاتفاق معهم بأنّ الديمقراطية لا ترتبط بالعلمانية، أو الزعم بأنه «لا يجوز الاستمرار، كذلك، في الخطأ في ربط الديمقراطية بالليبرالية التي هي عقيدة تنافس غيرها من العقائد »(7)، هو خطأ فادح. لا بدّ للديمقراطية، كي تتحقق وتتجذر في المجتمع، من أرضية ليبرالية حتى وإن كانت، كما يدعوها الكواري “عقيدة”. وللتوضيح، فإن كاتب هذه السطور، ليس هو من أتباع الليبرالية ولا من جمهرة الذين صُعقوا بها من العرب المحدثين، لأنّ تفضيله يذهب إلى المنظومة الاشتراكية التي تجاوزت تناقضات الليبرالية البورجوازية، وتخطّت جوانبها العنصرية الاستعمارية، دون أن تتخلى عن قاعدتها التحرّرية، أو ترفض ما قبليا أحسن انجازاتها.
إذن مِن المحال نظريا وعمليا أن تكون هناك ديمقراطية متينة وراسخة، إذا اعتُمِد على عقيدة دينية تعتمد هي بدورها على مراجع متعالية عابرة للزمان والمكان، أعني الوحي والكتب المقدسة. الليبرالية، إذا أخذناها كعقيدة، فهي لا تجعل من “مقدساتها”، إن صح التعبير، كيانات متعالية وإنما مبادئ مُحايثة ودنيوية (رغم أن الليبرالية لا تنفي الدين وليست عدوّة له)، بحيث إنها تؤمن بالتقدم المطّرد، وبتعويل الإنسان على طاقاته الذاتية؛ لا تعتبر الإنسان قاصرا على تسيير شؤونه بنفسه؛ لا تؤمن بأنّ مشاكل الإنسانية يمكن أن تُحلّ عن طريق وحي منزّل أو تطبيق تعاليم كتاب مقدّس. لكن العقيدة الدينية تؤمن بهذا وأكثر. فهي ترى أنّ الإنسان، عقلا ووجدانا، قاصر عن معرفة العالم وعن تسيير شؤونه الحياتية؛ تفرض الاعتقاد بوحي صادق وكتاب منزّل؛ الحرية، في العقيدة الدينية، مقبولة عن مضض وهي محصورة في اختيار واتباع مذهب معيّن متفرّع عن الدين الرسمي، أما الخروج عن الدين أو انتقاده أو الكفر به، فلا يجوز بتاتا وقد يُعرّض صاحبه للعقاب؛ العقيدة الدينية لا تكتفي بالإيمان بتعاليمها، بل تعمل على تطبيقها عن طريق شرائع وإلزامات مستمَدّة من تراث فقهي قانوني عتيق لا يخلو من التعذيب الجسدي وممارسات قبيحة أخرى. السؤال المشروع إذن: ما هي العقيدة ـ إذا سلمنا جدلا بأن الليبرالية هي عقيدة كالعقائد الدينية الأخرى ـ الصالحة لعصرنا والأكثر ملائمة لمفهوم الديمقراطية؟
من وجهة نظر سياسية يبدو أن مقاربة الكواري تتعارض رأسا مع النظام الديمقراطي الدستوري، فضلا عن المنظومة الليبرالية ككلّ. لأنّ التحدّي الفعليّ هو هذا : هل يمكن لمحكمة دستورية، جعلت من ركيزتها الأولى مبادئ منظومة دينية، أن تَنشط وتُشرّع وتُراقب دون أن تأخذ بعين الاعتبار التراث الفقهي لذاك الدين، لا بل الاحتكام للنص المؤسس ذاته، أعني في حالتنا هذه للقرآن الذي يحتوي على حدود واضحة وصريحة ولا يمكن لأي إسلامي، مهما كان تفتّحه ومهما كان إيمانه بالديمقراطية، أن يُفرّط فيها البتة؟ هل يستطيع المشرع أن يجادل في مشروعيّة ودستوريّة تطبيق الحدود (قطع يد السارق، رجم الزاني، جلد المخمور، إلخ) في ظل دولة تعتبر دستورها مستمَداّ من الشريعة الإسلامية وتلتزم بمبادئ تلك الشريعة، حتى في خطوطها العريضة؟ إذا أراد المشرّع أن يجادل في تلك الحدود أو أن يراجعها أو يُعطّلها أو حتى يتجرّأ على رفضها فإن أوّل من سيقف ضده هي المحكمة الدستورية ذاتها، وستكبّله بما نص عليه الدستور، بحيث إنه لا مخرج له إلاّ بالانصياع إلى ما خطّت يداه. ولذلك فإن الإسلاميين المتشدّدين هم في هذه الحال أكثر انسجاما حينما يلتزمون بالنصوص الفقهية التي تُخوّل لهم سحل الكتّاب والمفكرين الأحرار إلى المحاكم وتطليقهم من نسائهم، وتسمح لهم دون خجل بإعلان نيّتهم إدخال الجزية (المنصوص عليها في القرآن) والتمسّك حتى بالطريقة التي تُعطى بها، أي الذلة والمهانة.
البديهية هي هذه : مَن ينصّ، كما في مصر، على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فإنه يترقّب هذا وأكثر. الإسلاميون لا يَرضون بأنصاف الحلول، لا تعنيهم الديمقراطية في ذاتها، ولا الحرية بأنواعها ولا أي شيء آخر، والدليل على ذلك أنهم يتأقلمون مع شتّى أنواع نظم الحكم (من المَلكيّة القروسطية إلى الديكتاتورية في أبشع أصنافها)، فقط إن نزلت عند رغبتهم وحققت بعض أغراضهم. لن أشطّ ـ وواقع الحال يؤيدني ـ إذا قلت بأن همّهم الوحيد وغايتهم القصوى هي الانقضاض على ذاك النزر القليل من المكتسبات المدنية في الدولة العربية الحديثة، وتعذيب الخلق وسحلهم أسفل سافلين. أنا لا أرى أي مخرج للقوميين إن تحدّاهم أحدهم وطلب منهم أن يعارضوا، بكل ما أوتوا من جهد نظري، أيّ حدّ من الحدود المقرّرة في الفقه الإسلامي كحدّ الرّجم مثلا. إنه أبشع أنواع التعذيب الذي لم تر له البشرية مثيلا، إنه البربرية في أقصى معانيها، ولا نجد ما يوازيه إلاّ حدّ الحرق بالنار عند المسيحيين الذين طبّقوه لمدّة قرون على ما يسمى بالهراطقة.
الإسلاميون مستعدون للتحالف مع الشيطان، أي، من وجهة نظرهم، مع الكنيسة ومع أطياف المسيحيين الرجعيين، الذين يسخرون من دينهم ويحطون من تاريخهم، لضرب الحريات ومكتسبات المجتمع المدني. هذا ما أقرّه راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية في مقال له نشر بمجلة المستقبل العربي: « ولذلك لا عجب أن يجد منتسبون إلى ديانات مختلفة أنفسهم على جبهة واحدة، يقاتلون جماعات ودولا حاملة لهذا الطاعون [العلمانية] المهدّد لكل الروابط الاجتماعية الإنسانية ابتداءً بالنواة الأولى، التي تفرّعت عنها الإنسانية، ولا تزال يتخلق فيها الروح الإنساني، أعني الأسرة. ففي مؤتمرات السكان التي عقدتها الأمم المتحدة انقسم العالم إلى معسكرين، معسكر ديني، وآخر علماني شمولي : الأول يدافع عن الأسرة بالصورة التي عرفت بها، وعن علاقات العفّة والزواج، وكان المسلمون، ممثلين بالأزهر وحركات الإسلام، جنبا إلى جنب في هذا المعسكر مع ممثلي الكنيسة الكاثوليكية، في مواجهة المعسكر الثاني الليبرالي مناضلا من أجل انطلاقة الاندفاعات الجنسية بلا حدود غير حدود الحرية الشخصية، بما يشرع كل سبيل لتدمير الأسرة، من الإجهاض إلى الشذوذ وما يسمّونه بالزواج المثليّ تحت مسمّى الأسرة متعدّدة الأشكال »(8). لكن، قد فات زعيم حركة النهضة أنّ صنف الأسرة الذي تُدافع عنه الكنيسة يختلف عن ذاك الذي يُدافع عنه الإسلاميون، حتى وإن اجتمع كلاهما ظاهريا على المبدأ.
الإسلاميون لا يجدون أيّ مانع شرعي من أن يَعقِد أحدهم على فتاة صغيرة في سنّ التاسعة أو أقلّ أو أكثر بقليل (انظر فتاوى الشيوخ المبثوثة في انترنت)؛ لا يُحرّمون تعدّد الزوجات؛ لا يسمحون للمرأة بأن تسافر أو تُدير شؤونها دون وصاية ذكر، وإن كان غير بالغ؛ يُشرّعون لرجم الرجال والنساء الذين يربطون علاقة خارج إطار الزوجية، وأشياء أخرى في التشريع الإسلامي مناهضة لأبسط حقوق الإنسان. مهما كان الاتفاق، فإنّ الاختلاف كبير والبون شاسع بين النظامين. الكنيسة لا تُلزم بقوانينها، حتى وإن أرادت ذلك من كلّ قلبها، المجتمع المدني والدولة وأهل الاختصاص من المشرّعين بأن ينصاعوا إلى أوامرها ويحققوا تعاليم الإنجيل على حرفيتها كما كان الشأن في القرون الوسطى. الدستور، وذلك ضدّ تعاليم الكنيسة وفي معارضة صارخة لإرادتها، يحفظ حقّ المثليين رجالا ونساء، كما يُؤمّن حقّ غيرهم في إنشاء أسرة وفي اختيار طريقة حياتهم دون أن يُطلق على أحد منهم اللقب التحقيري الذي يستخدمه الإسلاميون “شاذّ”، ودون أن تُهضَم حقوقه المشروعة. والدليل على ذلك أنّه في كل سنة تُقام تظاهرة للجنسمثليين يأتونها من العالم أجمع وتجوب شوارع روما، في تحدّ صارخ للمرجعية الكنسية، وتصل إلى تخوم المدينة المقدّسة للمسيحيين أعني الفاتيكان. وما كان لهؤلاء الأفراد أن يتظاهروا ويُعبّروا عن رأيهم لولا النظام العلماني، الذي يفصل الدين عن الدولة. فالمسيحية والإسلام واليهودية وأديان أخرى، تنظر إلى الجنسمثلي ككائن إنسانيّته منقوصة في العمق، كشاذّ ومضادّ للطبيعة، لكنّ الدولة العلمانية، لا يهمّها اختياره الجنسيّ فهو، على الرغم من ذلك، يبقى إنسانا بأتمّ معنى الكلمة، له من الحقوق والواجبات ما على أيّ فرد من أفراد المجتمع. إنّ هذا الكسب الحقوقي، كما قلت، ما كان ليتحقّق لولا العلمانية التي يحقد عليها الإسلاميون، والمسيحيون على حدّ سواء. لكن الأخطر من ذلك هو أنه إذا فتحنا أيّ مرجع من مراجع الفقه الإسلامي، لوجدنا أنّ حكم ما يسمى بالشاذّ، حسب العبارة المنكّلة للإسلاميين، هي القتل بطُرق شتّى إحداها أبشع من الأخرى. نهاية تعيسة جدّا، لا إنسانية، ومناهضة لأبسط قوانين التعايش البشري. لكن أكثر تعاسة، وأشد لاإنسانية هو ما تعمد إليه فرقة أخرى من المسلمين، أعني الشيعة، الذين يسدّون مخرج المثليين بلصاق قويّ، ثم يُناولونهم مُسهلا ويتركونهم يتخبّطون في آلامهم الفظيعة حتى الموت. لا أريد المواصلة، نحن في فلم رعب وحشيّ. وأظنّ أنّ جميع هؤلاء المُجرمين لا يرون أنّ ما يفعلونه مناهض للدين أو مخالف لتعاليم الشريعة الإسلامية، بل هم، إن أردنا استخدام عبارات الكواري، ليسوا في تعارض مع روح الوحي.
أرى أن المشرّع التونسي، وأنا أتكلّم دون عقدة قومية، كان أكثر حصافة حينما استبعد التنصيص في الدستور على أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. فخلافا لجلّ دساتير الدول الإسلامية، يقول الحقوقي محمد الشرفي «لا أثر للقول بأنّ الدولة إسلامية، أو بأنّ “الإسلام هو دين الدولة” ولا القول بأنّ “الشريعة الإسلامية هي مصدر القانون” أو “مصدره الأساسي” أو “أحد مصادره” ولا حتى أنه مصدر من مصادر “التأويل” التي يلجأ إليها القاضي أو مصدر من مصادر “الاستلهام” التي يستأنس بها المشرّع، بل إن الفصل الخامس من الدستور ينص ـ خلافا لذلك كله ـ على “حرية المعتقد” كما ينص الفصل السادس على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، أي بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة وهو أمر مخالف للفقه (9)الإسلامي ».
لقد أنقذ المشرع التونسي السلطة التشريعية من تفتيت طاقتها الذهنية للوصل بين تشريعين يتضارب أحدهما مع الآخر في المنطلقات والأهداف. أما التركيز على أنّ علماء الدين لا يستأثرون بالحكم في الدولة الديمقراطية، فهذا فيه نظر وتدقيق، لأنّ المبادئ التي انطلق منها الكواري تجيز ذلك، بل ربما تفرضه. فعلا، هل تستطيع محكمة دستورية مقيدة بالشريعة الإسلامية أن تشتغل دون استشارة علماء الدين في شؤون التشريع؟ هل يمكنها أن تصدر قانونا يخص الأحوال الشخصية دون أن تعود إلى كتب الفقه أو إلى من لهم دراية به؟ لا يمكنها أبدا. وإذا فعلت ذلك، أي إذا استفتت أهل العلم، فإنها ستجد الإجابة جاهزة ومنضودة أمامها منذ 14 قرنا. وهذه عيّنة لما يمكن أن تستمدّه المحكمة الدستورية المقيّدة فقط بروح الشريعة الإسلامية، كما يقول الكواري، من علماء الدين بخصوص حدّ ما يسمى باللواط، أي الحدّ المنزّل على المواطنين الذين اختاروا طريقتهم الشخصية في الممارسة الجنسية.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي: « حرَّم الله الزّنى وحرَّم الوسائل المفضية إليه، وحرّم كذلك هذا الشذوذ الجنسي “الذي يعرف بعمل قوم لوط أو “اللواط فهذا العمل الخبيث انتكاس في الفطرة، وانغماس في حمأة القذارة وإفساد للرجولة، وجناية على حقّ الأنوثة. وانتشار هذه الخطيئة القذرة في جماعة، يفسد عليهم حياتهم ويجعلهم عبيدًا لها، وينسيهم كلّ خلق وعرف وذوق، وحسبنا في هذا ما ذكره القرآن الكريم عن قوم لوط الذين ابتكروا هذه الفاحشة القذرة، وكانوا يَدَعُون نساءهم الطيبات الحلال ليأتوا تلك الشهوة الخبيثة الحرام. ولهذا قال لهم نبيهم لوط : (أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (الشعراء)).
ودمغهم القرآن – على لسان لوط – بالعدوان والجهل والإسراف والفساد والإجرام، في عدد من الآيات.
ومن أغرب مواقف هؤلاء القوم التي ظهر فيها اعوجاج فطرتهم، وفقدان رشدهم، وانحطاط أخلاقهم، وفساد أذواقهم، موقفهم من ضيوف لوط الذين كانوا ملائكة عذاب أرسلهم الله في صورة البشر، ابتلاء لأولئك القوم وتسجيلا لذلك الموقف عليهم، وهو الذي حكاه القرآن: (ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يُهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال يا قوم هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حقّ وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك). (هود: 77 – 81). وقد اختلف فقهاء الإسلام في عقوبة من ارتكب هذه الفاحشة:
أيحدّان حد الزنى؟ أم يُقتل الفاعل والمفعول به؟ وبأيّ وسيلة يقتلان؟ أبالسيف؟ أم بالنار؟ أم إلقاء من فوق جدار؟ وهذا التشديد الذي قد يبدو قاسيًا إنما هو تطهير للمجتمع الإسلامي من هذه الجرائم الفاسدة الضارة التي لا يتولّد عنها إلا الهلاك والإهلاك».
نريد أن نرى أي محكمة دستورية، وأيّ مؤسسة تشريعية، في أيّ دولة تجعل من الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا، أو حتى ثانويا، لسنّ القوانين، تتحدّى هذه الأقوال وتُصدر قانونا لا يُجرّم من اختار حياته الجنسية بحرية. المحكمة الدستورية هنا ليس لديها الحرية إلاّ في اختيار طريقة الحدّ، والتي عيّنها لها فقهاء الإسلام القدماء والمحدثون، أعني إما السيف، أو الحرق بالنار، أو القذف من فوق جدار.
وأضيف، لرفع أيّ التباس، بأن لا أحد من اللاهوتيين المسيحيين يقول شيئا مخالفا لهذا، وإدانة المثلية عندهم لا تختلف في تعليلاتها عمّا جاء عند المسلمين، لكنّ العلمانية فقط هي التي كبحتهم عن تنفيذ العقوبات فيهم. ماذا تستطيع أن تفعل المحكمة الدستورية أمام نصوص دامغة من هذا القبيل، والمستمدّة من نفس المنبع الذي تلتزم به مبدئيا؟ لا شيء حقيقة، إنها في مأزق حقوقي رهيب، وستبقى مكبّلة تتخبّط في هذا المأزق ما دامت متشبثة بذاك البند الكارثي. أهذا هو المستنقع الذي يريد أن يُلقينا فيه الإسلاميون “المعتدلون” والمتعاضدون معهم من القوميين أو حتى اليساريين الناكسين؟
نحن نعلم، والتجربة تثبت ذلك، أنه إذا حدثت فرجة صغيرة في الدستور تسمح للدين، حتى في معناه الغائم، بالتدخل في شؤون الناس فإن المؤمنين سينفلتون منها، ويلتفون عليها جاعلين منها بؤرة حجاجهم ضد الدستور والمشرعين والحكومات كلها.
بقيت ملاحظة أخرى لا بدّ من الإدلاء بها هنا، وهي أنّ الخطاب القيامي للمتدينين، وإرادتهم مصادرة الحقوق الدستورية والحريات العامة على أساس أنها تمس من الأسرة، أو من العفة والأخلاق العامة، كما يحدث في الغرب، لهي في أتمّ مراتب التمويه والمراوغة. والغريب في الأمر أنهم يتمادون في تسريب معلومات مغلوطة أو مبالغ فيها، وهم يعلمون أنه يكفي لأي واحد من القراء الرجوع إلى الكتب والمصنفات التاريخية، أو حتى السباحة في انترنت للتثبت من صحة أو خطأ تلك المعلومات القيامية. الكواري نفسه، وهذا أمر يؤسف له، بدا وكأنه يَنضمّ إلى هذه الفرقة التي غايتها، حسب رأيي، ضرب المنظومة الليبرالية عموما والديمقراطية المتولدة عنها خصوصا. فهو يعلن أن «ما نراه في الغرب من حريات فردية مطلقة، وقيم اجتماعية متطرّفة، تتناقض مع القيم الدينية عامة، هي نتيجة الممارسة الديمقراطية في مجتمعات تدين بالعقيدة الليبرالية، وليست ضرورة من ضرورات الديمقراطية »(10). هذه مغالطة واضحة وصريحة، وكأن المجتمع الغربي هو مجتمع وحوش رهيبة، تجوب الأدغال ويفترس كل واحد منها الآخر، دون قانون أو رادع. أي منطق هذا؟ أهذا هو الاعتراف بالجميل لتلك الدول الغربية التي تضمن للهاربين من الديكتاتوريات حقوقهم وتوفر لهم ملاذا آمنا؟ أنا لا أدافع عن الغرب، ولا أُعلي من أي حضارة على أخرى، ولا تخفى عنّي نقائص النظام الليبرالي الغربي وازدواجيته وتناقضاته، ولكن قليلا من الموضوعية مطلوب في هذا الشأن. الحقيقة هي أنه لا واحدة من الدول الغربية، بل لا واحدة من المجتمعات الغربية يسكن فيها ما أسماه الغنوشي “الطاعون المهدّد لكل الروابط والأنسجة الاجتماعية”، أو أنها مخترقة بما أسماه الكواري “قيم اجتماعية متطرفة”، لأنه لو كان الأمر على هذه الشاكلة، لما دامت تلك المجتمعات طرفة عين، ولما واصلت في ازدهارها وريادتها للعالم، بل لسقطت في أحلك عهود التوحّش والهمجية. لكن، إلى حدّ الآن، لم يحدث شيء من هذا القبيل، بل العكس هو الصحيح، لأن واقع الحال يُثبت أن المجتمعات التي تسير على هدي الشريعة الإسلامية، لهي أكثر المجتمعات التي يُعشش فيها التفسّخ الأخلاقي والعنف والدكتاتورية والتخلف.
المؤكد على أية حال، والأخطر من ذلك، هو أن هذا الخطاب القيامي الجياش الذي يعمد إليه المتدينون لتبرير اعتداءاتهم على الحريات المدنية ونسف المكاسب العلمانية وإدانة من يختار نهج حياته الشخصية بكامل الحرية، يجد له تطبيقا في الواقع من طرف قطيع الفاشستيين الغربيين (ومعظمهم متديّنون وموالون للكنيسة)، الذين من حين لآخر، يُؤذون المهاجرين ويُعنفون الجنسمثليين في الشوارع.
نحن نرفض أن يَنصّ أي دستور، في أي نظام حكم في العالم، على أنّ الشريعة الدينية لأغلبية ما، هي المعين الأوحد لسن القوانين، أو هي الحد الأقصى الملزم له في تشريعاته. ولا ينبغي المهادنة أبدا بخصوص هذه النقطة، ولا المواربة خلف تعلة أن الأغلبية مسلمة، لأنّ المخاطر من تمزيق المجتمع وإرجاعه إلى أحلك عهود القرون الوسطى تتربّص به من كل صوب وحدب. مخاوفنا ليست خيالية، ولا هي مجرد افتراضات مبنيّة على الهواء. الشهادات التاريخية موجودة والوقائع العينية حاضرة بوفرة، ومروعة جدا. أن ترى في القرن الواحد والعشرين صورا منشورة في شبكات إنترنت لشاب أو شابة أو كهل في الصومال أو إيران أو السعودية أو السودان، وهم موضوعون في حفرة حتى الحزام ويُقذفون بالحجارة التي حدّد الفقه الإسلامي حتى حجمها ووزنها، ثم يُخرجون من تلك الحفرة وقد لفظوا أنفاسهم تحت أبشع أنواع التعذيب، فهذا أمر ينكّل بعقولنا أشد التنكيل، ويدمّر حسّنا الإنساني أيما تدمير. أنا أتحدّى أيّ واحد من هؤلاء الذين يتضامنون مع الإسلاميين أن يَمرّ هو نفسه، أو أحد أقربائه، بتجربة من هذا القبيل، أي أن يُنكّل به في الساحة العامّة ويُسام سوء العذاب، على مرأى ومسمع الجميع. ما الفرق بين الأمريكاني الذي يعذّب الناس في أبو غريب ومن يعذّبهم في الساحة العامّة؟ أحدهما يفعل ذلك بسبب الحقد والكراهية والضغينة، وبأوامر لاقانونية من أكابره، لكنه، إن اكتُشف أمره وثبتت إدانته، فهو معرّض للعقاب من طرف سلطة قضائية تمنع التعذيب، أما ثانيهما فهو يفعل ذلك بأمر من الله، وبالتالي فهو مُبَرّر من خالق هذا الكون ولا يجوز أبدا تجريمه أو محاكمته. لا يمكن إطلاقا قبول كليهما، وخصوصا لا يمكن قبول الثاني لأنه أكثر إصرار وأشد نكالا على البشرية.
التهاون أمام هذه المسائل نقص في الحصافة، والمثقفون القوميون أو غيرهم من المتعاطفين مع التيارات الإسلامية يجب عليهم أن يعوا بمسؤوليتهم، ويُدركوا أن فتح أي ثغرة في الدولة الديمقراطية العلمانية هو وبال على المجتمع وعلى المكتسبات المدنية ككل.
المثقفون العقلانيون العرب، والمنسجمون مع مبادئهم، جميعهم متفقون على أنّ العالم العربي في وضعية حرجة، ويرزح تحت الهيمنة الخارجية والطغيان الداخلي، لكنهم لا يرون الحل في التراجع عن تلك المكتسبات العلمانية المدنية، حتى وإن كانت ضئيلة، أو التقهقر إلى الوراء واستمداد الحكم الرشيد من ماض أسطوري لاتاريخي. ومن المؤسف جدا أن نرى كيف أن بعض الدول العربية أخذت رويدا رويدا تتراجع عن ذاك النزر القليل من المكتسبات العلمانية وبدأت تنحاز إلى نظرة دينية للمجتمع، وربما تتنازل من حين لآخر للإسلاميين عن بعض صلاحياتها. فكما أنّ تيارات اليمين الغربي تنمو وتترعرع في الأزمة، كذلك هي الحال بالنسبة للإسلاميين. ففي كل مرّة تحدث فيها أزمة شاملة وحادّة إلاّ ازداد التديّن، ورفع رجال الدين أصواتهم للتنبيه على أن سبب ما يحدث في المجتمع (يسمّونه أمّة) هو الابتعاد عن الدين، وأن النهج القويم هو العودة إلى الله والتمسّك بتعاليم الإسلام وتطبيق الشريعة. لقد حدث هذا في الثلاثينات من القرن المنصرم، ثم بعد هزيمة 67، ولكن بأكثر حدّة نراه الآن، منذ أن تفاقمت أزمة الرأسمالية العالمية، وأخذت الكوارث الاقتصادية تعصف بالمكاسب الاجتماعية من تعليم وصحّة وضمان اجتماعي. هذا بالإضافة إلى الشعور بالإهانة والضيم من الهجمة الشرسة التي يقودها المحافظون الجدد والصهاينة على العالم الإسلامي من محيطه إلى خليجه. المفكرون المتنوّرون يرون أن التنازلات والصفقات السرية التي بدأ يعمد إليها الحكام في العالم العربي تمثل إجهاضا للمشروع التنموي وإيقافا لمسار المجتمعات العربية نحو الديمقراطية والتحرر (حتى وإن كان متعثرا، لا نُنكر ذلك، أو ربما مجرّد أمنية).
هناك خطأ استراتيجي خطير اقترفته الحكومات وخصوصا السّاسة المتربّعون على كراسي السلطة منذ عقود، وهو أنهم حينما وجدوا أنفسهم في مأزق لفقدانهم المشروعية ونظرا لخلوّ ممارستهم السياسية من أبسط مقومات الديمقراطية والحرية، وبعد أن حطّموا القطب اليساري الذي كان مُحرّكا تقدّميا فاعلا في الساحة الثقافية والعُمّالية، أخذوا يغازلون الإسلاميين المتسيّسين. ولكنهم أخطؤوا في الحسبان لأنهم مهما تنازلوا عن تلك المقومات المحتشمة للعلمانية في بلدانهم، ومهما عملوا لأسلمة المجتمع (بما يتضمنه من هضم لحقوق الأقليات الدينية الأخرى) فهم لا يقدرون على تحييدهم أو احتوائهم. فالإسلاميون لا يرضون بتلك التنازلات حتى وإن كانت كبيرة في الكم وجليلة في الكيف، غايتهم ومنتهى أملهم هو الاستيلاء على السلطة كلّها وفي جميع مستوياتها وتمظهراتها، مباشرة ودون واسطة لكي يتسنى لهم تطبيق الشريعة كاملة كما يزعمون أنها كانت مطبّقة في عهد الإسلام الأوّل. الوضعية، في نهاية المطاف، بقيت كما هي إن لم تزدد توتّرا وسوءا، لأن دخول الحركات الإسلامية في اللعبة السياسية وتغيير وجهة الإشكاليات المطروحة من مطلب التقدم المعرفي والنهوض الاقتصادي، إلى مطالب دينية صرفة وتطبيق للشريعة، هو ليس فقط تهميشا لقضايا الأمة العربية بل إجهاضا لتطلعاتها التحررية ووأدا لها في الصميم. تصوّروا أن المشاكل الراهنة والملحّة المطروحة على طاولة الإسلاميين في جميع بلدان العالم العربي هي اللباس الشرعي للمرأة، أهو النقاب أم الحجاب؟ في الوقت الذي يعمد فيه الآخرون إلى اكتشاف مكنونات المادّة وإعادة تجربة بداية الكون في المخابر. وفي الوقت الذي يتمترس فيه الأمريكان والصهاينة بترسانتهم الحربية لكي يقضوا على ما تبقّى من جيوب المقاومة.
أبمثل هذه العقول يمكننا أن نحقق التقدّم المرجوّ؟ أإذا وضعنا المرأة تحت ستار سميك وقيّدنا حريّة تحرّكاتها وقطعنا الأيدي والأرجل ورجمنا الناس في الساحة العامة سنحقق مبتغانا النهضوي؟
الإسلاميون يتفادون التركيز على الأهداف التشريعية التي يرغبون في تحقيقها، أعني تطبيق الحدود، وغالبا ما يمرّون عليها بعجالة دون ذكر آثارها وأبعادها اللاإنسانية. وفي حالة ما أجبروا على التطرق إليها فإنهم يستخدمون مرة أخرى المراوغة والتغييب والتعتيم، أو يحاولون تقديمها في جرعات طفيفة هيّنة القبول. العلامة سعيد رمضان البوطي يطمئن الجميع : مَن قال بأننا نودّ بتر يد السارق ورجم الزاني وجلد المخمور؟ معاذ الله، نحن بعيدون كلّ البعد عن هذه البشاعة.
لكن لا نُنكر بأنّ تلك هي حدود الإسلام، وهي من جوهره ولا سبيل لمصادرتها وإلاّ فسنصادر الإسلام برمّته. الحل هو هذا : يجب أن نقوم بحملة تربوية شاملة، أن نُوعّي جميع أفراد المجتمع، صغيرهم وكبيرهم، ونبثّ فيهم القيم الإسلامية حتى يغدو الإسلام هو مرجعهم الأوحد ويلتفّون حوله ككتلة واحدة متراصّة، وإثر ذلك تصبح العملية هينة للغاية، بحيث إن الجميع سيتقبّلون إقامة الحدود عليهم دون حرج، بل سيطلبونها هم أنفسهم برحابة صدر وضمير مرتاح (11). يعني أن مجتمع الرعب سيصبح روتينا، والتعذيب العمومي كجُرعة ماء. هذا هو لبّ الخطاب الذي يردّده الإسلاميون منذ زمان، من أبي الأعلى المودودي، إلى سيد قطب، إلى الترابي إلى البوطي. أما أكثرهم رأفة بالبشرية، مثل طارق رمضان (فيلسوف)، فهو يُنادي بتعليقها، تَصوّروا، فقط تعليق الحدود الوحشية لأجَلٍ لم يُسمّه بعد، وليس إزالتها إلى الأبد.
لا يجب التواني طرفة عين عن كشف هذه المغالطات، وتوعية الجميع والتحلي بالفطنة والحصافة أمام هذه الازدواجية الخانقة. ولا ينبغي أن نتراخى في معارضة من يَودّ أن يُرجع المجتمعات البشرية إلى عهود مظلمة، بكل الجهد الفكري والعملي الذي أوتيناه. ومن المفروض أن يتفطّن القوميون ومن يسمّون بالليبراليين الإسلاميين إلى مخاطر المهادنة أو التخاذل أمام إثارة هذه القضايا العملية، والتيقن من أن المصير المحتوم الذي ينتظر المجتمع المدني، هو العنف والتعذيب والتقتيل في أبشع أشكالها.
ولا يغني عنهم شيئا التعلل، كما فعل الكواري، بأن هذا الأمر صالح في مجتمع أغلبيّته مسلمة. وماذا نقول عن ملايين المواطنين الأقباط الذين يعيشون في مصر مثلا، والذين تفاقمت محنتهم واشتدّت عذاباتهم منذ أن صعد الإسلاميون؟ ماذا نقول عن شرائح المثقفين الملحدين الموزعين في الوطن العربي والذين يرفضون من الجذور أي منظومة دينية مقيِّدة للدستور وللتشريع عموما؟ أرى أن هؤلاء لا يملكون أية إجابة مقنعة لأي واحد منهم؛ ليست لهم أية معارضة جدّية، فالأرضية النظرية التي ينطلقون منها مغلوطة من الأساس. فعلا، لو انسجموا مع مقدماتهم، لوصلوا إلى نفس النتيجة التي يرغب فيها الإسلاميون بجميع أطيافهم، ألا وهي تطبيق الشريعة بحذافيرها وبجميع بنودها ودون تردد. ولو تجرّأ أحد على رفض هذا الحدّ أو ذاك لأغرقه الإسلاميون، هو وصحابته، في بحر من النصوص المستمدّة مباشرة من أمهات كتب الفقه على مدى تاريخها، ولو أمعن في تعنّته لطاله هو أيضا التكفير ولتُرُبِّص به حتى يأتي دوره. أن تنصّ دولة ما في دستورها على أن الشريعة، أية شريعة، هي المعين الأساسي للتشريع، فهذا أمّ المخاطر، لأنه إعلان لحرب شاملة، وتجذير لفتنة دائمة لا يمكن أن تؤول إلاّ إلى العنف والتكفير والصدّ عن أبسط مقومات الديمقراطية.
لكن الدكتور الكواري مُصرّ على أن الديمقراطية لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية، والقيد الوحيد ـ وهو في رأيي واهن جدّا فضلا عن أنه وهم صرف ـ هو السهر على عدم قيام حكومة ثيوقراطية يُسيطر عليها الفقهاء ورجال الدين عموما: « لذلك فإن مراعاة التشريع في الدول التي يكون معظم سكانها من المسلمين، لمبادئ الشريعة الإسلامية لا يتعارض في حدّ ذاته من حيث المبدأ مع الديمقراطية، طالما كان ذلك لا يقيم حكومة ثيوقراطية ولا يعطي لعلماء الدين سلطة معطلة لمبدأ الشعب مصدر السلطات ولا يقيم سيادة أو وصاية لفرد أو لقلة مهما كانت صفتها الدينية أو الاجتماعية على الشعب.
وإذا كان لي أن أحدّد أهمّ بعدين ـ يواصل الكواري ـ يتطلّب مقاربتهما حتّى تكون الشريعة الإسلامية قيداً ديمقراطياً على الممارسة الديمقراطية دون أن تمسّ مبدأ الشعب مصدر السلطات. فإنني أذكر التالي :
أولاً: لا بدّ من تحديد ما هو المقصود بالشريعة المقيدة للمُشرّع. هل هي ما جاء به الوحي ومقاصده والأحكام القطعية العامة في القرآن والسنّة. أم إنّها الفقه والفكر الإسلامي؟ وفي تقديري أنّ قبول مقاصد الوحي قيداً دستورياً على المُشرّع لا يخل بمبدأ الشعب مصدر السلطات فهو إحالة إلى مرجعية تُؤمِنْ بها الأغلبية العظمي من الشعب ولا تقبل الخروج عليها.
ثانياً: لا بدّ من تحديد الجهة التي تفصل في أمر مدى مراعاة الشريعة الإسلامية من عدمه في التشريع. وفي تقديري أن هذه الجهة يجب أن تكون محكمة دستورية تنظر في دستورية القوانين وليس أية جهة أخرى. وهذا التحديد جوهري لما يؤدي إليه من إبعاد الممارسة الديمقراطية عن وصاية فرد أو قلة من الشعب. كما يؤكد على مبدأ الشعب مصدر السلطات ولا سيادة لفرد أو قلة عليه، الذي لا تقوم للديمقراطية قائمة إذا تم تعطيلهما. وفي ندوة حوار عقدها مشروع دراسات الديمقراطية في الإسماعيلية عام 2006 أكد الدكتور عصام العريان أن الإخوان المسلمين يقبلون أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة المناط بها الحكم بمراعاة مبادئ الشريعة الإسلامية في التشريع، كما أتفق أيضاً مع المستشارة تهاني الجبالي القاضية في المحكمة الدستورية في مصر، على أن ما جاء في الدستور المصري حول كون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع أمر كاف ولا حاجة لتغييره ».(12)
العبارة الأولى التي سطّرتها هي، كما يحدس القارئ، عمومية وفضفاضة، لا تُحدّد شيئا ولا تُخصّص أي معنى، بل قد تَحتضن كل شيء ولا شيء. ما معنى مقاصد الوحي؟ وهل الدولة مرغمة على الاعتراف بشيء ميتافيزيقي غيبي على أساسه تُشغّل آلة تشريعها؟ كيف لا تَخلّ بمبدأ الشعب مصدر السلطات، إن كانت هذه التقنية، مسوّية لكل الآراء، ومُسطّحة لكل الاختلافات، بل هي عدوّة لأي نوع من أنواع الاختلاف، لأنها تُعيدنا إلى مفهوم الإجماع الذي يدوس حقوق من يخالفه من أقليات دينية أو مدنية لا ترضى بأن تَستمِدّ أعلى مؤسسة في الدولة تشريعها من نظام فقهي قروسطي. على هذا الأساس فإنه، حسب رأيي، تعب ذاهب سدى القول “يجب أن تكون محكمة دستورية تنظر في دستورية القوانين وليس أية جهة أخرى”، لأن الإشكالية تتموضع في السابق وليس في اللاحق، أي تكمن في المقدمة وليس في النتيجة. فعلا، ضع أي مؤسسة شئت، أو أي هيكل حكومي أردت، فإنك ستُفرغه من محتواه وستَنزع عنه صلاحياته، إن كبّلته ما قبليا بدستور سماويّ، بوحي إلهي أو بشريعة مستمدّة من ذاك الوحي. إن تلك المحكمة الدستورية، المُلوّح بها هنا وهناك، ليست في خيرة من أمرها في سنّ القوانين أو مراقبة من يُصدرها بحسب ما يُمليه عليها العقل والحس الإنساني السليم، والصيرورة الاجتماعية الراهنة. وإذا علِمنا بأن جميع المؤسسات المصرية، على سبيل المثال، مخترَقة من طرف الإسلاميين، فإنه ليس من المستبعد، أن لا تشتغل تلك المحكمة لصالح المواطنين، وربما لن تعمل على تفادي فرض هيمنة ملة أو شريعة معينة على أفراد المجتمع رغم اختلاف انتماءاتهم الدينية، بل ربما ستكرّس هيمنة شريعة واحدة، مستمدة من دين واحد ومفروضة على مجتمع موحد.
الثالثة هي أنه من البديهي بذاته أن الشخصيات الإسلامية، في مصر أو غير مصر، إذا طُرحت القضية على هذه الشاكلة، فإنهم حتما لن يعارضوها أبدا، أي كما قال أحد زعمائها، حسب ما أورده الكواري أعلاه : “يقبلون أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة المناط بها الحكم بمراعاة مبادئ الشريعة الإسلامية في التشريع”. أنا أتساءل : كيف يمكن لعنصر فعّال في جماعة إسلامية أن يعارض هذا الرأي؟ كيف له ألاّ يسعد من أن دولة علمانية حتى السبعينات تحوّلت بفعل خيار جيوسياسي من فرد واحد، إلى دولة مؤمنة، تغلغلت في جسمها الاجتماعي أطياف الجماعات الإسلامية واخترقته إلى أن أصبح بؤرة التطرف ومثالا يُحتذى لكل من أراد الانقضاض على الحريات المدنية؟ من نافل القول أن المحكمة الدستورية هنا، وأي مؤسسة عليا، وفي أي دولة، ستصبح لعبة في يد مجموعة من المتدينين الذين يُسيّرونها طبقا لنصوص دينية ولتشريعات قديمة بالية، تجاوزها الزمن ولم تعد ملائمة للعصر بل، حسب رأيي، ليست ملائمة لأي عصر.
التسويغ الذي يسوقه الكواري، بشأن إدخال الدين في الشؤون العامة، هو تسويغ متطابق في الكثير من جوانبه مع تسويغ الإسلاميين، أعني التركيز على تفرّد الدين الإسلامي، وعلى اختلافه الجوهري عن الديانات الأخرى وخصوصا عن المسيحية. « ومن فضل الله علينا في الإسلام أنه لا يُلزم المسلمين بقيام حكومة دينية أو سيادة مؤسسة دينية، كما كانت الحال مع سلطة الكنيسة ورجال الدين المسيحيين في الماضي، حيث اقتضى بروز العلمانية لتفصل بين سلطة رجال الدين (الكنيسة) والسلطة العامة التي تمثلها الدولة »(13). الاستنتاج المنطقي هو أن العلمانية دخيلة علينا، وبالتالي فهي مرفوضة ولا تُلزمنا بتاتا: « ولعلّ هذا الفرق بين الإسلام، كما أفهمه، وماضي الكنيسة في أوروبا هو الذي يجعلني أقول أن استخدام مصطلح العلمانية لنفي سلطة رجال الدين على الشعب مصطلح لا حاجة لنا به؛ فليس في الإسلام سلطة رسمية لعلماء الدين على الناس، وإنما لعلماء الدين مكانة معنوية مثل سائر أصحاب الاختصاص في مجال تخصصهم »(14). المثال المضادّ الذي يلوّح به الإسلاميون كعادتهم هو ماضي الكنيسة، وكأن ذاك الماضي هو بالفعل مثال مضادّ ينطبق عليها تماما. فالكنيسة لم تفرّط أبدا، وإلى يومنا هذا في حقها التشريعي، وقد ناهضت الليبرالية منذ مطلع القرن التاسع عشر لأسباب إيديولوجية، باعتبارها المزاحم الأخطر على هيمنتها على المجتمع، والتحكّم في الأجساد والأرواح. ولم تتوان أخيرا من هرسلة الحكام في الدول الغربية للتنصيص في الدستور الأوروبي على أن المسيحية هي المنبع الأول للحضارة الأوروبية. لكن المشرعين المتبصّرين لم ينصاعوا لهذا الابتزاز، وحدسوا المخاطر على حرية السلطة التشريعية من إدخال هذا البند على الرغم من أنه، لأول وهلة، يبدو بريئا ومسالما.
إن الذريعة المستديمة التي يُنزلها الإسلاميون لرفض ما يسمى بإمكانية قيام دولة دينية يحكمها الفقهاء، وإظهار اختلافهم وتقدّمهم على المسيحية، نظرا لغياب مؤسسة دينية مهيمنة ومعصومة، هي ذريعة لا تستقيم على المستوى التاريخي والواقعي. فعلا، ألا يفتح القول بأن مؤسسة دستورية تستمد تشريعها من نظام الشريعة الإسلامية، الباب على مصراعيه لتدخّل السلطات الدينية في شؤونها؟ ألا يعطيهم الحق إما مباشرة، بالإشراف على سن القوانين، أو بصفة غير مباشرة بإسداء النصائح والتعليمات والفتاوى لمن يُشرف على تلك المؤسسة، وباتباع الخطوط العريضة للشريعة الإسلامية وإقامة الحدود التي نصّ عليها الكتاب والسنة؟
أنا أعجب من تساؤل الكواري، على أقوال أحد الكتّاب الأمريكان، واسمه آرون فاوست، الذي ناقش مقاله بمجلة المستقبل العربي، حيث يقول: « لماذا يَقبل فاوست القانون الطبيعي وإعلانات واتفاقيات حقوق الإنسان قيدا على سلطة المشرّع، ولا يقبل مبادئ الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى المسلمين قيدا دستوريا على سلطة المشرّع؟ »(15). لا يمكن قبولها لأسباب نظرية وعملية عديدة : أوّلا لأن المسلمين هم أناس ينتمون إلى الجنس البشري وليسوا بكائنات آتية من كوكب آخر، أو قبيلة منغلقة على نفسها ومتفرّدة بخصوصياتها وثقافتها ودينها، وبالتالي فلهم استحقاقات أمام البشرية جمعاء. ثانيا، لأن التذرّع بخصوصية الدين والثقافة، ليس من سبيله إفراغ مفهوم حقوق الإنسان من معناه ومشروعيته فحسب، بل إلغاء المفهوم الكلي للإنسان، والذي بدونه لن يبقى لتلك الحقوق أي إلزام أخلاقي أو قانوني. فالكل يستطيع أن يتعلّل بخصوصية ثقافته وتقاليده لكي يتملص من تلك المعاهدات العالمية ويدوسها دون رادع. ثالثا، لأن الحق الطبيعي يضمن لكل شخص حريته ما دامت لا تتعدى على حرية الآخرين؛ يُوفر له مجالا واسعا لحرية الرأي والتفكير والنقد، وللمبادرة الشخصية؛ لا يُرغمه على تبنّي دين ما حتى وإن كان دين الأغلبية؛ لا يسنّ له قوانين زاجرة وخانقة؛ يحظر على أجهزة الدولة أن تُنَفذ فيه أحكاما قروسطية مُهينة لكرامته. إعلان حقوق الإنسان، نابع أصلا من روح الفكر التنويري الذي تملص ليس من سلطة كنيسة معينة أو دين معيّن، بل من سلطة الدين ككلّ، من سلطة الوحي، وكامل الترسانة الخرافية الأسطورية الملازمة. وهذا ما لا يرضاه أي دين على وجه الأرض، من تلك متعددة الآلهة، إلى الأديان التي تعتبر نفسها أرقاها وأفضلها.
إن مخاوف العلمانيين المنسجمين، من المنعرجات الكارثية التي يؤدي إليها حتما هذا التحالف الخطير بين العاطفة الدينية من جهة والوجدان القومي من جهة أخرى، لها مبرّراتها، ولها مبرراتها أيضا خشيتهم من عملية التهميش والتكفير والإقصاء التي تنتظرهم لو قُدّر لهم أن يستمسكوا بزمام الحكم في جميع البلاد العربية. فالكواري، ما فتئ يُكرّر نفس الأطروحة، ويسوغها بعبارات وتلوينات شتى، ولكن مغزاها واحد وهي ـ إن لم أخطئ ـ تصب أخيرا في مصب الإسلاميين المناهضين للعلمانية والديمقراطية. أعني أطروحته من أنه «إذا أخذنا في الاعتبار أن الإسلام في الأقطار العربية ـ الإسلامية يمثل عقيدة المسلمين وثقافة بقية العرب من أتباع الديانات الأخرى، وحتى الملحدين على أقليتهم، علمنا أنه ليس من ضرورة الديمقراطية نفي قيد مبادئ الشريعة (16)الإسلامية على سلطة المشرع في دولة عربية ـ إسلامية، أو إنكار الهوية العربية ـ الإسلامية ».
إذا التَزمنا بهذا المبدأ وجعلناه قانونا عاما، فإن في الدول الغربية ذات الأغلبية المسيحية، أو في دولة آسيوية ذات أغلبية بوذية أو هندوسية، تعيش فيها أقليات مسيحية ومسلمة وأخرى ملحدة، ليس هناك من مانع أن تتقيّد الحكومات بمبادئ دين وشريعة تلك الأغلبية، وأن تتشبّث بالهوية القومية الخاصة. ولا يستطيع أي واحد أن يُصلح من شأنها أو ينقدها أو يُندّد بتجاوزاتها وانتهاكاتها لحقوق الأقليات التي ترفض تلك الشريعة أو ذاك الدين جملة وتفصيلا. أرى أن هذه عودة إلى ما قبل إعلان حقوق الإنسان، بل تقهقر خطير نحو العرقية والقبليّة والتقوقع الذاتي والتي، بتِعلّة الخصوصية الدينية ـ القومية، تسحق كل من يعارضها أو يحاول التملّص من أسرها.
كما يقول المثل اللاتيني، “مع ناكري المبادئ ليس هناك نقاش” (cum negantibus princpia non est disputandum). النّقاش الجدّي والمُثمر، مع أي طرف كان، يُحتّم القبول بمبادئ أوليّة مُعلَنة وصريحة ومُتفق عليها ما قبليا. إن صوت العقل والمنطق والاجتماع البشري يقول لي بأن هناك طبيعة إنسانية موحّدة يتساوى فيها الجميع، وأنه لا يختلف أحدهم على الآخر بسبب اللون والجنس والمعتقد. وبأن الناس أحرار في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، وبأن الفرد في الدولة هو مواطن كسائر المواطنين، له كرامته التي يجب احترامها، ولا ينبغي أن تُداس لأيّ تعلة أو سبب كان، وبالتالي يُمنع تعذيبه في الساحة العامة، يُمنع بتر أعضائه على مرأى ومسمع الجميع، ويُحظَر إقصاؤه لخياره الجنسي أو العقائدي. لكن ليس هناك أي دين يؤمن بالمواطنة الكاملة واللامشروطة، بل جميعها تفرض اعتقادا ما، شريعة ما، وسلوكا ما، إن رفضها أي شخص أو عارضها أو انتقدها فإن مصيره إما التهميش أو الإقصاء أو القتل.
الهوامش:
1- علي خليفة الكواري، جوهر الديمقراطية لا يتعارض مع جوهر الإسلام. “رد على تعقيب الأستاذ آرون فاوست”، مجلة المستقبل العربي، عدد 374، أبريل/نيسان 2010. صص، 130 ـ 140.
2- علي خليفة الكواري، جوهر الديمقراطية لا يتعارض مع جوهر الإسلام، المرجع أعلاه (م. أ) ص، 131.
3- علي خليفة الكواري، نفس المرجع، (ن. م)، نفس الصفحة (ن. ص).
4- ن. م، ص، 132.
5- ن. م، ص، 132.
6- علي الكواري، مفهوم الديمقراطية المعاصرة، جريدة أوان (05 ـ 02 ـ 2010).
7- علي الكواري، لا تقوم الديمقراطية في ظل حكومة دينية. مناقشة لرأي الأستاذ راشد الغنوشي، مجلة المستقبل العربي، عدد 362 (أبريل 2009)، ص، 148.
8- راشد الغنوشي، الإسلام والعلمانية، “مجلة المستقبل العربي”، عدد 359، يناير 2009، صص، 178 ـ 182. الاستشهاد من ص، 179 ـ 180.
9- محمد الشرفي، الإسلام والحرية. الإلتباس التاريخي، دار الجنوب، تونس، 2000، ص، 21.
10- علي الكواري، لا تقوم الديمقراطية في ظل حكومة دينية. مناقشة لرأي الأستاذ راشد الغنوشي، م. س، ص، 148.
11- محمد سعيد رمضان البوطي ـ طيب تيزيني، الإسلام والعصر. تحديات وآفاق، دار الفكر، دمشق ط2، 2002. صص، 19 ـ 93.
12- علي خليفة الكواري: نحو مفهوم جامع يعزز الانتقال إلى الديمقراطية في البلاد العربية. مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية. 12 ـ 06 ـ 2008.
13- الكواري، جوهر الديمقراطية لا يتعارض مع جوهر الإسلام، م. س، صص، 134 ـ 135.
14- ن. م، ص، 135.
15- ن. م، ص، 135.
16- ن. م، ن. ص.
موقع الآوان