تحولات العلاقة السوريّة – الإيرانية: العامل الداخلي السوري
غازي دحمان
إصـرار المسـؤولين السـوريين علـى أن هدف زيارة الرئيس بشار الأسد إلى إيران التنسيق بين البلدين، وليست بهدف التوسط بين إيران والغرب، خاصة أنها جاءت متزامنة مع انتهاء المهلة الممنوحة لإيران للرد على عرض الحوافز الغربية، بشأن برنامجها النووي، هذا الإصرار، إنما يلاقي إدراكاً سياسياً إيرانيـاً، يرفض تقبل فكرة وجود سوريا في مقلب آخر، أو حتى في مسار آخر، مختلف عن النهج والمسار الذي أسسته إيران في المنطقة في السنوات الأخيرة.
وللحقيقة، فإن أسباب ذلك، تعود إلى أن إيران فوجئت، ليس بالتحول السوري، وإنما بمدى تقبل الغرب، وتسهيله الانفتاح على سوريا، وخاصة في ظل وجود إدارة اميركية متشددة، وارادة عربية بالضغط على سوريا، إذ من الواضح أن القراءة الإيرانية للتحركات السياسية السورية، بقيت محصورة في إطار هذه المعطيات ولم تتعدها إلى فهم كنه المؤشرات المتعددة الصادرة عن سوريا والغرب.
ومـن أهم تلك المعطيات التي ترسخت في ذهن صانع القرار الإيراني وجعلته يتفاجأ بالتحولات الحاصلة، في بيئة العلاقات السورية – الغربية:
1- الاعتقاد بأن حجم التعقيدات الهائلة التي تكتنف الملفات الشائكة بين سوريا والغرب، تجعل من أي مفاوضات بين الطرفين غير ذات جدوى، وذلك لحساسية هذه الملفات تجاه مصير النظام السياسي في سوريا برمته، أو على اعتبار أن تلك الملفات تشكل جزءاً من تفاصيل المشروع الغربي لإعادة ترتيب المنطقة، كملف المحكمة الدولية ومخاوف سوريا من تسييسها أو ملف حقوق الإنسان في سوريا، فتلك ملفات يدخل الحوار فيها في إطار ما يمكن تسميته «مكاسرة إرادات» وليس «إدارة نزاعات»، وبالتصور الإيراني فإن هذه الملفات لا تقل تعقيداً عن ملفها النووي، إذ لن تساوم سوريا على مستقبل أمنها، كما لن يقبل الغرب بالظهور متراجعاً ومكسوراً.
2- اقتناع إيران بأن التفـاوض مع الغرب، بحد ذاته، عملية معقدة جداً، لا تستطيع سوريا الاستجابة لها، وذلك لقيامها على تحقيق أكبر قدر من التنازلات، وخاصة في ظل السقف الذي كان الغرب قد رفعه للتفاوض مع سوريا، على مدار سنوات من الضغط ومحاولات العزل، وحتى التهديد.
3- إدراك إيران بأن سوريا تفتقد في هذه المرحلة إلى شبكة أمان عربية، أو أنها أُخرجت من دائرة الاهـتمام الرسمـي العربي، أو على الأقل، بعض الدول الفاعلة في النظام العربي والمؤثرة في العلاقات مع الغرب، مما يقلل من احتمال وجود دوافع غربية وازنة للانفتاح على سوريا.
لوحة المعطيات هذه، لا شك في أنها شكلت الغشاوة التي منعت إيران من قراءة الخرق الغربي المهم في المنطقة، والهادف إلى رسم “خريطة طريق” لتطويع إيران عنوة أو بقبولها، فالواضح أن إيران ليست بصدد قبول فكرة خسارتها مناطق «نفوذها» في المنطقة في ظل اشتداد أزمتها مع الغرب، ورغم تكاثف زحمة المؤشرات الدالة على حجم الاختراق الغربي لما يسمى بـ«جبهة الممانعة» بدءاً من اتفاق الدوحة الذي نجح في تدوير زوايا السياسة اللبنانية، وإخراجها من عنق الزجاجة الذي حشرت فيه لثلاث سنوات، مروراً ببدء مفاوضات السلام بين سوريا وإسرائيل، وصولاً إلى اتفاق التهدئة بين «حماس» وإسرائيل.
وما من شك في أن إيران نفسها قد ساهمت في هذا التحول، بطريقة أو أخرى، لكن هذه المساهمة، ربما لم تأتِ من ترف، أو من طيب خاطر، إنما جاءت تماشياً مع الأوضاع المستجدة، وخاصة في لبنان وفلسطين وسوريا، بعد أن وصلت الأمور في الساحة اللبنانية إلى نقطة من شأنها الإضرار بـ«حزب الله» إن لم يكن اطاحته في حرب أهلية وذلك في ظل تربص القوى الدولية بالحزب، وبعدما كاد مشروع “حماس” يصل إلى مرحلة الجفاف والانهيار، نتيجة الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على غزة وشعبها، وبالتالي فإنه أصبح من الضروري أن يقوم كل من “حزب الله” و”حماس” بالتوافق مع المتغيرات في محاولة للحفاظ على فاعليتهما ودورهما الداخلي.
أما بالنسبة لسوريا، فدع عنك كل ما يقال عن الضغوط السياسية التي تواجهها البلاد، والأثر الذي تحدثه على الاستقرار الداخلي، ذلك أن سوريا بدأت تواجه استحقاقات اقتصادية واجتماعية قاسية لا يمكن حلها إلا من خلال اتفاق سلام مع إسرائيل، فالاقتصاد السوري الهش «في حاجة إلى كل مساعدة يمكن أن يحصل عليها» والبلاد على ما يقول السوريون، تعبت واختنقت، وعانى الشعب السوري طويلاً بسبب المقاطعة السوريا والعقوبات، ولم يعد أمام صانع القرار السوري خيار آخر، ذلك أن الاحتياطات النفطية التي لطالما اعتمدت عليها سوريا أخذت في النفاد بسرعة، ويقدر صندوق النقد الدولي أن تتحول سوريا إلى بلد مستورد في غضون سنتين، كما أن «الفائض الكبير في الميزانية الذي كان يسجل قبل عقد من اليوم تحول إلى عجـز يبلغ مليارات الدولارات، والبلد الذي كان يستطيع في وقت من الأوقات ألا يخشى العقوبات الغربية، وألا يبالي بها، بات اليوم مرغماً على فتح اقتصاده وتحريره.
وفي تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً من دمشق، أكد خبراء سوريون، أن من شأن التسوية مع إسرائيل أن «تزيح من على عاتق الشعب السوري عبئاً ثقيلاً» حيث ستؤدي إلى رفع العقوبات، وهو الأمر الذي من شأنه «أن يسمح بمرور استثمارات جديدة وإمدادات التكنولوجيا المتقدمة وفرص التدريب» وبحسب التقرير فإن «الفقر يزداد، وكذلك اللامساواة، والشارع تنتابه حالة من الإحباط، كما أن الناس في سوريا «في حاجة إلى السلام مع كل الجيران».
من الواضح أن مؤشرات التحول السوري قد بدأت منذ نهاية حرب تموز بين “حزب الله” وإسرائيل، وهي الحرب التي قيل إن الحزب خاضها نيابة عن الحلف المسمى بـ«الراديكالي» في المنطقة، والذي تقوده إيران وسوريا، بالإضافة إلى منظمات «المقاومة»، والتي أدت إلى تعديل ميزان القوى الإقليمي الذي كان مختلاً ضد التحالف «الراديكالي»، وقد أعطت نتائج هذه الحرب التحالف المذكور ثقة في قدرته، ليس على الصمود، ولكن أيضاً على الانتصار، ولم يمضِ أقل من عام حتى كانت حركة «حماس» قد حسمت الصراع مع “فتح” في قطاع غزة لمصلحتها، وسيطرت على القطاع الذي أصبح رصيداً احتياطياً لتحالف يعزز قدراته ويدعم دوره في التفاعلات الإقليمية.
لكن هذه الأوضاع المستجدة في الإقليم، قد شكلت برأي المراقبين، نقطة التفارق الأهم بين سوريا وإيران، ذلك أن سوريا اتجهت لجعل هذه الإنجازات نقطة انطلاق لتفاوضها مع الغرب وإسرائيل، وسعياً للتهدئة، في محاولة لتثبت النجاح الذي تحقق، وتطلعاً إلى تفويت الفترة القصيرة الباقية لإدارة بوش في السلطة بدون مواجهات عسكرية وذلك بالتزامن مع إشارات إسرائيلية برغبة في حل النـزاع مع سوريا، وتلميحات غربية وعربية، بإعداد إستراتيجية تهدف إلى انتزاع سوريا بعيداً عن إيران.
هذا في الوقت الذي لم مكن فيه إيران، التي راحت علاقاتها تتعقد مع الغرب، بالنظر الى ما تشكله طموحاتها النووية من تهديد إستراتيجي، لما لذلك من أثر على أمن إسرائيل واستقرار الخليج العربي، تقاسم سوريا الرؤية الإستراتيجية ذاتها، ولا ترى في تلك الإنجازات سوى أنها تفتح ساحات نفوذها في لبنان وفلسطين، ناهيك عن العراق، على مزيد من أبواب التصادم مع الغرب في محاولة لتثبت مراكزها، ودفع الغرب لتقديم التنازلات لها في الملفات الخلافية، وخاصة الملف النووي وتطلعها لدور إقليمي فعال.
بالإجمال، يمكن القول إن الطارئ على العلاقات السورية – الإيرانية هو، اختلاف الرؤى في تقدير الفرص والمخاطر التي تحملها اللحظة الدولية الراهنة، وطبيعة الإستراتيجيات المناسبة للتعامل مع المتغيرات الإقليمية والقدرة على توظيفها بما يخدم مصالح كل طرف، وهذا المتغير الإستراتيجي إذا ما تمت إضافته إلى خلافات تكتيكية كبيرة في التعامل مع قضايا العراق وفلسطين ولبنان بين الحليفين سيوضح حكماً نوعية المسارات التي توجه اليها السياسات في البلدين.
يقول تيودور قطوف السفير الاميركي السابق في سوريا، والخبير بالسياسة السورية، “رغم طول فترة تحالفهما، ليس للنظامين، وأحدهما علماني والآخر ديني ثيوقراطي، أمور فلسفية مشتركة، باستثناء شعور كل منهما بعدم الأمن في ما يتعلق بإسرائيل والغرب”، ويرى أنه من “حسن الحظ أن سوريا تبدو منفتحة لصفقة عظمى” في إشارة إلى استعداد سوريا للمساعدة في الملفات الساخنة في المنطقة مقابل أثمان يمكن اسرائيل والغرب دفعها، وإن بدت مؤلمة بعض الشيء، كاسترجاع الجولان، والاعتراف لسوريا بدور إقليمي.
دمشق