ثالوث السياسة العربيّة
محمد سيد رصاص *
لم يتجاوز العرب بعد، مهمات المرحلة الوطنية، إذا أخذنا بعين الاعتبار قضايا فلسطين والوحدة العربية، اللتين لم تنجزا، هذا إذا لم تتأخّرا وتتدهورا من حيث الشروط عن مرحلة الخمسينيات. كما يمكن القول أيضاً إنّ الإدارة الأميركية الحالية، من خلال احتلال العراق وسعيها لـ«إعادة صياغة المنطقة» عبره كبوابة، قد أرجعت العرب إلى المرحلة التي كانت في زمن عمر المختار ويوسف العظمة.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ المرحلة العربية الراهنة تتحدّد وتتعين كسمة رئيسية للمرحلة، وكتناقض أساس يؤخذ أي بعد آخر بدلالته، من خلال «البعد الوطني»، أي من خلال الموقف من مشاريع الولايات المتحدة الأميركية الهادفة إما إلى الاحتلال (العراق)، أو دعم احتلال آخر (فلسطين والصومال)، أو الهيمنة (لبنان)، أوالتأثير (مصر وبلدان الخليج والأردن)، أو تغيير السياسات (سوريا)، أو مسك وإدارة المشكلات الداخلية المتفجرة من أجل إيقاع البلد في قبضتها (السودان).
في بلدان عربية تخضع للاحتلال، يمكن أن يكون «الوطني» منفرداً عامل تحديد وتعيين لحركة وحدود التحالفات والتباعدات بين القوى السياسية المحلية. أما في البلدان العربية الأخرى، فلا يمكن أن يكون الأمر كذلك، حيث يؤخذ البعدان «الوطني» و«الديموقراطي» رزمة واحدة، وذلك في أقطار تعاني غياب الديموقراطية والاستئثار والانفراد بالسلطة من جانب حزب واحد أو حاكم فرد، حتى ولو كانا في حالتي ممانعة وصدام مع واشنطن، وخاصة بعد أن أثبتت تجربة صدام حسين أن الديكتاتورية لا توفّر الشروط الملائمة لمجابهة الخارج المستهدف للبلد.
هذا يعني أن «الوطني» لا يؤخذ منفرداً في بلدان عربية، غير فلسطين والعراق والصومال، وإنما هو مربوط بـ«الديموقراطي»، حيث أثبت العديد من التجارب العربية أن التلاقيات والتحالفات من خلال المهمة الواحدة ليست ناجحة ولا قابلة للاستمرار، كما أثبتت تجربة «إعلان دمشق» عندما اجتمعت قوى سياسية سورية معارضة، ليبرالية وإسلامية وقومية عربية وماركسية وقومية كردية، على مهمة «الديموقراطية» وأنشأت تكتلاً عريضاً في 16 تشرين الأول 2005، ليعيش تناقضات كبرى رافقت مسيرته اللاحقة بسبب الخلاف بين أطرافه حيال «العامل الأميركي»، حتى انفجر «إعلان دمشق» في مجلسه المنعقد في 1 كانون الأول 2007، عندما أقصى «الاتجاه الأميركي»، ممثلاً في ثالوث (ليبرالي ــــ إخواني إسلامي ــــ قومي كردي)، الاتجاهين القومي العربي والماركسي من قيادة «الإعلان»، حيث كان الموقف من المشروع الأميركي هو مسطرة التلاقيات والتباعدات بين هذين الطرفين طوال عمر «الإعلان» حتى انتهاء أعمال ذلك المجلس.
ينطبق هذا أيضاً على السلطات التي تتلاقى معها قوى، إما من خارجها أو من محيط القوى الموالية لها أو المتحالفة معها، على مهمة واحدة، هي «الوطنية»، في وجه الأميركي المستهدف للبلد، حيث لا يوفّر التلاقي على «الجانب الوطني» وحده جبهة داخلية متماسكة في بلد ــــ أو بلدان ــــ يعاني أوضاعاً داخلية صعبة بسبب غياب المجتمع عن المشاركة في تسيير الأمور، وفي الوقت نفسه فإن الديموقراطية لا توفّر إطاراً برنامجياً كافياً إن أُخذت منفردة بمعزل عن «الوطنية»، وذلك في منطقة وقعت تحت وطأة هجمة أميركية حملت دباباتها الغازية لبلاد الرافدين برنامجاً ديموقراطياً ليبرالياً للمنطقة، لتعيش بلدانها أيضاً استهدافاً لإعادة صياغة دواخلها وسياساتها الإقليمية واتجاهاً من الخارج الغازي إلى الامتداد نحو جوانب الثقافة والتربية، إضافة إلى محاولته السيطرة على الثروات والمقدرات.
الآن، يبرز بعد ثالث في السياسة العربية، هو البعد الاقتصادي الاجتماعي، بعد أن بدأت بالتبلور والنضوج رأسمالية جديدة، أتت من رحم أو من تحت خيمة الأنظمة، التي سمّاها السوفيات في الستينيات «الديموقراطية الثورية»، وعدّوها تنهج نهجاً «لارأسمالياً»، حيث بدأت هذه الرأسمالية الجديدة بالهجوم على الفقراء والفئات الوسطى، ما يهدّد النسيج الاقتصادي الاجتماعي القائم، وفي الوقت نفسه فإنها ــــ أي هذه الرأسمالية ــــ لا يمكن أن تبني «ليبرالية في بلد واحد» على طراز «الاشتراكية في بلد واحد» التي طرحها ستالين ضدّ تروتسكي في العشرينيات، وإنما هي تحمل نزعة التحاقية بمركز الليبرالية العالمية في واشنطن، ولو بعد ممانعة وصدام مع هذا المركز لهذا السبب أو ذاك.
من كل ذلك، فإن هناك ثالوثاً في السياسة العربية، يشمل مُرَكّباً واحداً يتألف من الأبعاد الثلاثة: الوطني والديموقراطي والاقتصادي والاجتماعي، يقف في وجه ليبرالية «الخارج الأميركي»، وتلك التي يطرحها الداخل أو الدواخل في بعض السلطات وفي بعض المعارضات، والتي تشمل أيضاً ثالوثاً معاكساً يتضمن برنامجاً مناقضاً، هو متعارض مع ما يطرحه الطرف الآخر على صعيد طوابق هذا الثالوث.
المسألة الآن: إذا كانت تلاقيات وتحالفات المهمة الواحدة قد فشلت واصطدمت بالحائط، فهل يمكن إقامة التلاقيات والتحالفات على مهمتين من ذلك الثالوث، بشرط أن يكون البعد الوطني أحدهما، باعتباره السمة الرئيسية للمرحلة وتناقضها الأساسي، ما يمكن أن يؤدي مثلاً إلى تلاقٍ على مهمتين، هما «الوطنية» و«الديموقراطية»، بين قوى إيديولوجية مختلفة من اليسار واليمين ضمن إطار «خط ثالث» يقع خارج خطّي الأنظمة الممانعة ــــ والداعمة للمقاومة والاتجاه الأميركي المعارض؟ أم أنه يجب بناء التلاقيات والتحالفات على الطوابق الثلاثة لهذا الثالوث معاً؟ ثم من جهة أخرى: هل يمكن بناء التلاقي بين أطراف سياسية على أساس «الوطني» و«الاقتصادي الاجتماعي» فقط، من دون «الديموقراطي»؟.
* كاتب سوري
الأخبار