صفحات سوريةموفق نيربية

رُهاب اللغة: تغيير أم تحوّل أم إصلاح؟

null
موفق نيربية

لا يستطيع إعجابنا بالخط العربي، ولا تقديسنا للغة العربية أن يقلّصا مشكلتنا مع الكتابة بالعربية أو الحديث بها. أزمة المصطلح القديمة التي تناهى الكلام عنها يأساً وتسليماً تتضاعف في لغتنا، وهي مشكلة الآن مع الحصار الأمني ومحاولات ليّ عنق القانون بعيداً للنيل من المعارضين، وإلباسهم ثياب السجن أو الضعف والعزل في العراء.

من ذلك ما يحدث مع مصطلحات «التغيير» و«التحول» و«الإصلاح» في خطاب المعارضة، للشمّ على قفا اليد واتهامهم من قبل السلطات السائدة بالعمل على الانقلاب على النظام القائم سياسياً أو اقتصادياً والنيل من رقابهم، مع أنهم -في سورية وفي بلدان عربية أخرى- لا يفتؤون يقولون إنهم لا يريدون ذلك، ويطمحون إلى فتح الأبواب للحريات العامة وحكم القانون وتمكين الناس من المشاركة السياسية والحوار من أجل «غد أفضل».

لو كان شعار التغيير جسراً لقلب النظام القائم، لامتنع على باراك أوباما ولوج السياسة والتقدم في استطلاعات الانتخابات «الرئاسية» الأميركية. ولما كان المرشح الديمقراطي الحالي إلا في السجن يمضغ شعاره الكبير!

والتغيير فعلاً يعني الانتقال من الحالة الراهنة إلى شيء أفضل، لكنه ليس انقلاباً بالتأكيد. المسألة كلها تتعلق باللغة وتأثيرها، ودرجة المغامرة باستخدامها لحث الناس على الحماسة للمساهمة في العملية السياسية. قيل في العلوم السياسية -قديماً- إن التغيير على أربعة أنواع: الثورة بأشكالها حتى العنيفة منها، وقد انتهى زمنها. ومبادرة «القصر» إلى التغير وطرح برنامج للانتقال نحو حالة أخرى بعد الاقتناع بأن ذلك أفضل للجميع. وبروز أغلبية برلمانية منتخبة -عن جدٍّ وحرية- تكون كافية لتحويل اتجاه الأوضاع القائمة. أو الانطلاق من الإحساس بالأزمة الشاملة للسلطة والبلاد والجسم السياسي الاجتماعي كله إلى التوافق على آليات متدرجة لتغيير لم يعد هنالك بدٌّ منه ولا مناص.

وقد قال المعارضون مراراً، وحتى من يُتهم بالغلو منهم، إن الطريقة الأخيرة هي المثلى والمطلوبة. لكن ذلك لا يبدو حبل نجاة أمام من استسهل القمع، وكان خياره الثابت على جميع الأحوال.

يقفز المعارضون إلى الأمام أو الوراء أحياناً، ويقولون إنهم يهدفون إلى «التحول الديمقراطي». ويحسبونه لفظاً أخف على أذن السلطة وقلبها. مع أنه كان شعاراً في كثير من البلدان الاشتراكية السابقة، خصوصاً في أوروبا، واستطاعت تحت ظلاله الانتقال من الحالة الشمولية إلى الحالة الديمقراطية، بمساهمة مباشرة ومهمة من أكثرية أعضاء الأحزاب الحاكمة أو من قياداتها.

يقول أحد الأميركيين في قلب المعركة الانتخابية الحالية: «نسمع كثيراً هذه الأيام عن «التحول» في السياسة. وبغض النظر عن الرغبة في تغيير ما في السياسات القائمة، فإن الجمهور يشير أيضاً إلى أنه يرغب في تغيير يشمل طريقة تناول سياساتنا. لكن بقدر ما يحب أي شخص فكرة إنهاء التناحر الحزبي، فليس واضحاً بعدُ كيف يمكن أن يتحقق هذا التحول، أو ما طبيعة هذا التحول المقبل عمليا؟ لذلك من الطبيعي أن المؤسسة السياسية؛ في قلقها حول بقاء تحكمها بالتفاصيل في غمار العملية؛ ستقود بشكل متعاظم خطوات تحديدها وتعريفها».

لا مشكلة إلا في التعريف إذن؛ لكن ما يهمنا في هذا المقام هو الاختلاط بين مفهومي «التحول» و«التغيير». فكيف إذا كان من يواجهنا قد كره المفهوم الثالث (الإصلاح) الذي طالما رآه ناعماً، ورفعه على أكتافه، ثم نبذه ونبذ حتى ما استحدثه من شعار ليصرف النظر عنه؟!

للإصلاح معانٍ واستعمالات كثيرة، منذ بداية العصر الحديث؛ منها أنه «حركة تهدف إلى إزالة التعديات السياسية والاجتماعية». لكن من مرادفاته المباشرة مصطلح التغيير، وجاره مصطلح التحول. وهنالك عدد من المفكرين والباحثين يتفقون مع ما ذهب إليه الدوق ولنغتون الأول من أن «بدايتك بالإصلاح، إنما تعني أنك تبدأ بثورة». وهذا مضمون ما كان يستشهد به السجين ميشيل كيلو من حديث المرحوم إلياس مرقص.

ما يبرهن على ما نذهب إليه أنه من الشائع القول، ليس فقط بالإصلاح الاقتصادي أو القضائي أو الإداري أو السياسي، بل أيضاً بالإصلاح الدستوري. وقد يكون هذا غالباً، أو أنه أول ما تعرضه العلوم السياسية من أمثلة. فبمجرد أن يكون هنالك إصلاح دستوري سينتهي هذا التداخل في المفاهيم أو الاتهامات، لأن الدستور حجر الزاوية في البناء.

في المحاكمات السياسية الجارية حالياً في سورية مثلاً، يجري التلاعب بالمصطلحات المستخرجة قسراً من مواد القانون المظلومة، كما هو الأمر مع المصطلحات المستخدمة في خطاب المعارضة. وهذا يجعل من اللغة مطيّة لمن تغنى بها كثيرا ووضعها في مقدمة خطابه القومي القديم.

* كاتب سوري

الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى