ما يحدث في لبنان

لا هدايا سورية للجار اللبناني

عبد الوهاب بدرخان
الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية بين لبنان وسوريا خطوة تاريخية بلا شك، وستصبح تاريخية فعلاً عندما تطبق وفقاً للأصول، ومن دون لفّ أو دوران. كل شيء يكمن في التفاصيل، كل شيء يتوقف على الأداء. والعلاقات الدبلوماسية تكون طبيعية وسوية في المضمون، وليس في الشكل فقط. إنها تأسيس للبديهية على موروثٍ ألف العشوائية والتداخل حتى التماهي، وتميز أحياناً باتجاه أحد الطرفين- لبنان- لمصلحة الطرف الآخر- سوريا- بذريعة الأخوة والتنسيق والتعاون. والعلاقات الدبلوماسية تعني أولاً احترام سيادة الآخر، وخلال ستة عقود ونيف لم يسجل أن لبنان أخلّ باحترامه لسيادة سوريا، لكن سجل أن جيلاً من قياديي سوريا ربّى جيلاً من سياسيي لبنان على احتقار سيادة بلدهم وبيعها ومقايضتها بمناصب ومنافع شخصية بحتة.
محك العلاقات الدبلوماسية هو الندية. وهذه تحتاج إلى وقت لتظهر معالمها، لم نر لها أي ملمح في المؤتمر الصحافي لوزيري الخارجية. فأحدهما يعرف أنه موجود في الصورة إلى جانب الآخر، لأن الآخر اختاره، وليس في الأمر أي ندية. لذلك كانت الإجابات كلها عند الآخر الذي انصبت عليه كل الأسئلة. ولا شك أن البلدين يجب أن يتعاونا وأن ينسقا مواقفهما، خصوصاً ضد العدو الإسرائيلي، ولا بأس في أن يتناعتا بالأخوة، فهي إكسير العروبة والقومية، لكنها بالممارسة أصبحت عنواناً لأسوأ أنواع العلاقات، والأمثلة لا تقتصر على سوريا ولبنان. فالأخوة غدت لا تعني سوى أحد أمرين: إما أن يمتثل الأصغر والأضعف لرأي الأكبر والأقوى، وإما أن يكون الأول صاحب مؤامرة تهدف إلى إيذاء الثاني.
فكرة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسوريا علكت وعركت وخبزت وعجنت كثيراً كثيراً، جابت العالم وتأرجحت المواقف الدمشقية منها بين اللا والنعم، إلى أن لفظت الكلمة السحرية في باريس على خلفية احتفالات الثورة الفرنسية ولقاء الاتحاد المتوسطي. ضجت بها الدعاية، اعتبرت اخترافاً، اعتبرت تنازلاً، اعتبرت إنجازاً يفاخر به ساركوزي الذي على ما يبدو لم يكن يعرف النوم مترقباً رؤية السفارتين في العاصمتين. تلك الفكرة كانت دائماً عالقة على الحدود في حناجر المسؤولين اللبنانيين، الذين كانوا يتحرجون من ذكر العلاقات الدبلوماسية، عن حياء في ما مضى، وأخيراً عن خوف من غضب الشريك في هذه العلاقة.
وما كان يزيد الحرج أن شعاراً لذيذاً اختصر المسألة بغية إعطاء التوصيف الأكثر دقة لعلاقة البلدين: “شعب واحد”. ومن دون كل شعوب العالم كان هذا “الشعب” الوحيد الذي له دولتان، لكن البعض كان يعني ما يقوله عندما يقول “شعبان في دولة واحدة”، في طريقه لأن يقول “شعب واحد في دولة واحدة”. فما معنى السفارات عندما تكون هذه هي الحال.
واقعياً، لم يكن هذا الشعب ولا ذاك يعتبر نفسه واحداً، والأكيد الأكيد أنه كانت ولا تزال بين أفراده أخوّة وتواد وتناسب وتواصل بمعزل عن “الدولتين”، وبعيداً عن الشعارات. الأكيد أيضاً أن الشعب هنا وهناك لم يفهم لماذا يكون هناك معتقلون ينفذون أحكاماً “قضائية” سورية، ولماذا يتعذر إعطاء لائحة بأسمائهم وإظهار ملفات عما ارتكبوه ليستحقوا العقاب؟ ولماذا لا يستطيع ذووهم أن يزوروهم ، كما يحصل حتى للأسرى الفلسطينيين في سجون العدو؟ ولماذا يحتجزون أصلاً في سوريا إذا كانوا اعتقلوا في لبنان عندما كانت سوريا لها الكلمة الأولى والأخيرة في كل ما هو كبير أو صغير، مهم أو أقل أهمية؟.. وهذا يتعلق بأشخاص معترف بوجودهم، أما المفقودون وقد يكون بعضهم موجوداً فيبدو أن المطلوب فقد الأمل بعودتهم.
إبقاء هذا الملف على حاله، مع اعتزام إقامة علاقات دبلوماسية، بل معاودة إحالته على اللجان، فوّت على دمشق فرصة تقديم هدية حسن نية للرئيس اللبناني الجديد. والواضح أنه لم يكن لديها أي هدايا تقدمها إلى ميشال سليمان، ولا حتى مجرد علاقات على الخريطة ترسيماً لحدود مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وشمال قرية الغجر. كله إلى اللجان. نعم، هذه مجرد بداية “تطبيع”. لا شك أن البلدين لم يبلورا بعد رؤية جديدة لعلاقتهما المقبلة، فكلاهما يعلن أن تلك اللجان كانت ولا تزال موجودة، وإنها عملت ولا تزال تعمل، وأن النتائج لا تظهر إلا من خلال لقاءات رأسي الدولتين. وهذا اللقاء الأول قد يكون أعطى الكثير من دون أن نشعر.
كان لخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 نتيجة ملموسة ومباشرة نجدها في انزلاق لبنان أكثر فأكثر في “الوصاية الإيرانية” التي ورثت الوصاية السورية. للتذكير فقط: هناك علاقات دبلوماسية بين لبنان وإيران، وعلى رغم هذه العلاقة وفي ظلها أنشأت إيران دولة متكاملة في لبنان لها جيشها ومؤسساتها وثلثها المعطل في الحكومة وسطوتها في الشارع. مع ذلك، لابد من الترحيب مع المرحبين بالقرار التاريخي الذي أعلن اتفاق لبنان وسوريا على إقامة علاقات دبلوماسية. لكن يستحسن الإعلان أيضاً بأن معاهدة فيينا للعلاقات بين الدول قد حوّلت لتتلاءم مع الوصاية المزدوجة.

جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى