السلطة السورية تواصل سياسة الاستهزاء بالداخل
ميشيل كيلو
برزت في السنوات القليلة الماضية فكرة عدم الاستقواء بالخارج ، التي لعبت دورا كبير الدلالة وعبرت عن ما يشبه عقدا سياسيا غير مكتوب التقي عنده الحكام والقسم الأكبر من فصائل وشرائح المعارضة، ضمن لحظة تاريخية مفصلية يعلن فيها الخارج تصميمه علي التخلي عن دعمه التقليدي لما هو قائم من نظم الاستبداد في الوطن العربي، أو لبعض سياساتها، أو بعض أشخاصها وأحزابها… الخ.
وقد انتشرت فكرة عدم الاستقواء بالخارج انتشار النار في الهشيم، وصارت خطا أحمر يمتنع جسم المعارضة العربية الرئيس عن الاقتراب منه، بينما استمرت النظم في انتهاكه وعدم التقيد به، في صلاتها مع الداخل عموما والمعارضة خصوصا، أم في حساباتها ومشاريعها، بحجة تري في صلاتها معه علاقات دولية تخدم مصالح الدولة والمجتمع، فلا مفر، إذن، من رعايتها والاعتناء بها، في الشرق كما في الغرب، وفي الشمال كما في الجنوب.
هكذا، لم يغير الشعار شيئا، فالمعارضة، التي كانت تفتقر دوما إلي علاقات دولية، علاقات مع الخارج، جعلت من هذا الافتقار تعهدا ملزما، بينما واصلت السلطة العربية الاستقواء به علي داخلها، وجيرانها، ورحبت، في الوقت نفسه، بعدم استقواء أطياف العمل السياسي الداخلي جميعها به واعتبرته تعهدا يعطيها التزام المعارضة به الحق في فرض رقابة مباشرة عليها، مثلما انتهاكه حق قمعها وملاحقتها، بتهم تتصل بوطنيتها!.
بهذا، سقطت المعارضة ـ في معظم البلدان العربية ـ في فخ ترتب علي وقوعها فيه نتائج عديدة، منها أنها تعهدت بإبقاء نفسها دون علاقات عربية أو دولية وأي عمق خارجي، ووضعت نفسها تحت رحمة فهم للوطنية مسجل باسم السلطة ومخصص لخدمة مصالحها، مع ما يعنيه تقيدها به من التزام بسياسات النظام، ورسم مواقفها وبرامجها انطلاقا منها أو في ضوئها، وقبول العمل، عن قصد أو عن غير قصد، تحت سقفه باعتباره السقف الوطني الوحيد، مع ما يعنيه ذلك من حشر النفس داخل مربعات ودوائر مغلقة، وخضوع لقيود يفرضها نظام يري فيها عدوا داخليا، وغربة عن عالم يضج بالمستجدات، أنجب في سبعينيات القرن الماضي القسم الأكبر من النظم العربية القائمة، أو حدد سياساتها ومصالحها، فهي تعي تماما أن قطع صلات المعارضة معه يعود عليها بالقوة والاستقرار، ويعود علي المعارضة بالضعف والحصار.
… واليوم تتحول سياسة عدم الاستقواء بالخارج إلي سياسة استهزاء رسمي بالداخل ، تبدو اليوم جلية في النقاط التالية:
ـ بينما تعهدت المعارضة أن لا تمد يدها إلي الخارج، واتخذت بالفعل مواقف معادية أو متحفظة منه، رفضت النظم التعاون معها في أي شأن، رغم أنها كثيرا ما امتدحت وطنيتها واعتبرتها طرفا في الحفاظ علي النظام العام. ورفضت كذلك الاستجابة لأي مطلب من مطالبها، سواء منها تلك المتعلقة بالحريات أم بالإصلاح، وامتنعت عن تحقيق أي شيء مما كانت قد وعدت مجتمعها به، وواصلت ضغوطها علي المعارضة، بحجة عدم الثقة بها وبقدرتها علي الالتزام بما تعهدت به تارة، وحمايتها من الاختراقات الخارجية طورا، وحماية الوحدة الوطنية دائما وأبدا. وشككت، في الوقت نفسه، بصدق التزام المعارضة بالفهم الرسمي للوطنية، ووضعتها في قبضة القمع والبطش، بينما كانت المعارضة تمعن في التنصل من الخارج، وتربط مصيرها ومصير بلدانها بعامل لا سيطرة لها عليه، هو تطبيع علاقات السلطة معها، وإلا فتفكيكها وبناء كتلة شعبية/مجتمعية سياسية ومدنية قادرة علي ممارسة ضغوط جدية عليها، أو كلا الأمرين معا. ولأن المبادرة ما زالت في يد نظم لا تتقن أي شيء غير ضبط داخلها، فقد ركزت نظم العرب القائمة اهتمامها خلال السنوات الأخيرة علي هذه النقطة بالذات، ووجهت جهودها نحو توحيد صفوفها، وتطهيرها، بينما كانت تعود إلي الحجر علي المعارضة وملاحقتها وتشتيت قواها وتشويش رؤيتها وإظهارها بمظهر مزق متفرقة لا حول لها ولا قوة، محدودة التأثير في الداخل، معزولة عن الخارج.
ـ وبينما حدثت حركة رسمية محدودة جدا في الداخل نوعت وجددت بعض آليات عمل وإنتاج النظام، سوقها أهل الحكم باعتبارها الإصلاح المنشود، بقي الهدف الحقيقي لهذه الحركة الحافظ علي الأوضاع والحيلولة ضد تغييرها، لأن انهيارها سيفضي إلي الفوضي أو الاحتلال الأجنبي. بهذا الضرب من الاستهزاء بالداخل، يستغل القائمون علي السلطة ما زرعوه هم أنفسهم في بلدهم من تناقضات وسببوه من مشكلات، ليقنعوا الشعب بخطورة الإصلاح ويخوفوه من نتائجه، وتحولت سلطة تعهدت بالتغيير إلي جهة ترفضه حرصا علي الوطن والمواطن، وحبا بالشعب وحماية له من أخطار خارجية تستهدف الجميع، موالاة ومعارضة، فمن الضروري أن ينضوي هؤلاء في السياق الرسمي، الذي لا يجوز لأحد الخروج منه، أو إرباكه بمطالب تعجيزية تتصل بالحرية والديمقراطية، أو بتغيير هذا الجانب أو ذاك من النظام القائم، ما دام المرء لا يغير جواده خلال السباق وسلاحه خلال المعركة، والتغيير لن يقع قبل دحر الخارج، المهمة الوطنية التي تحتم الانضباط بسقف النظام والانضواء تحته دون قيد أو شرط.
ـ وبينما كان يقال إن الإصلاح هو الذي سيحمي الاستقلال، صار يعتبر مطلبا يقف وراءه أعداء يستخدمونه لهز استقرار البلد وتقويض وحدته الوطنية واختراق شعبه وإثارة الفتنة بين أبنائه. بذلك، صارت المطالبة بالإصلاح والتغيير نوعا من الخيانة، وجزءا من إضعاف الداخل، وبالتالي شكلا من أشكال التخلي عن سياسة عدم الاستقواء بالخارج. ما الذي يمكن أن تنتجه هذه السياسيات الضبطية والتحكمية والأمنية غير قمع المعارضة والتشدد تجاهها؟
ـ تقول السلطة، اليوم، إنها تتمسك بالواقع الراهن، لأنه مستهدف من جهة ولأن البلاد ستضيع بغيابه. أليس استهزاء ما بعده استهزاء بالداخل أن يعتبر نظام ما نفسه علي حق، وأن يطالب الجميع بالخضوع دون قيد أو شرط لإرادته، لا لسبب غير أنه مستهدف من الخارج؟ تري، ألم تتخلص القوي الخارجية من نظم لم تعد قادرة علي تقديم شيء لها، أو صارت عبئا عليها، مع أنها لطالما خدمتها؟ ثم، هل صحيح أن النظم التي ترفض مشاركة شعبها في الشأن العام، وتري في حريته خطرا عليها، تستطيع الدفاع عن وطنها، وأنها مؤهلة في وضعها الراهن القائم علي التمييز السياسي والاجتماعي، لحماية دولتها ومجتمعها… ونفسها؟
من عدم استقواء المعارضة بالخارج إلي استهزاء النظام بالداخل والضحك عليه. هذا هو المسار، الذي اجتازته علاقات السلطة بمجتمعها وبالمعارضة خلال السنوات القليلة الماضية. والآن، يطرح نفسه السؤال : أليس ممكنا ممارسة سياسة عدم استقواء بالخارج لا تضع المعارضة في قفص ضيق، وتحررها من الأوضاع الصعبة، التي حشرت نفسها فيها دون مسوغ جدي؟