الديموقراطية وحركة التحرر العربية
ميشيل كيلو
– بداية ، تصدت حركة التحرر العربية لمهمتين متداخلتين ، لكل منهما خصائصها ، هما: الفكاك عن الدول الاستعمارية ، وبناء دولة وطنية ، كانت محكومة بأن تصير جزئية وناقصة ، في الواقع الوطني ، ووقتية في الطموح القومي والنظرة الشعبية ، وانتقالية في الحالتين ، بين مهامها الرئيسة إبطال نفسها، وإعداد الشروط الضرورية لقيام دولة عربية واحدة ، دولة / أمة ، إقليم الدولة الوطنية ، دولة التحرر الوطني الجديدة ، جزء منها . بما أن الخلاص من الاستعمار اعتبر في ذلك العصر جزءا من ثورة ديموقراطية كونية معادية للرأسمالية ، في حين اعتبر التحرر العربي وبناء الدولة جزءا من ثورة قومية ديموقراطية ، فإن الديموقراطية كنظام قائم بذاته يطال بنى وعلاقات المجتمع والدولة والسلطة ،
بقيت غائبة عن النظرتين ، ولم تطرح أو تفهم كهدف مستقل من أهداف التحرر الأخرى ، واعتبرت منضوية أو مضمرة عموما في مسائل أعلى وأبدأ منها ، فهي ، إذن ، مجرد فرع من كل ، يندرج تحديداً في المسألة القومية ومسألة التنمية . لم تر حركة التحرر العربية في نفسها أداة وحاضنة للديموقراطية كنظام ، بل تعاملت معها باعتبارها قضية تابعة لقضايا عديدة تختلف عنها ، تتصل بالعلاقة مع الآخر وليس بالعلاقة مع الذات ، في عالم منقسم إلى معسكرين ، التحرر فيه تحرر من الخارج ، ومعركة طويلة ومعقدة تغطي سائر حقول الوجود الوطني السياسية, والاقتصادية ,والاجتماعية, والثقافية, والأيديولوجية .
– لا نريد ما سبق القول إن حركة التحرر العربية كانت معادية للديموقراطية ، بل يسعى إلى التأكيد على أنها عانت منذ تشكلها ، وخلال تاريخها كله ،من عوز ديموقراطي ، حال بينها وبين أن تفهم نفسها كحركة ديموقراطية ، وأكسبها وعيا قويا بهويتها كحركة تحرر وطني ذات أفق قومي ، أي حركة تشكل أموّي ترى نفسها بدلالة الخارجي والأجنبي ، الذي استعمرها وعمل على نزع هويتها ، ومن الطبيعي أن ترفض نظامه الديموقراطي / الليبرالي ، وتتطلع إلى تخطيه وتجاوزه ، من خلال إعادة إحياء أشكال محلية, أو اقتباس تنظيمات خارجية ، ما لبثت أن وجدتها في أنواع مختلفة من الاشتراكية ، آمنت أنها ستحصنها ضد الأخطار ، بقوة طابعها العصري والمستقبلي ، وقدرتها على تجاوز النظام الديموقراطي الغربي ، الذي ينتمي إلى ماض لا يصح تبنيه, وإعادة إنتاجه في مجال سيادتها الوطني / القومي الخاص ، لارتباطه تاريخيا بنظام الرأسمالية الإمبريالي ، الذي أخضعها ، وتريد بالتحرر منه تحطيمه وتجاوزه ، وترى أن من غير الممكن قبول حاضنته الفكرية – الديموقراطية الليبرالية – في حين هي ترفض ركائزه المادية ومؤسساته السياسية في الاقتصاد والدولة . لم ترفض حركة التحرر العربية ، في طورها الاجتماعي / القومي ، التالي لطورها البرجوازي / الوطني ، الديموقراطية بإطلاق ، بل خصت الديموقراطية الرأسمالية بالعداء ، بينما أعلنت قبول الديموقراطية الاجتماعية باعتبارها ديموقراطية شعبية ، وأعطتها طابعا اختلطت فيه العدالة الاجتماعية بمشاركة شعبية عن بعد ، تقتصر على تأييد ودعم برامج سياسية أقرتها النخبة الثورية الحاكمة باسم الجماهير, ومارستها بالنيابة عنها . هذه الديموقراطية الاجتماعية تم فصلها بصرامة عن الديموقراطية السياسية ، التي لم يحدد أحد معناها، وقيل إنها ستقوم في مستقبل ما قادم لا محالة . وفي طور لاحق ، طورت فصائل حركة التحرر الديموقراطية الاجتماعية ، الغائمة والعامة ، إلى ديموقراطية اشتراكية ، محددة ومرتبطة بقوى الشعب العامل والطبقات الكادحة ، في أعقاب التغير الذي أصاب السلطة, وحوّلها إلى سلطة اشتراكية / قومية ، حسمت أمرها وقررت تبني اشتراكية عربية ، أو طريقا عربيا إلى الاشتراكية. هذه المرحلة ، أبقت الديموقراطية كنظام المصنفة كديموقراطية سياسية ، خارج الواقع ، بل إن تغييبها اشتد لاعتبارات أيديولوجية وحسابات سياسية ، مع ما عناه ذلك من غياب للحريات العامة والشخصية ، ورفض لأسسها ومؤسساتها ” البرجوازية ” كالبرلمانية ، وحق الانتخاب والاقتراع الحر ، وفصل السلطات ، والدولة التمثيلية … الخ .
– وكانت الطبيعة الاجتماعية لقيادة حركة التحرر قد لعبت خلال طور التحرر الأول ، الذي أسميته وطنيا وبرجوازيا ، دوراً مهماً ومفارقاً في موقفها من الديموقراطية . ذلك أن هذه القيادات،التي تقاطعت فيها الأصول الإقطاعية مع المصالح البرجوازية، وافتقرت إلى برامج البرجوازية وطموحاتها ، والتي أحجمت عن الثورة على أي شيء ، وخاصة في المجال الثقافي ، حيث بقي الوعي الشعبي ما قبل حديث وما دون ثوري ، كانت مجرد قشرة رقيقة وهشة على سطح المجتمع ، خشيت نتائج الانخراط الشعبي الواسع في حركة التحرر ، واتخذت مواقف تتسم بالتوفيقية ، فهي تريد إخراج الاستعمار من بلادها ، لكنها لا تقطع معه خوفا من الحركة الشعبية . وهي تريد انخراط الشعب في النضال من أجل الاستقلال ، لكنها تخاف موازين القوى التي قد تنجم عنه . وهي تريد بناء اقتصاد رأسمالي ، دون أن يفضي قيامه إلى قيام مجتمع برجوازي للطبقات الجديدة والحديثة كالطبقة العاملة دور تقريري فيه … وهي تريد ، أخيرا ، استخدام وسائل وتقنيات ديموقراطية تساعدها على ضبط المجتمع ، لكنها ترفض الديموقراطية كنظام ، بسبب ما سيترتب عليه من نهوض شعبي ومجتمعي معادٍ للرأسمالية ولدولتها الوطنية ، وتاليا للطبقة المالكة الضعيفة، التي تفتقر إلى عمق مجتمعي فاعل ، وقدرة سياسية تتيح لها خوض صراع واسع مع شعب يريد نظاما ًغير نظامها. ومن يتأمل الحقبة الأولى ، البرجوازية والوطنية ، من حياة الدول التي أنجبتها حركة التحرر، سيلاحظ أنها كانت حقبة حريات دون أن تكون ، بالمقابل ، حقبة ديموقراطية ، يقرر الشعب فيها بحرية شؤونه . يفسر هذا لماذا كانت القوى الشعبية تسيطر على الشارع ، دون أن يكون تمثيلها في المؤسسات الديموقراطية قوياً، بما في ذلك البرلمان ، قويا ، ولماذا كان الشارع يعتبر الديموقراطية مطلبا مجتمعيا وطريقا إلى التغيير الشامل ، بينما استخدمت السلطة ” البرجوازية ” القائمة المؤسسية الرسمية ضده ، مع أنه شكل كتلة تاريخية جديدة ضمت العمال والفلاحين وأقسام كبيرة جدا من الفئات البينية . جسدت الديموقراطية ، في هذه المرحلة ، خطرا على النظام القائم ، الذي استند إلى قاعدة شعبية ضيقة ، واختلطت فيه أشكال وصيغ رأسمالية وما قبل رأسمالية في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا .
– قيدت هذه المرحلة الديموقراطية السياسية من فوق ، بالطبقة ” البرجوازية ” ومؤسساتها وطريقة حكمها ، بينما انقلبت ديموقراطية المرحلة التالية لها إلى ” اجتماعية أو اشتراكية ” ، ثورية ولا سياسية ، فغابت الديموقراطية كنظام ونمط حكم وعيش عنهما ، وظلت بعيدة عن رهان البرجوازية والطبقة الوسطى ، التي انتزعت السلطة والحكم منها لتقوم بتجربة تاريخية من نمط جديد ، في شرط تاريخي جديد ، اتخذت فيه مواقف ضد الإمبريالية في الخارج ، والرأسمالية في الداخل ، جعلتها ترى في الديموقراطية سلاحا بيد العدو ، من غير الممكن تحويله إلى سلاح في يدها, أو استعماله ضده .
لماذا غابت الديموقراطية كنظام عن حركة التحرر العربية ، مع أنها لم تغب عن لغتها وخطابها ، وكانت دوما بين مطالبها أو وعودها ؟. ثمة ، في اعتقادي أسباب فكرية ومعرفية تفسر هذه الظاهرة ، يمكن إضافتها إلى الأسباب السياسية والاجتماعية ، التي ذكرتها خلال عرض مرحلتي التطور ، اللتين قلت إن التحرر مر فيهما . هذه الأسباب هي :
أننا لم نعرف في تاريخنا القديم وتاليا الحديث الليبرالية كفكرة ، وإن عرفنا أحيانا التسامح كممارسة.أما افتقارنا إلى الليبرالية كأرضية عامة ينهض عليها وجودنا، فيرجع إلى عدم اعتراف تراثنا الديني والفكري بالإنسان كفرد ، كذات تتعين بالحرية وليس بأي شيء آخر ، كالدين والملكية والعرق … الخ . في تراثنا ، ويستعاض عن الإنسان بالمؤمن ، عن الذات الحرة بالذات المؤمنة المستعبدة لله ، التي تجسد غربة الإنسان عن نفسه وعن العالم ، وتمركزه ليس حول ذاته فتحوله إلى محور وجود يصنعه ويعيه ويخضعه لحاجاته ، بل تمركزه حول إله اغترب عنه ، سلبه حريته وقدرته على تعيين إنسانيته بنفسه . بقول آخر : إذا كانت الليبرالية غير كافية للتحرر الإنساني ، فإن التحرر ، وخاصة منه التحرر الديموقراطي ، تحرر الفرد والمجتمع ، مستحيل في غيابها . هذه نقطة أعتقد أنها لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام والحوار ، وأن غيابها عن وعينا لعب دوراً في غياب الديموقراطية عن واقعنا .
أن الطبقات التي تبنت نظرية الليبرالية في السياسة كانت معادية للديموقراطية ، من حيث أنها حصرت رؤيتها في فرد مجرد ، لا وجود له في الواقع ، بينما أخرجت الإنسان ، الفرد النوعي والواقعي من الوجود, وحرمته من حقوقه جميعها ، بما في ذلك حقه في الملكية والحرية والحياة ، وقد ترتب على ذلك رفض وجوده في الدولة كمواطن ، وتاليا رفض أساس وجذر الديموقراطية . لهذه السبب المهم ، كان من الطبيعي أن يناهض أنصار الليبرالية من ملاك الأرض, ورأسماليين الديموقراطية ، وأن يقطعوا العلاقة بين الليبرالية وبينها ، ويرفضوا ، جريا على عادة أجدادهم العرب ، الاعتراف بالإنسان كذات تتعين بحريتها ، عينوه هم بالملكية أو بالموقع أو بالامتياز ، فصار باشا أو مدير مصنع, أو مصرف ,وأقلع عن أن يكون إنسانا ، وفقد حقه في المساواة والعدالة والحرية . بذلك ، تحولت الليبرالية عندنا إلى أيديولوجية رجعية ومعادية للإنسان ، مع أنها قامت في أوروبا بذريعة حريته المطلقة ، وزعمت أنها تريد بناء النظام الاجتماعي عليها . أما القوى والطبقات الفقيرة والمتوسطة الصاعدة ، فقد شاركت الليبراليين موقفهم من الإنسان الفرد ، حين اعتبرته كائنا طبقيا ، جعلت لبعضه حقوق الإنسان والمواطن وحرمت بعضه الآخر منها ، لا لشيء إلا لأنه برجوازي أو إقطاعي أو برجوازي صغير .. الخ . هذه القوى ، التي عادت الليبرالية كنهج فكري وكسلوك فردي ، كان من الطبيعي أن تناصب الديموقراطية السياسية – التي أسمتها الديموقراطية البرجوازية – العداء ، وأن تؤمن بديموقراطية طبقية تقتصر على الطبقات الكادحة ، أسمتها الديموقراطية الشعبية، التي اعترفت بالشعب وأنكرت الأفراد الذين ينتمون إليه . إذا أضفنا إلى ما سبق أن تجارب التغيير قادتها الدولة بالنيابة عن المجتمع وبتفويض مزعوم منه ، وأنها لم تكن تجارب مجتمعية للإنسان فيه مكان ودور ، وضعنا يدنا على سبب ثالث لغياب الديموقراطية عن حركة التحرر العربية ، فالديموقراطية إما أن يكون حاملها المجتمع بصفته “هيئة مواطنين أحرار “( كارل ماركس ) ، أو أنها لا تكون أبداً، وهي تبقى مرتبطة بالمجال السلطوي ، وفي أحسن الأحوال السياسي ، إن كان حاملها الدولة وحدها ، فكيف إذا كانت دولة تمثل شريحة ضيقة ومحدودة من المالكين ، يديرها حكام معزولين عن الشعب ، يجعلونها عرضة للأزمات في أي وقت .
أن الديموقراطية لم تستخدم كمفهوم تحليلي إلا في حالات نادرة ، و قد استخدمت على الدوام تقريباً بوصفها جزءاً من أدوات الأحزاب والقوى الطبقية ، التي قصرت استخدامها غالبا على جوانب من المجال السياسي دون غيره . لم يحلل أحد الواقع العربي انطلاقا من الديموقراطية ، ولم يخضع نفسه وأنشطته وبرامجه لمتطلبات الديموقراطية كنظام قائم بذاته ، بل أخضعها العقل العربي السائد لغيرها من مهام ومفاهيم ، وقيدها أو تخلى عنها ، بمجرد أن أضرت بمصالح معينة ، طبقية وفئوية ، أو تعارضت مع مهام تحررية رئيسة ، مثل الوحدة والاشتراكية . غابت ثقافة الديموقراطية عن الفكر والسياسة ، وغابت ضرورتها عن الوعي العام ، فبقي وعيا ما دون ديموقراطي ، ما دون حديث وعصري ، وغرق في الطبقية أو الفئوية أو الجزئية ، وأغرق حركة التحرر العربي في النخبوية والتجريبية والسلطوية ، ولعب دوراً حاسماً في فشلها .
تجاوزت حركة التحرر العربية الديموقراطية ، لاعتقادها أنها تابع فقير للمهام الكبرى ، التي عليها العمل لتحقيقها . ولم تفكر بما يجب فعله لبناء وعي ليبرالي وديموقراطي يقاس به نجاح وفشل أي مسعى سياسي أو اجتماعي . وفاتها أن تجعل من الديموقراطية موضوع توافق تاريخي وإجماع مجتمعي يتخطى الخلافات الحزبية والصراعات السياسية . واليوم ، وبعد أن جربت الحركة الاشتراكية وفشلت ، وانتهجت سياسات قومية وفشلت ، يبدو وكأنها ترد الاعتبار للديموقراطية، ولكن ليس لأنها نظام ، بل لكونها ، من حيث المبدأ ، أداة تساعد في كبح الإسلاميين ومنعهم من أخذ السلطة ، فكأننا لم نتعلم شيئا من تجارب العقود الماضية ، التي فشلت خلالها حركة التحرر العربية وسقطت ، لأنها – بين أسباب أخرى – تجاهلت الديموقراطية كحاضنة تاريخية لأي تحرر أو تقدم ، وأخفقت في تنمية الوعي بها ، وفي البحث عن أشكال ملائمة لها تناسب بيئتنا ، لكنها تقوم على أسسها المعروفة ، الصالحة لكل زمان ومكان