لا عزاء للمثقفين
ميشيل كيلو
شاع لحظة وفاته، أن سعد الله ونوس أوصى بعدم الصلاة عليه في مسجد القرية، حيث شيخ كان شرطيا طرد من عمله بسبب الفساد وعندما وصل جثمانه إلى كيلو مترات قليلة من حصين البحر، قريته الواقعة على الساحل السوري، تلقفه شبان في أوائل العشرينيات من أعمارهم، تدل رؤوسهم الحليقة وسواعدهم المفتولة على هويتهم كعناصر أمن، وأخذوا يرددون جملة واحدة هي: لا إله إلا الله، سعد الله حبيب الله.
وحين وصل الجثمان إلى القرية، كانت أصداء القرآن الكريم تتردد في أرجائها، بينما حملت أكاليل الزهور أسماء رؤساء فروع الأمن والمنظمات الحزبية والشعبية، كأن سعد الله كان ضابط مخابرات أو حزبيا قديما. بعد وقت قليل أمضاه الجثمان في بيت ذويه، نقل إلى مسجد القرية، حيث خاطبه شيخه الشرطي مطمئنا: نم قرير العين يا سعد الله، فوالله لولا القيادة السياسية في هذا البلد المؤمن لهلكت العروبة وهلك الإسلام. أخيرا، عند وصوله إلى المقبرة، وقف وزيران أمام عدسات التلفاز لتقبل العزاء، يتوسطهم والد الراحل، الذي بدا عاجزا تماما عن الوقوف. لكن معاناة الرجل لم تطل، لحسن الحظ، فقد غادر الوزيران القرية بعد دقائق، مطمئنين إلى أن الوقت القصير، الذي أمضياه فيها، أكمل مراسم تحويل مراسم موت سعد الله إلى مراسم رسمية وشعبية، ووضع يد السلطة على مبدع كان ضدها، عاش على كيفه، فكان من الأهمية بمكان أن يموت على كيفها، ويصير بغيابه واحدا من جماعتها. بعد أسبوع، فتح مجلس عزاء في المركز الثقافي في حي المزة بدمشق، فلم يأت أي مسؤول رسمي إلى العزاء باستثناء الأستاذ عبدالقادر قدوره، رئيس مجلس الشعب آنذاك. بينما أتحف رئيس اتحاد الكتاب العرب، الذي لم يزر سعد أو يهاتفه ولو مرة واحدة طيلة نيف وأربعة أعوام من المعاناة والمرض، القراء بحديث جعل المسرحي الكبير (مولفا) وليس مؤلفا، وأنكر امتلاكه أية موهبة غير القدرة على توليف ما كان يسرقه من مواد تاريخية وثقافية! فيما بعد، حاولت الفنانة فايزة شاويش، زوجة سعد الله، تأليف فرقة مسرحية مع عدد قليل من زملائها من نقابة الفنانين، لعرض أعماله، فاتصلت بها جهة عليا تأمرها بضرورة صرف النظر عن ذلك، رغم أن مسعاها لم يكن يتعارض مع نظام النقابة الداخلي. بهذا الأمر، اكتمل موت سعدالله، وعادت أعماله إلى عالم النسيان، باعتبارها أعمالا محظورة.
مرض ممدوح عدوان طيلة نيف وثلاثة أعوام، عالجته خلالها رئاسة الجمهورية، مثلما سبق لها أن عالجت سعدالله. في هذه الحالة أيضاً، لم يقم أحد من (اتحاد الكتاب العرب)، وهو منظمة شعبية كان ممدوح عضوا قياديا وبارزا فيها، بزيارته، باستثناء مرة واحدة تقدم كبير بالنسبة إلى سعد الله استمرت ربع ساعة، دار الكلام خلالها حول ألوان مبنى الاتحاد. ولم تتم الزيارة الميمونة إلا عقب حديث أدلى به ممدوح، ذكر فيه أن أحداً من الاتحاد لم يزره أو يسأل عنه عندما غادرنا الشاعر والروائي والكاتب المسرحي والمترجم والمؤلف، جاء المسؤولون واصطفوا بضع دقائق أمام عدسات التلفاز، فصارت الجنازة رسمية وشعبية، وصار ممدوح من جماعتهم وللعلم كان ممدوح قد تمنى أن يطلب إليه كتابة زاوية أسبوعية في إحدى الصحف السورية، لكن أحدا لم يستجب لأمنيته، كما لم تخطر هذه الفكرة على بال أحد من المسؤولين في الإعلام السوري، الذي عمل فيه طيلة ثلاثة عقود ونصف.
أخيراً، مرض أنطون المقدسي طيلة أعوام أربعة، بعد قليل من إنهاء عقده في وزارة الثقافة بطريقة تفتقر إلى أدنى حدود اللباقة والأخلاق. ومع أن الراحل الكبير كان كاتب وثائق الحزب العربي الاشتراكي ووثيقة توحيد هذا الحزب مع حزب البعث العربي، التي تأسس بها حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم الحالي، وكان عضوا في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب قرابة نيف وعشرين عاما، فإن أحدا من الحزب أو الدولة أو الاتحاد لم يزره أو يبدي أي نوع من الاهتمام به، بما في ذلك وزارة الصحة. وحين فارق الرجل الدنيا موصيا بألا تضع السلطتان السياسية والكنسية يديهما عليه، قاطعته هاتان، ولم يجد أحد منهما، باستثناء وزير الإعلام الدكتور مهدي دخل ورؤساء المؤسسات الإعلامية، أن العزاء فيه واجب إنساني ووطني، وأن وصيته لا تعني رفض العزاء الشخصي من أي إنسان كان ليس صحيحا، على كل حال، أن السلطة قاطعت تماما جنازة الراحل الكبير، فقد بعثت عقيدا في القوى الجوية ومعه ثلاثة عناصر، وكلفتهم بمواكبته إلى مثواه الأخير، وبالفعل، حضر العقيد وصحبه إلى الكنيسة لتسجيل أسماء الحاضرين، ثم رافقوا الجثمان إلى المقبرة، حيث واصلوا مهمتهم هناك.
ثمة إضافة لابد منها تتصل بأحزاب المعارضة، التي ادعت دوما احترامها للمقدسي ولدوره الوطني والديمقراطي، لكن حضورها كان معدوما تماما في جنازته وخلال العزاء فيه ترى، هل ستلتقي المعارضة من اليوم فصاعدا مع السلطة في موقفها من المثقف، فيكون لقاءها بداية المصالحة الوطنية العتيدة بينهما!
لا يحسد المثقف السوري على مكانته ودوره، لأنه وحده يملك المعرفة والوقت لصياغة مشروع فكري معرفي يمكن ترجمته إلى مشروع سياسي والشعب لا يشعر بوجوده، ولا يكترث بمصيره، لأنه لم يعد يشعر بوجوده الذاتي، بعد أن فقد ملكة الاهتمام بشؤونه أو بالشأن العام، وزالت لدى أبنائه الرغبة في مشاركة الآخرين مشكلاتهم، وانحصر اهتمامهم بتدبير ما يكفل استمرارهم الجسدي بينما المثقفون فرقاء، أحبطهم فشل تجارب العرب المعاصرة، التي كان لهم دور كبير فيها، وأصابهم بالشلل تداعي ما آمنوا به من نظريات وما اتخذوه من مواقف سياسية وعملية، وهمشتهم مصاعب الحياة، التي حولت قسما كبيرا منهم إلى أيديولوجيين وإعلاميين وجماعة سلطة، في حين تزايدت غربتهم عن العالم المعاصر، الذي يتغير بسرعة عاصفة، بينما هم يزحفون أو يدبون دبيبا بطيئا على الصعيدين المعرفي والفكري.
ويزيد الطين بلة أن عدد المثقفين، الذين حملوا الهم العام وناضلوا ضد قليل، وأن هؤلاء يتعرضون لضغوط متنوعة الأهداف، تنصب عليهم ليل نهار، تبدأ بتشويه سمعتهم، ولا تنتهي بمحاولات شرائهم أو قطع لقمة الطعام عن أفواههم، وبإسكاتهم بألف طريقة وطريقة.
أخيرا، ما جدوى التعاون مع المنظمات الشعبية، إذا كانت قد أخذت موقفا شديد العدائية من جميع من تعاونوا معها، وهاجمتهم وشوهت سمعتهم بعد موتهم، إكمالاً لخطة تجعل النسيان يطويهم، التي بدت على خير وجه في منع تشكيل فرقة في نقابة الفنانين لعرض أعمال سعد الله المسرحية، وتجاهل تراث ممدوح عدوان وانطون المقدسي وغيرهم كثير، الذي يجب أن يموت بموتهم.